فخرجت الست هند وهي تقول لمريم التي همت أن تخرج أيضا: مكانك يا لعينة مكانك!
ثم أقفلت الباب واحتفظت بالمفتاح، وصاحت بالجيران المجتمعين تحت السطح اتركوا الجثة مكانها وأخبروا البوليس.
أما يوسف أفندي فراح يطلب عارفا في غرفته فلم يجده، فسأل لطيفة عنه فقالت: رأيته يلبس ثيابه، لعله عرف بما جرى راح يستدعي الطبيب.
فقالت الست هند: أسرعي أسرعي! وقولي لعارف أن يرجع حالا لا لزوم للطبيب.
فخرجت لطيفة وهي لا تدري ما تصنع.
وبعد نصف ساعة وصل إلى بيت يوسف أفندي مبارك ثلاثة من رجال الشحنة، فدلتهم الست هند على الجثة وفتحت لهم الغرفة المحبوسة فيها مريم.
الفصل السادس
من أرهب مشاهد الدنيا وأكملها في الساميات والسافلات معا مشهد في بلادنا، تتناهى عنده أغرب الصفات الطبيعية والسماوية والبشرية، مشهد منقطع النظير منحصر في بقعة من الأرض صغيرة، يجمع بين ما تدانى من أطرافها أكبر المتناقضات في مظاهر الوجود، من أغوار وأنجاد، ومن نيران تشتعل تحت الينابيع، وثلوج تذوب فوق الجبال، ومن مجد قدسه التاريخ وقداسة دنسها الإنسان، ومن إلهيات في أنوار الطبيعة تتهادى، ومعرات تعتس في ظلمات البشر، ألا فإن هناك درجات للنشوء والانحطاط في الطبيعة وفي النفس، أولها مثل آخرها باد للعيان، بل هناك هيكل أشعلت فيه مشاعل الحقائق الروحية وصفرت فيه رياح الأضاليل، سمعت فيه كلمات الله، وسمعت فيه قهقهة إبليس، فتجسدت الأولى في الطلول والآثار، واستحالت الثانية مدنا وأديانا وحكومات.
ألا في سبيل الله جمالك، أيتها البحيرة الزرقاء العين، الذهبية الجبين، الفضية الجوانب، الباسطة أذيالها تحت رجل طبرية الموحلة السوداء، المستظلة في ظلال الجبال الخضراء والبيضاء، الكامنة في قلبها البراكين، الزاهرة على ضفاتها الدفلى والفل والخزام، الشاخص إليها «الهرمل» وقد اعتم بالثلج وتسربل بالغيوم، المدفون حولها المجد والصلاح، وقد حجب الشوك ضريحهما وحنى فوقهما الشوكران، عروس الأردن هي تأخذ منه وتعطيه، فتستحيل الشريعة فيها حبا، والناموس جمالا، فيها يبتدئ سلم الطبيعة وسلم النفس، وفوقها درجات لتاريخ الأرض تقارن درجات في تاريخ الإنسان، فدرجات في أغوار الحياة وحياة الأحزان، أكثرها حزنا وأبعدها سرا تلك التي وقف عليها برهة أطهر البشر نفسا وأقدسهم كلمة، ثم ولى كما ولت آلهة الزمان، فنصب من ذكراه القدوس خيال يحجبه عن آل عثمان، مجد الرومان، وإن زهرة الشقيق التي كونت من دمه لتقف نائحة كل ربيع بين دخان الوثنية وشرر الإسلام.
ومن أبعد الرموز الطبيعية معنى وأحبها صوتا، تلك الينابيع الحامية التي تذوب فيها أحقاد الأرض ملحا وكبريتا، فتحملها المياه مرقرقة مسرعة إلى البحيرة الحلوة الفم المثلجة الفؤاد، وهذه في أعماق الأرض حقيقة الحياة الرائعة؛ تغلي الضغائن في صدور الناس ملحا وكبريتا فتلقى في قلب البحيرة؛ بحيرة الأبدية بل بحيرة المسيحية صفاء وعذوبة وبردا وسلاما.
Shafi da ba'a sani ba