تقدمة
1 - الأعور
2 - الأنف
3 - الكلب والجواد
4 - الحسود
5 - الكريم
6 - الوزير
7 - الاستقبالات والخصومات
8 - الغيرة
9 - المرأة المضروبة
Shafi da ba'a sani ba
10 - الرق
11 - التحريق
12 - العشاء
13 - الموعد
14 - الرقص
15 - العيون الزرق
16 - قاطع الطريق
17 - الصائد
18 - الباسليك
19 - المبارزة
Shafi da ba'a sani ba
20 - الناسك
21 - الألغاز
تقدمة
1 - الأعور
2 - الأنف
3 - الكلب والجواد
4 - الحسود
5 - الكريم
6 - الوزير
7 - الاستقبالات والخصومات
Shafi da ba'a sani ba
8 - الغيرة
9 - المرأة المضروبة
10 - الرق
11 - التحريق
12 - العشاء
13 - الموعد
14 - الرقص
15 - العيون الزرق
16 - قاطع الطريق
17 - الصائد
Shafi da ba'a sani ba
18 - الباسليك
19 - المبارزة
20 - الناسك
21 - الألغاز
زديج
زديج
تأليف
فولتير
ترجمة
طه حسين
Shafi da ba'a sani ba
تقدمة
هذه قصة من قصص فولتير التي عني فيها ببعض المشكلات الفلسفية العليا؛ التي شغلت الناس دائما، وشغلت الفرنسيين بنوع خاص أثناء القرن الثامن عشر، وهي مسألة القضاء والقدر، ومكان الإنسان وإرادته منهما.
وما أريد أن أتعمق قضية القضاء والقدر في نفسها، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى الفلاسفة والمثقفين الذين عاصروا فولتير، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى فولتير نفسه، فنحن في فصل الصيف، وهو فصل لا يحتمل مثل هذا البحث الذي يكلف الكاتب والقارئ من العناء ما يحتاج إلى حياة رائقة شائقة، يستحب فيها النشاط، ولا يشق فيها الجهد الذهني.
وأنا بعد ذلك لم أفكر في تقديم هذه القصة إلى القراء في هذا الفصل الشديد إلا لأريح الزملاء الذين يشاركون في تحرير هذه المجلة، والقراء الذين يتفضلون بقراءتها، من تكليف أنفسهم عناء الجد في الكتابة، والجد في القراءة أثناء فصل القيظ، والراحة حق للكتاب كما هي حق للقراء، ولكن الراحة ألوان وأشكال: فهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين لا يعمل شيئا، وهي راحة بغيضة؛ لأنها عقيمة لا تنفع صاحبها ولا تنفع الناس، وهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين يتجه من العمل إلى ما يمتعه ويمتع الناس دون أن يشق على نفسه وعليهم، وهي هذه الراحة الخصبة التي يدل لفظها على معناها دلالة صادقة، والتي تعصم الإنسان من الفراغ الفارغ الجدب الذي يميت القلوب، وهي الراحة التي تلائم المثقفين من الكتاب والقراء جميعا.
فالرجل المثقف لا يبغض شيئا كما يبغض الفراغ الجدب العقيم، والراحة بالقياس إليه هي الانتقال من عمل مجهد مضن إلى عمل يجمع بين التسلية والمتاع ، وإلى هذه الراحة قصدت حين فكرت في أن أعفي محرري هذه المجلة من إنشاء بحوثهم المضنية، وقراءها من العكوف على تفهم هذه البحوث، وفي أن أعفي القراء في الوقت نفسه من الفراغ الذي كانوا قد يضطرون إليه ساعات من نهار أو أياما من شهر لو لم تقدم إليهم المجلة شيئا، وفي أن أترجم لهم آية أدبية رائعة يجدون في قراءتها ما يرضي حاجتهم إلى التفكير، وحاجتهم إلى الراحة، وحاجتهم إلى المتعة الأدبية الرفيعة في وقت واحد، وأنا أحد الألوف أو الملايين من الناس - إن حسن ظننا بالناس - الذين يعجبون بآداب فولتير، وينتهي بهم الإعجاب إلى الفتنة في كثير من الأحيان؛ لأن هذا الأدب لم يكتب له الخلود فحسب، وإنما كتب له الخلود والشباب جميعا، أو قل كتب له الخلود والشباب وملاءمة الحياة الإنسانية على اختلاف العصور والبيئات والأجيال، ولن أقيم الدليل على شيء من ذلك؛ فقد فرغ التاريخ الأدبي من إقامة الدليل عليه، وهذه القصة نفسها ستدل عليه في وضوح وجلاء وإقناع، وما أظن القراء يكلفونني أن أوثرهم بشيء لا أوثر به نفسي، أو أن أحتمل في سبيلهم من الجهد والمشقة ما لا أحب أن أحتمله في سبيل نفسي.
وقد قرأت هذه القصة مرات توشك أن تبلغ عشرا، وأكبر الظن أني سأقرؤها وأقرؤها، وقد وجدت فيها وسأجد فيها دائما متعة العقل والقلب والذوق، فإذا قدمتها إلى القراء فقد آثرتهم بما أوثر به نفسي، ولم يظلمك من سوى بينك وبين نفسه.
