123
أُحبُّ الفتَى الجعدَ السَّلوليَّ والعصا ... منَ النَّبعِ هيَّاها لضربِ المفارقِ وقال أبو العتاهية: قالَ لي أحمدٌ ولمْ يدرِ ما بِي ... أتحبُّ الغداةَ عُتبةَ حقَّا فتنفَّستُ ثمَّ قلتُ نعمْ حُ ... بًّا جرَى في العظامِ عرقًا فعِرقا وقال آخر: وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ ... ليعلمنَ ما أُخفي ويعلمنَ ما أُبدِي أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ ... لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها ... وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي ولبعض أهل هذا العصر: أرَى كلَّ مرتابٍ يخافُ خيالهُ ... كأنَّ عيونَ العالمينَ تراقبهْ يكادُ لفرطِ الخوفِ يُبدِي ضميرهُ ... لكلِّ امرئٍ تُخشَى عليهِ عواقبهْ عليَّ بوادٍ مَنْ يخافُ اغتيابُهُ ... تُبتُّ لديها في الأنامِ مناقبهْ فإيَّاكُما يا صاحبيَّ ومشهدًا ... تُنسِّيكما ما سرَّ منهُ عواقبهْ وإيَّاكُما والذَّنبَ ترتكِبانهِ ... وإنْ كانَ في الأحيانِ يعذرُ راكبهْ فما كلُّ معذورٍ حقيقًا بعذرهِ ... ولا كلُّ معذولٍ تعيبُ معايبهْ وقال الحطيئة: أكلُّ النَّاسِ يكتمُ حبَّ هندٍ ... وما يخفى بذلكَ مِنْ خفيِّ وما لكَ غيرَ نظَّارٍ إليها ... كما نظرَ الفقيرُ إلى الغنيِّ وقال الأحوص: لقد سلا كلُّ صبٍّ أوْ قضَى وطرًا ... وما سلوتُ وما قضَّيتُ أوطارِي أضمرتُ ذاكَ زمانًا ثمَّ بحتُ بهِ ... فزادَني سقمًا بَوحي وإضماري أخفيتُ في العرفِ هذا النُّكرَ ذلكمُ ... فصرَّحَ الوجدُ عنْ عُرفِي وإنكارِي وهذا لعمري من حسن الكلام ونفيسه ألا ترى إلى إخباره عن اجتهاده في كتم ما في قلبه حتَّى صرَّح الوجد به من غير قصد له ولا اختيار منه وهذه هي الحال التامة من جهتين إحداهما أن يكون المحبُّ مؤثرًا الإسرار على الإعلان والأخرى أن يكون الوجد تملَّكه ملكًا يزول معه الكتمان فيكون ضابطًا لنفسه مؤثرًا لكتمان سرِّ ما دام التَّمييز معه إلى أن يغلبه من الوجد ما لا يستطيع أن يدفعه. ولقد أحسن البحتري غاية الإحسان حيث يقول: نصرتُ لها الشَّوقَ اللَّجوجَ بأدمعٍ ... تلاحقنَ في أعقابِ وصلٍ تصرَّما وتيَّمنِي أنَّ الجوَى غيرُ مُقصرٍ ... وأنَّ الحمَى وصفٌ لمنْ حلَّ بالحمَى أُؤلِّفُ نفسًا قدْ أُعيدتْ علَى الهوَى ... شعاعًا وقلبًا في الغواني مقسَّما لقدْ أخذَ الرُّكبانُ أمسِ وغادرُوا ... حديثَينِ منَّا ظاهرًا ومكتَّما وما كانَ بادِي الحبِّ منَّا ومنكمُ ... ليخفَى ولا سرُّ التَّلاقي ليُعلما أفلا ترى إلى حسن قسمته لما خفي وما ظهر من سرِّه فأعلمك أنَّ ما به من غلبات الوجد أخرجها الشَّوق عن يده فظهرت لمن بحضرته وأنَّ ما استودعه من السَّرائر الَّتي كانت بينه وبين إلفه لم يكن ليطَّلع عليها غيره وهذا هو الَّذي أطريناه ومدحنا من فعله في الباب الماضي من وجوب ظهور الحال وحدها واستخفاء ما بعدها والعلَّة في ذلك أنَّ مكتوم الحبّ يظهره الدَّمع ومكنون ما جرى من المحبِّين لا يظهره غير النُّطق والنَّاس قادرون على حبس ألسنتهم وعاجزون عن حبس دمعهم سيَّما إذا ملكهم اشتياق أو جدَّ بهم فراقٌ. ولقد أحسن الَّذي يقول: يا حسرَتا قدْ فُقدَ العمرُ ... وليسَ لي عنْ مالِكِي صبرُ وكمْ أُدارِي النَّاسَ عنْ قصَّتي ... وليسَ لي عنْ مالِكِي سرُّ يا ربِّ قدْ عذَّبتني بالهوَى ... طفلًا وكهلًا فلكَ الشُّكرُ وقال جرير: وما زالَ عنِّي قائدُ الشَّوقِ والهوَى ... وذكركِ حتَّى كادَ يبدُو ويُفصحُ أصونُ الهوَى مِنْ خشيةٍ أنْ تعرَّها ... عيونٌ وأعداءٌ منَ القومِ كشَّحِ فما برحَ الوجدُ الَّذي قدْ تلبَّستْ ... بهِ النَّفسُ حتَّى كادَ لي الشَّوقُ يذبحُ وقال العرجي: إذا رمتُ كتمانًا لوجدكِ حرَّشتْ ... عليكِ العدَى عينٌ بسرِّكِ تنطقُ لها شاهدٌ مِنْ دمعِها كلَّما وفَى ... جرَى شاهدٌ مِنْ دمعِها يترقرقُ وقال يزيد بن الطثرية:

1 / 123