رمت مريم بنفسها على الفراش تلك الليلة وهي تضحك ضحكة اليأس، وتقول: هل هو يا ترى مثل القس جبرائيل؟ هل هو مثله؟ ثم صرت بأسنانها، ولعنت حظها، وما نامت إلا قليلا فنهضت على عادتها باكرا وهي خامدة الذهن، بطيئة الحركة، ثقيلة القلب، سيئة الخلق، حردة ناقمة، فجاءت سيدتها تؤنبها وقد علمت أنها تأخرت ليلة البارحة في عودتها إلى البيت. - هذا مضر بصحتك يا بنتي ومشين بسمعتك. - ليس أمري في يدي مدام. - أنا مسئولة عنك، جئت بك إلى باريس. - وندمت؟ دعيني إذن أرجع إلى بلادي. - هل أنت مريضة يا مريم هل تشكين ألما ما؟ - لا مدام، أنا حزينة، ولدت شقية، وسأعيش شقية، وأموت شقية، ولا أقدر أن أعلم المسيو فرنسوى ولا ... ولا ... أحسنت إلي مدام فلا أسيء إليك، ولا أقبل ما لا ينعمني ويشقيك، ابنك مدام ابنك ... - فهمت يا مريم، طيبي نفسا يا بنتي، سأنظر في أمرك وأمره.
وكانت مدام لامار قد علمت بمكنونات ابنها ولواعج قلبه من الخادمة شرلت ومنها أيضا، فاحتالت عليه في إبعاده عن مريم إلى أن تنظر ما تصنع في أمرها، بعثته ليتفقد شئون كروم لها في أواسط فرنسا، فسافر المسيو فرنسوى وهو لا يدري ما وراء سياسة أمه، ودع معلمته آسفا متأوها ووعدها أن يعود بعد أسبوعين.
وجعلت مدام لامار تفكر في مصير مريم، ليس من العدل أن تطردها من البيت، وليس من الحكمة والرحمة أن ترمي بها إلى البحر في باريس، بلا قيد ولا شراع، أتعطي اسمها إلى سمسار الخدم في المدينة فيدخلها بيتا تخدم فيه؟ أتبعثها إلى كرومها فتخدم هناك مع الأجراء؟ أتقدمها إلى صديقة لها سألتها عما إذا كانت تعرف أحدا يعلمها العربية؟ أو ترجعها إلى بلادها، لقد حارت مدام لامار في أي من هاته الطرق تتبع.
وقد مر الأسبوع ومريم تفكر تارة في اتخاذ الرقص مهنة لها وتارة في نجيب مراد، وفي كلتا الحالين وطنت النفس على الخروج من بيت مدام لامار، ومن طباع مريم أنها إذا ملت أمرا فلا تقيم عليه، وإذا كانت غير راضية في بيت فتهجره، وشد ما كان غيظها لما مر يوم الجمعة ولم تر فيه ابن بلدها، فقالت في نفسها: هل ملني فهجرني؟ حفظه الله! سأبقى في باريس وسأصير من راقصاتها المشهورات.
ولكن نجيبا كان في لندرا يقضي بعض حاجات تختص بأشغالهم المالية بسوريا، فأقام هناك أسبوعا وعاد إلى باريس.
وفي صباح الجمعة من الأسبوع الثاني بعد سفر المسيو لامار كانت مريم خارجة من البيت قصدها التنزه فالتقت بنجيب في الباب وهو قادم إليها، فاستأنست به وفرحت للقائه. - ظننتك سافرت من باريس. - ظنك في محله، وقد كتبت إليك من لندرا. - لم يصلني كتابك. - عجيب! ولكن من حضر ما غاب، تفضلي. - إلى أين؟ - إلى جنة عدن. - جنة عدن؟ سمعت معلمتي في الدير تقول مرة: إن جنة عدن في بلادنا. - في بلادنا أخبارها وفي باريس آثارها.
ولما استقر نجيب في مركزه وأقفل الباب أدار السائق دولابه ونفخ بوقه وسارت السيارة على رحمة الله تتخلل صفوفا من العربات في شوارع يموج في جانبيها مزدحم من البشر لا نهاية له ولا بداية. - قد شاهدت كل متاحف باريس وآثارها وأكبر مسارحها وأهم قهاويها وأغرب ما فيها، بقي علي أن أريك ما لم تريه بعد وما لم يره إلا القليلون من السياح وأفراد من كبار الفرنسيس. - وما هو يا ترى؟ - هو سر لا يفتحه غير هذا، واستخرج من جبيه مفتاحا أصفر صغيرا، ثم قال: هذا المفتاح عزيز عجيب، لا يظفر به إلا الأمراء والأعيان وكبار المأمورين والسياسيين، وبعض الأميركان المجانين الذين يتقيئون أموالهم أمام الأجانب، هذا المفتاح قد يكون حمله أحد رؤساء الجمهورية أو أحد أعضاء «الأكاديمي» أو أحد الوزراء أو أحد ملوك أميركا، فاعلمي أن في هذه المدينة - في بعض زواياها الشريفة - جنات لا يدخلها غير البله الأغنياء أو أبناء باريس الكبراء. - ومن أي الطبقتين أنت أيها السيد الشرقي؟ - هذا يوم جد لا يوم مزح، ها قد وصلنا انزلي هاتي يدك.
وكانت قد وقفت السيارة في زقاق مظلم ضيق مهجور أمام بيت ظاهره حقير وبابه وشبابيكه مقفلة كلها. - ويلي إلى أين تسير بي، أهذا بيتك يا نجيب؟ - بيتي في النزل الذي تعرفينه، وهل سقطت إلى هذه الدرجة في عينيك لتظني أني أقيم في مثل ذا البيت وفي هذه الناحية؟ - وكان قد فتح نجيب الباب بذاك المفتاح السري الصغير. - ادخلي، ادخلي، ما بالك؟ أتخافين وأنا دليلك؟
فدخلت مريم وإذا هي بين بابين مقفلين في صفة مظلمة باردة، ففتح نجيب الباب الثاني وصعد وإياها درجا سجاده الأحمر الثقيل يخسف تحت الأقدام، وعلى قاعدة درابزون البراق تمثال فتاة عارية تحمل قنديلا كبيرا بيديها المرتفعتين فوق رأسها، وفي زاويتي الصفة - صفة الدرج - تمثالان من الرخام يمثل الواحد منهما شابا رومانيا يحمل أكرة كان يريد رميها، ويمثل الثاني امرأة تخلع ثوبها وقد بدا نصف جسمها عاريا من إحدى كتفيها إلى قدميها، وعلى رأس الدرج تمثال آخر يمثل كاهنا يحرق بخورا أمام إلهة من آلهات الأقدمين، وعلى الجدران المبطنة بورق فخم من لون السجاد صور شتى تمثل فصولا من كتاب الحب الأبدي.
صعد نجيب الدرج ولم يحفل بهذه التحف والآثار كأنه ألفها، وأما مريم فلما شاهدت الصور وقفت خائفة واجفة. - ما هذا، وما ذاك؟ لا، لا، لا أحب هذا البيت لا أحبه، دعني أخرج منه، دخيلك. - أتروعك هذه الصور؟ ألم تشاهدي مثلها في قصر اللوفر؟ - ولكن ذاك محل عمومي آهل بالناس، وهذا البيت مهجور - ربي! أخاف من ذي السكينة، تذكرني بسكينة الدير، وسكينة القبور، أخاف من نفسي ومنك فيه، دخيلك، لنخرج من هنا. - كما تريدين، إذا كانت الصور ترعبك فادخلي هذه القاعة الخالية منها.
Shafi da ba'a sani ba