وقد كتب فولتير هذه القصة حين كاد القرن الثامن عشر ينتصف سنة 1748، وتكلف فنونا من الجهد والحيلة ليطبعها خارج فرنسا، ولينشرها في فرنسا بعد ذلك، وليستأنف طبعها في فرنسا، ولولا ضيق الوقت، وأني في باريس مشغول بما يشغل به الإنسان حين يلم بباريس ليقيم فيها وقتا قصيرا، وليرحل عنها بعد ذلك، لولا هذا لقصصت على القراء من جهد فولتير وحيلته في نشر هذه القصة، ثم من جحوده إياها وتنصله منها؛ مخافة أن تجر عليه شرا ما فيه كثير من الفكاهة والتسلية، ولكني أرجو أن أعود إلى هذا كله في وقت قريب.
وقد مر بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق، فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه، وأخرج للناس قصصا شرقية بارعة كثيرة، منها هذه القصة، وأرجو أن يتاح لي أن أترجم لقراء العربية طائفة من قصصه الشرقية الأخرى.
وبطل هذه القصة فتى من أهل بابل، يسميه فولتير «زديج» ونسميه نحن صادقا، وقد كدت أضع صادقا مكان زديج في القصة كلها، ولكني آثرت أن أحتفظ لفولتير باسم بطله كما أراد هو أن يكون، وهذا الفتى البابلي المثقف الممتاز قد اختلفت عليه الأحداث، وتعرض لكثير من المحن في وطنه أولا، وفي الأوطان التي تغرب فيها بعد ذلك، في مصر وفي بلاد العرب وفي جزيرة سرنديب وفي سوريا، وكانت هذه الأحداث والمحن كلها مخالفة لمنطق الأشياء وطبيعة الحياة كما يراها الناس، فقد كان يكافأ بالشر على الخير دائما، وكان يستقبل ذلك بالحيرة والإذعان وبالصبر والاحتمال؛ حتى كوفئ آخر الأمر بما يلائم ذكاءه ووفاءه وثقافته وبراعته وصبره واحتماله، فأصبح ملكا على الدولة البابلية العظمى.
ففي القصة إذن عرض لمشكلة القضاء والقدر كما يتصورها الشرقيون، أو كما خيل لفولتير أن الشرقيين يتصورونها، وفيها حل لهذه المشكلة على نحو ما تصوره الفلاسفة منذ أقدم العصور، وهو هذا الحل الذي لا يحل شيئا، والذي يلخص في أن الإنسان أقصر عقلا وأكل ذهنا من أن يفهم حكمة الخالق الذي أبدع العالم ووضع له ما يديره من القوانين، فما عليه إلا أن يكد ويجد ويعمل الخير ما وسعه أن يعمل الخير، ويجتنب الشر ما أتيح له أن يجتنب الشر، ولا عليه بعد ذلك أن تسره الأيام أو تسوءه، وأن تسخطه الأحداث أو ترضيه.
Shafi da ba'a sani ba
ولكن في القصة أشياء أخرى غير هذا العرض الفلسفي لمشكلة القضاء والقدر، هو الذي أتاح لها الخلود، وهو نقد الحياة الإنسانية من ناحيتها السياسية والاجتماعية والخلقية، والنفوذ بهذا النقد إلى صميم الطبيعة الإنسانية، وما ينشأ عن احتمالها للحياة وتصرفها فيها من الخطوب، وواضح جدا أن فولتير قد اتخذ قصته هذه كلها وسيلة إلى نقد الحياة الأوروبية عامة، والحياة الفرنسية خاصة، واتخذ مدينة بابل رمزا لمدينة باريس، وقصر بابل رمزا لقصر باريس؛ ومن أجل هذا أشفق من نسبة هذه القصة إليه، ومن أجل هذا فتن الفرنسيون بهذه القصة في عصر فولتير، وما زالوا يفتنون بها إلى الآن، ومن أجل هذا أعتقد أن قراء العربية سيجدون في قراءة هذه القصة ما يلائم حاجتهم إلى نقد الحياة الإنسانية من ناحية السياسة والاقتصاد والاجتماع، فليقرءوا، وليتفكروا، وليتذكروا، وليستريحوا إلى القراءة والتفكر والتذكر، ثم لينتفعوا بعد ذلك بما يقرءون وما يتفكرون وما يتذكرون.
طه حسين
باريس، يونيو 1947
الفصل الأول
الأعور
كان يعيش في بابل أثناء حكم الملك مؤبدار فتى يسمى «زديج»، وقد فطر على طبع كريم زادته التربية كرما، كان غنيا، وكان في ريعان الشباب، ولكنه كان على ذلك يعرف كيف يكبح جماح شهواته؛ لم يكن يتكلف، ولم يكن يحرص على أن تكون له الكلمة الأخيرة دائما، وكان يعرف كيف يقدر ضعف الناس، وكان الناس من حوله يدهشون لأنهم لم يروه قط - على ما كان يمتاز به من الذكاء - يهزأ بهذه الجمل الغامضة المتنافرة الصاخبة، ولا بهذه الغيبة الجريئة، ولا بهذه القرارات الجاهلة، ولا بهذه السخافات الفجة، ولا بهذا الضجيج الباطل، مما كان أهل بابل يسمونه حديثا، وكان قد تعلم من الكتاب الأول من آثار زرادوشت أن الاعتداد بالنفس كرة نفختها الريح، فأيسر ثقب فيها يخرج منها زوابع، وكان من أخص صفات زديج أنه لم يكن يفاخر بازدراء النساء أو اختلابهن، وكان كريما لا يكره أن يحسن إلى الجاحدين، يتبع في ذلك هذه الحكمة البالغة من حكم زرادوشت: «إذا أكلت فأطعم الكلاب، وإن أغراها ذلك بعضك.»
