ومن عجائب نبوغ غصن البان أنها تولت بنفسها إدارة الموسيقى لرقصتها الجديدة، فكانت في أوقات التمرين تعلم الجوق معاني حركاتها وأسرار وقفاتها ونبراتها ونقلاتها، فيصحبها العود والكمنجة بما يلائم من الأنغام، وكانت إذا شاءت أن تعبر عن الفرح برقصها تسكت الكمنجة وتدير بقية الآلات ناصحة معلمة قائلة: «هذا بطيء، هذا بليد، أسرع يا عواد ولا تتبالد، اضرب الأوتار ولا تخش أن تكسر الريشة.»
ثم إذا مثلت دور الحزن تسكت العود وترقص على أنغام الكمنجة الرخيمة، حتى إذا وصلت إلى سكرة الحب توعز إلى صاحبي الدف والقانون أن يشاركا بقية الجوقة.
غصن البان مخترعة الأنغام! هذه من مظاهر ذكائها التي لم يكن أحد ليتوقعها، فأدهشت مدير الكازينو وصاحبها، وأدهشت كذلك الموسيقيين.
وفي تلك الليلة وقف الشاعر على المسرح فتلا قصيدته ثم بدت غصن البان حافية في قميص متسع شفاف مهلهل، إذا مسكت طرفيه بيديها المنبسطتين تبدو فيه كالفراشة المجسمة أو كطير من أطيار الجنة، فجعلت تنقل نقلات خفيفة، بطيئة، وهي غاضة الطرف، واجلة القلب، كأنها تجس الأرض جسا، أو كأنها تكتب برجليها كلمات الحياء والخوف والتردد، فمثلت الابنة الوحيدة الغريبة وهي تدنو من حياة الاجتماع! من معترك الحياة، فتدخل واجفة واجلة، فتخف طربا لأول مشهد تشاهده من مشاهد الأنس والسرور، فتصل تدريجيا وقد رفعت يديها أمامها ترقص أناملها النحيفة اللدنة إلى جنة الحب وبهجة اللذات، والعود والقانون والدف ترافقها بالأنغام، ثم تقف فجأة كمن تحلم حلما مرعبا فتستفيق مذعورة، فتسكت آلات الطرب وتسكن جوارح الراقصة، فتقف إذ ذاك وقفة معناها الأسى، ويسمع صوت مغنية وراء الستار تغني بصوت رخيم شجي: «يا غزالي كيف عني أبعدوك؟» وغصن البان تحرك قميصها أمام وجهها وحول رأسها كمن تندب حظها، ثم تدخل طورا آخر على رنات العود والقانون وهي تتمايل كشجر الحور في فصل الخريف وذراعاها كزنبقتين هزهما النسيم تنقل نقلات كأنها أبيات من ديوان الحماسة، فترفع ركبة تلو الأخرى حتى قبالة صدرها وهي تهز رأسها وكتفيها مسرعة مقبلة مدبرة، فتحجب وجهها بطرف قميصها تارة وتارة تبديه، كأنها تداعب الأقدار، وما هي إلا فترة حتى تظهر فيها راقصة الهيكل غانجة راغبة هائجة، فيحل شعرها الأسود فيتماوج على منكبيها وجوانبها، وتحتدم النار في عينيها فتبدو كأميرة الجان متمردة على القضاء، فتشرب كأس الغرام ثانية حتى الثمالة.
وتتوارى أنغام الكمنجة في نقرات الدف ورنات العود والقانون، وتمسي حركات غصن البان ارتجاجا متواصلا كارتجاج النور أو الأثير، لا يفصل بين الواحدة والأخرى فاصل ما، كأن نفسها ترقص في الفضاء أمامها وجوارحها كلها تتسابق إليها في سكرة الحياة بل في رقصة الموت، وتتوارى قليلا قليلا وهي شاردة مفترة، جامحة، سافنة.
فضجت التياترو بالتصفيق وهتاف الإعجاب. - أحسنت أحسنت! يعاد! يعاد! برافو، برافو، كمان كمان.
واستعيدت غصن البان مرات عديدة تلك الليلة.
وبعد انتهاء دورها ارتدت ثيابها وقلبها يخفق طربا وغما، فبعثت تستدعي مصباح أفندي فجاء يهنئها ويقبل يدها، فقالت تخاطبه: بل أنت أجدر بالتهنئة. - هذا من لطفك، ولكنك ربة الفن، وما أنا إلا واحد من عبادك، سحرت الناس، فتنت الناس، تيمت الناس. - ولكني يا مصباح منقبضة النفس، الكآبة تملأ قلبي، أفرغت نفسي للناس فلم يبق فيها شيء لي، آه، أواه.
فنظر إليها مصباح أفندي عاطفا واجدا.
فأخذت غصن البان يده تضغط عليها، ثم قالت: تعال معي.
Shafi da ba'a sani ba