العرب! ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع. ومثلكم في هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار وقال: " من يوصيني إليه وله درهمان؟ حتى يدخلنه لا ينهنهه أحد " إلا عصاه. فلما دخله غرق ونشب وقال يخرجني وله أربعة دراهم؟. وضرب لهم امثلًا أخرى على هذا النمط، فلما فرغ تكلم سعد ﵃ بما جاءوا به من الأعذار والإنذار. ثم قالوا: وإما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد والهزل. ولكنا سنضرب لكم مثلكم: إنّ مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقيمون على جناتها. فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم. فلما لم يستجيبوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه، فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها؛ فان ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدًا.
ولمّا عظم أمر المسلمين وولي يزدجرد على فارس، وهاله أمر المسلمين، بعث إلى رستم المتقدم ذكره فقال له: انك أنت اليوم رجل أهل فارس، وقد رأيت ما نزل يهم؛ وإني أريد أن أوجهك في هذا الوجه فأنت لها. فأظهر له رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحببت أن انظر فيما لديك لأعلم ما عندك؛ فصف لي العرب وفعلهم، وصف لي العجم وما يقولون عنهم، فقال له رستم: صفة الذباب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إنّما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على ذلك فلم تصب، فأفهم عني إنّما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مراقب عند جبل تأوي في ذراه الطيور تبيت في أوكارها. فلما أصبحت الطير أبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم، وجعلت كلما شد منها طائر انقضت عليه العقاب فاختطفته حتى أفنتها. فلو نهضت بجميعها نهضة واحدة لنجت واشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلاّ واحدًا. فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فأعمل على قدر ذلك.
وكان لبعض الملوك وزيران أحدهما كان يأمر ببذل الأموال لاجتلاب قلوب الرجال،
1 / 36