كان حكيما كأحسن ما يكون الحكيم؛ لأنه كان حريصا على معاشرة الحكماء؛ عرف علم القدماء من الكلدانيين، فلم يكن يجهل أصول الطبيعة التي كانت تعرف في ذلك الوقت، وكان يعرف مما بعد الطبيعة ما عرف الناس في كل عصر، أي قليلا من الأشياء، وكان مقتنعا كل الاقتناع بأن العام يشتمل على خمسة وستين وثلاث مائة يوم وربع يوم، على رغم الفلسفة الجديدة في عصره، وبأن الشمس هي مركز الكون، وكان يؤثر الصمت في غير غضب ولا ازدراء، إذا قال له كبار الكهنة إنه سيئ العقيدة، وإن من الخروج على الدولة أن يعتقد الإنسان أن الشمس تدور حول نفسها، وأن العام يأتلف من اثني عشر شهرا.
وقد اعتقد زديج أنه من الممكن أن يكون سعيدا، فقد كان يملك ثروة ضخمة، وكان له من أجل ذلك أصدقاء كثيرون، وكان جيد الصحة، رائق الوجه، مستقيم العقل، معتدل المزاج، له قلب مخلص نبيل، وكان يزمع التزوج من سمير التي كانت تمتاز من فتيات بابل جميعا بمولدها وجمالها وثروتها، وكان يعطفه عليها ميل نقي متين، وكانت هي تحبه حبا عنيفا، وكانا يدنوان من اللحظة السعيدة التي كانت ستجمع بينهما، ولكنهما ذات يوم كانا يتنزها معا عند باب من أبواب بابل في ظلال النخيل التي تزين شاطئ الفرات، وإذا هما يريان رجالا يقبلون عليهما مسلحين بالسيوف والسهام، وكانوا نفرا من أتباع الفتى أوركان قريب أحد الوزراء، الذي خيل إليه متملقو قريبه الوزير أن كل شيء مباح له، ولم يكن على شيء من ظرف زديج أو خلقه، ولكنه كان يرى نفسه خيرا منه، وكان مغيظا محنقا؛ لأنه لم يكن آثر عند الناس من زديج، وقد خيلت إليه هذه الغيرة التي لم تأته إلا من الغرور أنه يحب سمير، وقد اختطفها أتباعه وكانوا من العنف بحيث آذوها ببعض الجراحات، وأسالوا بذلك دم حسناء كان منظرها وحده خليقا أن يشيع الحنان في أنمار جبل إيمايوس، وكانت تشق السماء بصيحات الشكاة، وكانت تدعو: «أي زوجي العزيز، إني أنتزع انتزاعا من أحب الناس إلي.»
لم يكن يشغلها ما كانت تتعرض له من الخطر؛ لأنها لم تكن تفكر إلا في زديج العزيز، وقد دافع عنها زديج بما تتيح الشجاعة والحب من قوة ونجدة، ولم يكن يعينه إلا عبدان من رقيقه، وقد هزم المغيرين مع ذلك، ورد سمير إلى دارها دامية مغشيا عليها، فلما أفاقت وفتحت عينيها رأت محررها، فقالت له: «أي زديج، لقد كنت أحبك حب الزوج، فأما الآن فإني أحبك كما أحب من أنا مدينة له بالشرف والحياة.» ولم ير الناس قط قلبا أشد تأثرا من قلب سمير، ولا رأى الناس قط فما أشد سحرا يعرب عن شعور ساحر بألفاظ من نار يمليها الاعتراف بالجميل والاندفاع في الحب الذي يملؤه الحنان من فمها، وكان جرحها يسيرا فبرئت منه في وقت قصير، أما جرح زديج فكان أشد خطرا، أصابه سهم قريبا من إحدى عينيه فأحدث جرحا عميقا، ولم تكن سمير تطلب إلى الآلهة إلا شفاء عشيقها، وكانت عيناها غارقتين في الدموع آناء الليل وأثناء النهار، وكانت تنتظر الوقت الذي تستطيع فيه عينا زديج أن تستمتعا بتلقي لحظها، ولكن دملا ظهر في العين الجريحة فأنذر بخطر عظيم، فذهب الرسل وأبعدوا حتى وصلوا إلى منفيس يدعون الطبيب العظيم هرميس الذي أقبل تحف به حاشية ضخمة، وقد فحص المريض ثم أعلن أنه سيفقد عينه.
