وهما النوعان المذكوران أنفا، وقد بين ذلك في محله. والحق حصول العلم من الجانبين، إلا أن الإنسان في مبدأ فطرته ليس عنده غالبًا إلا العقل الهيولائي الغريزي، وهو في إدراكاته الفعلية شبيه بالبهيمة من حيث إنّه إنما
يدرك غالب الأمور المحسوسة، فلا يزال يربو عقله وينمو إدراكه، وكلما ازداد النفس من ألفة المحسوسات والاستئناس بها والركون إليها أزيد من ذلك وأكثر، وكأنها هي السابقة وهي أظهر. فإذا كمل إدراكه شيئًا ما بحيث أدرك الضروريات وأستعد للنظريات وصار له عقل بالملكة، كانت النفس إذ ذلك محيطة بعظم المحسوسات، قوية الأستاناس بها، متمكنة من الألفة بها. فأن كان صاحبها مع ذلك من العوام التاركين للعلوم والمعارف، وهم الأكثر، فقد اندفع في المحسوسات وأهمل عقله الخاص بنفسه في مألوفاتها، وصار شبيها بالبهائم في إنّه لا يدرك إلاّ هذه المحسوسات التي تدركها؛ وإنما يفوقها بضرب من التصرف ضعيف فيها. فمتى ذكر لهذا شيء مما وراء ما يشاهد ولم يكن من الضروريات الأوائل الحاصلة له وما أشبهها، احتاج غالبا إلى إنّ يضرب له مثل بشيء مما يشاهد، ويصور له بصورته إما فهما وأما اطمئنانا واستئناسا. وإنّ كان من الخواص الخائصين في العلوم وإدراك المعقولات، فقد علمت مما مر إنّ العقل عادة إنّما يدرك بنفسه الضروريات، وما سوى ذلك إنما يدركه بواسطة تأديه أو تأدى نظيره إليه من الحواس الظاهرة أو الباطنة. ومع ذلك، فالمتأدى إليه إنّما هو أمر جزئي بالضرورة، فمتى حاول جنسا من ذلك لم يكن الجنس بنفسه من حيث إنّه جنس متأديا بشيء منها، فأحتاج إلى أن يمثل بصورة من ذلك الجنس فيدركها لأنها هي التي كانت تتأدى إليه ليقيس عليها غيرها، وبذلك يمكنه أن يدرك القاعدة والقانون، وهو الذي نعني بالجنس في هذا المحل حيث أدرك مادته إلاّ إنّ يكون له من لطف الإدراك وقوة الذكاء ما يستحضر به تلك الصور وينتزع منها مراده من غير أن يصور منها شيء مخصوص، فهذا يستغني عن التمثيل، وقليل ما هم. ومع ذلك فالنفس قد قلنا إنّها قوية الاستئناس بالمحسوسات لوضوحها وسبقها:
1 / 33