وتنبأ حتى باليوم والساعة اللذين ستقع فيهما هذه الكارثة قائلا: «لو قد أصاب الجرح عينه اليمنى لأبرأته، أما جراحات العين اليسرى فليس لها شفاء.» وقد رثت بابل كلها لزديج، وأعجبت مع ذلك بما امتاز به هرميس من علم عميق، ولم يمض يومان حتى انفجر الدمل من تلقاء نفسه وبرئ زديج برءا تاما؛ هنالك ألف هرميس كتابا أثبت فيه أنه لم يكن من حق زديج أن يظفر بالشفاء، ولم يقرأ زديج هذا الكتاب، ولكنه لم يكد يستطيع الخروج من داره حتى تهيأ لزيارة تلك التي كانت معقد أمله في السعادة، والتي كان حريصا من أجلها وحدها على أن تكون له عينان، وكانت سمير قد ذهبت إلى الريف منذ ثلاثة أيام، وقد عرف زديج في طريقه إليها أن هذه الحسناء لم تكد تعلم أن حبيبها قد يفقد إحدى عينيه حتى أعلنت أنها لا تطيق العور، وتزوجت أوركان من ليلتها تلك، فلما نمى إليه هذا الخبر خر مغشيا عليه، وانتهى به الألم إلى حافة القبر، وقد طالت علته، ولكن العقل تغلب على الحزن، بل وجد شيئا من العزاء في قسوة ما عانى من الآلام.
Shafi da ba'a sani ba
ثم قال لنفسه: «أما وقد لقيت هذا الجموح القاسي من هذه الفتاة التي نشأت في القصر، فسأتخذ لي زوجا من بيئات الشعب.» فاختار أزورا، وهي أحكم بنات المدينة وأحسنهن مولدا، فاقترن بها وعاش معها شهرا ملؤه العطف والحنان، ولكنه لاحظ فيها شيئا من خفة، وميلا شديدا إلى اعتقاد أن أعظم الشبان حظا من الجمال هم أصحاب الحظ العظيم من الفضيلة والذكاء.
الفصل الثاني
الأنف
وذات يوم أقبلت أزورا من نزهتها غاضبة ثائرة صاخبة، قال لها: «ما بك يا زوجي العزيزة؟ وما عسى أن يخرجك من طورك إلى هذا الحد؟» قالت: «وا حسرتاه! لو رأيت المنظر الذي رأيته لهاجك ما يهيجني من الغضب؛ لقد ذهبت أعزي الأرملة الشابة خسرو التي أقامت منذ يومين اثنين قبرا لزوجها الشاب، وقد عاهدت الآلهة أثناء حزنها على أن تقيم على هذا القبر ما جرى ماء هذا الجدول قريبا منه.» قال زديج: «هذه امرأة كريمة، قد أحبت زوجها حقا.» قالت أزورا: «آه لو عرفت ما كان يشغلها حين زرتها!» «ماذا كان يشغلها أي أزورا الحسناء؟» «كانت تحول الجدول من مجراه.» ثم اندفعت في لوم طويل وهجاء عنيف حتى ضاق زديج بهذه الفضيلة المتكلفة.
وكان له صديق اسمه كادور، وكان من بين هؤلاء الشبان الذين كانت أزورا تؤثرهم لأنهم على حظ عظيم من الأمانة والكفاية، فأظهره على جلية أمره، واستوثق من وفائه بما أهدى إليه من هدايا قيمة، ومضت أزورا لتنفق عند إحدى صديقاتها في الريف يومين، ثم عادت في اليوم الثالث إلى دارها، وهنالك أعلن إليها الخدم وهم ينتحبون أن زوجها قد مات فجأة من ليلته تلك، وأنهم لم يجرءوا على أن يحملوا إليها نبأ الفاجعة حين كانت تستجم، وأنهم قد فرغوا الآن من دفن زديج في قبر أسرته هناك في طرف الحديقة، فأجهشت بالبكاء وانتزعت شعرها، وأقسمت لتقضين على نفسها بالموت، فلما كان المساء استأذنها كادور في أن يتحدث إليها فبكيا معا، فلما كان الغد بكيا أقل مما بكيا أمس، وجلسا معا إلى الغداء، وأسر إليها كادور أن صديقه أوصى إليه بمعظم ثروته، ثم لمح لها بأنه يرى السعادة في أن يقاسمها ثروته، هنالك بكت السيدة ثم غضبت، ثم لانت، وكان العشاء أطول من الغداء، وكان الحديث أدنى إلى الثقة، وأثنت أزورا على الفقيد، ولكنها اعترفت بأنه لم يخل من بعض العيوب التي برئ منها كادور.
وفي أثناء العشاء شكا كادور ألما عنيفا في الطحال، فقلقت السيدة واهتمت، وأحضرت كل ما كان عندها من طيب؛ لعلها تجد من بينه ما يكون فيه شفاء للطحال، وأسفت أشد الأسف لأن هرمس العظيم لم يطل الإقامة في بابل، بل تفضلت فلمست موضع الألم من جسم كادور، قالت له في عطف: «أعرضة أنت لهذا الألم؟» قال كادور: «إنه ألم يدنيني غالبا من القبر، وليس له فيما علمت إلا دواء واحد يستطيع أن يرفه علي، وهو أن يوضع على جنبي أنف رجل مات من أمسه.» قالت أزورا: «يا له من دواء غريب.» قال كادور: «ليس أغرب من تمائم السيد أرنو
1
التي يعالج بها الفالج.» وكان هذا الرد مضافا إلى كفاية هذا الفتى مقنعا آخر الأمر للسيدة. قالت: «وأخيرا إذا عبر زوجي من حياة أمس إلى حياة غد على جسر تشينافار فلن يرده الملك عزرائيل عن العبور؛ لأن أنفه أقصر قليلا في حياته الثانية منه في حياته الأولى.»
ثم أخذت موسى ومضت إلى قبر زوجها فسقته بدمعها، ثم دنت تريد أن تجدع أنف زديج الذي رأته مستلقيا في قبره، هنالك ينهض زديج حاميا أنفه بإحدى يديه رادا الموسى باليد الأخرى قائلا: «سيدتي، لا تلومي الأرملة خسرو، فالتفكير في جدع أنفي كالتفكير في تحويل الجدول عن مجراه.»
الفصل الثالث
Shafi da ba'a sani ba
الكلب والجواد
وقد تبين زديج - كما هو مقرر في كتاب زند - أن الشهر الأول من شهور الزواج هو شهر العسل، وأن الشهر الثاني هو شهر الشيح، ثم اضطر بعد قليل إلى أن يطلق أزورا التي أصبحت بغيضة العشرة، وطلب السعادة في درس الطبيعة، وكان يقول: «ليس أسعد من رجل فيلسوف يقرأ في هذا الكتاب العظيم الذي نشره الله أمام أعيننا، وهو الطبيعة؛ فالحقائق التي يستكشفها القارئ خالصة له، يغذو بها نفسه ويرفعها، ويعيش هادئا مطمئنا، لا يخاف من الناس شيئا، ولا يتعرض لأن تدنو منه زوجه الرفيقة به لتجدع أنفه.»
وقد امتلأ بهذه الخواطر، واعتزل في دار ريفية على شاطئ الفرات، وفي هذه الدار لم يكن يشغل نفسه بحساب ما يجري تحت أقواس الجسور من الماء، ولا ما يسقط من خط مكعب من المطر في شهر الفأر أو في شهر الشاة، ولم يكن يتخيل أن يتخذ الحرير من نسج العنكبوت أو الخزف من حطام القوارير، ولكنه درس في عناية خصائص الحيوان والنبات، ولم يلبث أن انتهى إلى مقدار من الفطنة أظهره على ألف من الفروق بين أشياء لم يكن الناس يرون بينها إلا تشابها.
وذات يوم كان يمشي قريبا من غابة صغيرة، فرأى خصيا من خصيان الملكة يسرع إليه، ومن ورائه جماعة من الضباط يظهر عليهم قلق شديد، ويعدون هنا وهناك كأنهم قوم حائرون يبحثون عن شيء عظيم الخطر قد فقدوه، قال الخصي الأول: «ألم تر كلب الملكة يا فتى؟» قال زديج في تواضع: «إنما هي كلبة لا كلب.» أجاب الخصي الأول: «صدقت.» أضاف زديج: «إنها كلبة صغيرة جدا، وقد ولدت منذ وقت قصير، وهي تظلع برجلها الأمامية اليسرى، ولها أذنان مسرفتان في الطول.» قال الخصي الأول مجهدا: «فقد رأيتها إذن؟» أجاب زديج: «لا، لم أرها قط، ولم أعلم قط أن للملكة كلبة.»
وفي الوقت نفسه بالضبط على نحو ما تجري عليه المصادفات الغريبة أفلت أجمل خيل الملك من يد سائسه، وهام في سهل بابل، وأقبل كبير الساسة ومن ورائه أصحابه يبحث عن هذا الجواد في لهفة تشبه لهفة الباحثين عن الكلبة، واتجه كبير الساسة إلى زديج يسأله: «أرأيت جواد الملك؟» قال زديج: «إنه أحسن الجياد ركضا، إنه يرتفع في الجو خمسة أقدام، وإن حذاءه صغير جدا، وله ذيل طوله ثلاثة أقدام ونصف قدم، وشكائم لجامه من ذهب معياره ثلاثة وعشرون قيراطا، وسنابكه من فضة معياره أحد عشر دانقا.» قال كبير الساسة: «أي طريق سلك؟ وأين يكون؟» قال زديج: «لم أره ولا سمعت به قط.»
فلم يشك كبير الساسة ولا الخصي الأول في أن زديج قد سرق جواد الملك وكلبة الملكة، فقاداه أمام جماعة القضاة الذين قضوا عليه بالجلد، وبأن ينفق ما بقي من حياته في سيبريا، ولم يكد الحكم يصدر حتى وجد الباحثون الجواد والكلبة، واضطر القضاة في ألم إلى أن يغيروا حكمهم، ولكنهم قضوا على زديج بغرامة قدرها أربعمائة مثقال من الذهب لإنكاره رؤية ما رأى.
ولم يكن بد من أداء الغرامة أولا، ثم يؤذن له بعد ذلك بالدفاع عن نفسه أمام القضاة، وقد دافع عن نفسه قائلا: «يا نجوم العدل، ويا كهوف المعرفة، ويا مرايا الحقائق. أنتم الذين لهم ثقل الرصاص، وصلابة الحديد، وإشراق الماس، وكثير من خصال الذهب. أما وقد أذن لي بالحديث أمام هذه الجماعة الجليلة، فإني أقسم بأورزماد ما رأيت قط الكلبة المحترمة التي فقدتها الملكة، ولا الجواد المقدس الذي فقده ملك الملوك، وإليكم ما عرض لي: لقد كنت أتنزه قريبا من الغابة الصغيرة حين رأيت الخصي الجليل والسائس العظيم البعيد الصوت، فرأيت على الرمل أثر حيوان، فتفرست في يسر أنها آثار كلب صغير، ورأيت خطوطا خفافا طوالا قد طبعت على مرتفعات صغار بين آثار الأرجل، فعرفت أنها كلبة قد حفلت أطباؤها فتدلت، وأنها لذلك قد ولدت منذ أيام، ورأيت آثارا في اتجاه آخر مجاورة لآثار الرجلين الأماميتين، فعرفت أن للكلبة أذنين مسرفتين في الطول، ولاحظت أن الرمل أقل تأثرا بإحدى الأرجل منه بالثلاث الأخرى، فتبينت أن كلبة ملكتنا الجليلة عرجاء شيئا ما إن أذن لي في أن أتحدث على هذا النحو.
أما جواد ملك الملوك، فقد كنت أسعى في طرق هذه الغابة، فرأيت آثار السنابك لجواد، ورأيتها كلها تقع على مسافات متساوية، فقلت لنفسي هذا فرس كامل الركض، وكان تراب الشجر في طريق عرضها سبعة أقدام؛ قد زال عن يمين وشمال في ارتفاع قدره ثلاثة أقدام ونصف قدم، فقلت لنفسي: «إن لهذا الفرس ذيلا بهذا الطول قد أزال بخطواته التراب عن هذه الأشجار.» ورأيت تحت الشجر الذي يمد من أغصانه مهدا يرتفع خمسة أقدام ورقا حديث عهد بالسقوط، فعرفت أن هذا الجواد قد مس الغصون، وأن ارتفاعه خمسة أقدام، أما شكيمته فيجب أن تكون من ذهب معياره ثلاثة وعشرون قيراطا؛ لأنه حك بها حجرا يقاس به الذهب وقد جربته، ثم عرفت آخر الأمر من آثار سنابكه على حجر من نوع آخر أن هذه السنابك من فضة معيارها أحد عشر دانقا.»
وقد أعجب القضاة جميعا بدقة زديج وفطنته، وارتفع أمر هذه القصة إلى الملك والملكة، فلم يكن للناس حديث في القصر إلا زديج، ومع أن جماعة من الكهنة قد أشاروا بتحريقه لأنه ساحر، فقد أمر الملك أن ترد إليه غرامة أربعمائة المثقال من الذهب التي فرضت عليه، وقد أقبل الكتاب والحجاب والنواب إلى داره في موكب عظيم، يحملون إليه المثاقيل أربع المائة، ولم يحتجزوا منها إلا ثلاثمائة وثمانية وتسعين مثقالا على أنها نفقات القضاء، وطلب خدامهم بعض العطاء.
وقد رأى زديج إلى أي خطر يتعرض الإنسان حين يكون واسع العلم، وعاهد نفسه على ألا يقول ما يرى حين تسنح له أول فرصة.
Shafi da ba'a sani ba
وقد سنحت هذه الفرصة بعد وقت قصير، فقد هرب سجين من سجن الدولة ومر من تحت نافذته؛ فلما سئل زديج أجاب بأنه لم ير شيئا، ولكن الحجة أقيمت عليه أنه كان ينظر من نافذته، وقضي عليه بغرامة قدرها خمسمائة مثقال من ذهب، وشكر هو قضاته لأنهم رفقوا به، كما جرت العادة في بابل أن يرفع المحكوم عليهم شكرهم إلى القضاة. قال زديج لنفسه: «يا لله! إن الإنسان لخليق بالرثاء حين يتنزه في غابة مرت بها كلبة الملكة وجواد الملك، وإنه لخطر أن ينظر الإنسان من نافذته، وإنه لعسير أن يسعد الإنسان في هذه الحياة.»
الفصل الرابع
الحسود
أراد زديج أن يتعزى بالفلسفة والصداقة عما جر الحظ عليه من الآلام، وكانت له في ضاحية من ضواحي بابل دار أنيقة قد زينت في ذوق، جمع فيها ألوان الفنون وضروب اللذات التي تليق بالمثقف الكريم، فكانت خزانة كتبه مفتوحة في الصباح للعلماء جميعا، وكانت مائدته في المساء ممدودة لكرام الرفاق، ولكنه لم يلبث أن تبين أن خطر العلماء شديد، فقد أثيرت خصومة عنيفة حول قانون من قوانين زرادوشت كان يحظر أكل العنقاء.
قال بعضهم: «كيف يحرم أكل العنقاء مع أنها غير موجودة؟» وقال بعضهم: «يجب أن تكون موجودة ما دام زرادوشت قد حرم أكلها.» وقد أراد زديج أن يوفق بين المختصمين فقال: «إذا وجدت العنقاء فلنتجنب أكلها، وإذا لم توجد فليس إلى أكلها سبيل، وكذلك نطيع جميعا أمر زرادوشت.»
وكان هناك عالم قد ألف كتابا من ثلاثة عشر مجلدا في خصائص العنقاء، وكان فوق ذلك من كبار أصحاب الكرامات، فأسرع إلى عظيم من الكهنة يسمى بيبور، وكان أشد الكهنة حمقا، وأشدهم من أجل ذلك تعصبا، فاتهم أمامه زديج، وكان هذا الكاهن خليقا أن يذيق زديج عذاب الهون تمجيدا للشمس، وأن يتلو في أثناء ذلك كتاب زرادوشت راضي القلب مطمئن الضمير، ولكن الصديق كادور - وصديق واحد خير من مائة قسيس - زار بيبور الشيخ وقال له: «لتحي الشمس، ولتحي العنقاء! احذر أن تعاقب زديج فهو قديس، يملك في داره ضروبا من العنقاء، ولكنه لا يأكل منها، وخصمه الذي يتهمه صاحب بدعة يزعم أن للأرنب رجلا مشقوقة، وأنها ليست حيوانا نجسا.» قال بيبور وهو يهز رأسه الأصلع: «هذا حسن، فلنعذب زديج لأنه ذكر العنقاء بالسوء، ولنعذب خصمه لسوء رأيه في الأرنب.» وقد استطاع كادور أن يصلح الأمر بواسطة غانية من غواني الشرف، كان قد أولدها ولدا، وكانت لها مكانة ممتازة عند جماعة الكهنة، ولم يعذب أحد، فجمجم لذلك بعض العلماء، وتنبئوا بسقوط بابل، وصاح زديج: «ما قوام السعادة؟ كل شيء في هذا العالم يضطهدني حتى الكائنات التي لا توجد.» ومقت العلماء وأزمع ألا يحيا إلا مع أصدقاء لذته.
ثم جعل يجمع في داره أشرف الرجال وأجمل النساء من أهل بابل، وكان يولم لهم ولائم أنيقة، ويقوم بين يديها بفنون من الموسيقى، وضروب من الأحاديث العذاب التي حرص على أن تبرأ من تكلف النكتة؛ لأن هذا التكلف هو أقرب الطرق إلى إفساد الذوق وإفساد الصلات بين الناس، ولم يكن للغرور أثر في تخير الأصدقاء ولا في تخير أصناف الطعام؛ لأنه يؤثر الحقائق على المظاهر، فيظفر من الإكبار والتقدير بما لم يكن يريد.
وكان يقيم في دار أمام داره أريماز، رجل كان منظره البشع يصور سوء سريرته، كان الحسد يأكل قلبه والكبر ينفخ جسمه، وكان على ذلك مملا لكثرة تكلفه في الحديث، لم يتح له النجاح قط، فكان يتعزى عن ذلك بالغيبة، وكان على ثرائه يجد أشق الجهد في أن يجمع حوله المتملقين، وكانت ضوضاء العربات التي تدخل دار زديج كل مساء تؤذيه، وكان الثناء على زديج يزيده حنقا إلى حنق، وكان يلم بدار زديج أحيانا، ويجلس إلى المائدة دون أن يدعى إليها، فكان يفسد بمحضره بهجة الجماعة، كما يقال عن بعض الطير البغيضة: إنها تفسد ما تمس من الطعام، وقد هم ذات يوم أن يولم تكريما لإحدى السيدات، ولكنه بدا له فلم يستقبلها، وتناول العشاء عند زديج، وكان مرة أخرى يتحدث إلى زديج في القصر وهما يسعيان، فلقيهما أحد الوزراء، وإذا هذا الوزير يدعو زديج إلى طعامه دون أن يدعو صاحبه، وأشد أنواع العداوة لا يعتمد غالبا على أسباب أعظم خطرا من هذه الأسباب التافهة.
وقد أزمع هذا الرجل الذي كان يعرف في بابل كلها بالحسود أن يهلك زديج؛ لأن الناس كانوا يلقبونه بالسعيد، وفرص الإساءة تسنح مائة مرة في اليوم على حين لا تسنح فرصة الإحسان إلا مرة واحدة في العام كما يقول زرادوشت.
وقد زار الحسود ذات يوم زديج، فلقيه يتنزه في الحديقة مع صديقين وسيدة حسناء كان يوجه إليها بين حين وحين بعض الغزل، لا يريد به أكثر من قوله، وكان الحديث يدور حول حرب انتصر فيها الملك على أمير من عماله في أركانيا، وكان زديج قد أشاد بشجاعة الملك، وجعل يثني عليه ويثني على هذه السيدة، وقد أخذ لويحة وكتب عليها أبياتا أربعة دفعها إلى السيدة لتقرأها، فطلب إليه أصدقاؤه أن ينشدهم إياها، فمنعه من ذلك التواضع أو شيء من الاعتداد بالنفس، كما يكون عند الرجل الكريم، وكان يعلم أن الشعر المرتجل لا يلائم إلا من وجه إليه من الناس، فحطم لويحته التي كتب فيها هذه الأبيات شطرين، وألقاهما بين جماعة من الورد، ثم طال البحث عنهما في غير غناء، وقد تلبث الحسود في الحديقة بعد انصراف الجماعة، وألح في البحث حتى وجد شطرا من شطري اللويحة، وكانت اللويحة قد حطمت بحيث أصبح كل شطر من أشطر الأبيات مستقلا يدل على معنى خاص، وأرادت المصادفة الغريبة أن تدل هذه الأبيات المشطورة القصار على معنى يصور أبشع هجاء للملك، فقد كان يقرأ فيها:
Shafi da ba'a sani ba
بأقبح جريمة
ثبت على العرش
من هو في السلم العام
عدو وحيد.
وقد سعد الحسود لأول مرة في حياته، فبين يديه ما يمكنه من أن يهلك رجلا خيرا محببا إلى النفوس، وقد ملأته هذه السعادة القاسية، فأوصل إلى الملك هذا الهجاء الذي خطته يد زديج، وإذا زديج يلقى في السجن ومعه السيدة وصديقاه، ثم نظرت قضيته على عجل دون أن يؤذن له بالدفاع عن نفسه، فلما أحضر ليسمع الحكم عليه مر في طريقه بالحسود الذي قال له إن شعره سخيف لا قيمة له، ولم يكن زديج يزعم أنه شاعر مجيد، ولكنه كان غارقا في اليأس لأخذه بجريمة هجاء الملك، ولأنه يرى سيدة وصديقين يظلون في السجون مع أنهم لم يقترفوا إثما، ولكن كذلك كانت قوانين بابل، وقد سيق إلى العذاب، فجعل يسلك طريقه بين جماعة من المستطلعين لا يستطيع أحد منهم أن يظهر رثاء له أو عطفا عليه، وإنما كانوا يسرعون إليه لينظروا في وجهه وليتبينوا أيستقبل الموت مبتسما له مرتاحا إليه، وكانت أسرته وحدها حزينة؛ لأنه لم يترك لها ميراثا، إذ كانت ثلاثة أرباع ثروته مصادرة لخزانة الملك، وربعها مصادرا مكافأة للحسود.
وبينما كان زديج يتهيأ للقاء الموت طارت ببغاء الملك من إحدى شرفات القصر إلى حديقة زديج، فوقعت على جماعة من الورد، وهناك كانت خوخة قد سقطت من إحدى الأشجار، فأصابت قطعة من لويحة من لويحات الكتابة فلصقت بها، واحتملت الببغاء الخوخة وما لصق بها، ومضت حتى وضعت ذلك في حجر الملك، وكان الملك طلعة، فقرأه في هذه القطعة من اللويحة كلمات لا تدل على شيء، ولكنها تشبه أن تكون قوافي لبعض الشعر وكان يحب الشعر، وللملوك الذين يحبون الشعر حظ من سعة الحيلة، فدعته مغامرة ببغائه إلى التفكير، وكانت الملكة تذكر ما كتب على القطعة التي حملها حاسد زديج فأمرت بإحضارها، فعورضت القطعتان وتبين أنهما تتفقان اتفاقا تاما، وهنالك قرئت الأبيات كما كتبها زديج فإذا هي كما يأتي:
لقد رأيت الأرض تملؤها اضطرابا أعظم الجرائم
وقد ثبت الملك على العرش قادرا على ضبط كل شيء
وإذا وسعت السلم كافة الناس، فالحب وحده هو الذي يثير الحرب
وهو العدو الوحيد الذي يجب أن يخاف.
Shafi da ba'a sani ba
وما هي إلا أن يأمر الملك بإحضار زديج ليمثل بين يديه، وبأن يخرج من السجن صاحباه والسيدة الجميلة، فلما مثل زديج بين يدي الملك والملكة قبل الأرض بين أيديهما، وتوسل إليهما أن يغفرا له لهذه الأبيات الرديئة التي اقترفها، وقد تحدث في ظرف ولباقة وذكاء، فرغب الملك والملكة في أن يرياه، وقد عاد فازداد إعجابهما به، وقد أهديت إليه ثروة الحسود الذي كاد له بغير الحق، ولكن زديج رد هذه الثروة إلى الحسود الذي لم يتأثر إلا بأن ثروته قد ردت إليه، وقد جعل رضا الملك عن زديج يزداد من يوم إلى يوم؛ فكان يحضره كل لذاته ويشاوره في كل أعماله، وجعلت الملكة منذ ذلك الوقت تنظر إليه في شيء من العطف كان خليقا أن يصبح خطرا عليها وعلى زوجها الملك العظيم وعلى زديج وعلى الدولة كلها، وجعل زديج يظن أن ليس من العسير أن يكون الإنسان سعيدا.
الفصل الخامس
الكريم
وقد أقبل العيد الذي كان يقام في بابل كل خمسة أعوام، وكانت العادة قد جرت بأن يعلن في بابل كل خمس سنين اسم الرجل الذي أتى عملا يدل على الكرم والفضل، وكان العظماء والكهان هم القضاة، وكان محافظ المدينة يعرض أمام القضاة أحسن ما أبلى الناس من بلاء أثناء ولايته للحكم، ثم يتداول القضاة وينطق الملك بالحكم، وكان الناس يأتون إلى هذا الحفل من أقصى الأرض، وكان الفائز يتلقى من يد الملك كأسا من الذهب الخالص مرصعة بنفيس الجوهر، ويسمع من الملك هذه الكلمات: «تقبل جائزة الكرم هذه، وليكثر الله بين رعيتي من أمثالك.»
فلما كان يوم العيد ظهر الملك على عرشه يحف به وجوه الدولة وكهانها ونواب الأقاليم الذين أقبلوا يشهدون هذا اليوم الذي لا يكتسب فيه المجد بسباق الخيل ولا باصطراع المصطرعين، وإنما يكتسب بالاستباق إلى الفضيلة والتنافس في الخير، وقد عرض محافظ المدينة بصوت جهوري الأعمال النبيلة التي تؤهل أصحابها لهذه الجائزة السامية، فلم يذكر كبر النفس الذي أتاح لزديج أن يرد على الحسود ثروته، فلم يكن هذا العمل من الأعمال التي تهيئ صاحبها للاشتراك في هذه المسابقة.
وإنما قدم أول الأمر اسم قاض دفع في بعض القضايا إلى خطأ لم يكن مسئولا عنه، فنزل عن ثروته كلها للخصم الذي خسر قضيته بهذا الخطأ، وكانت ثروة القاضي تعدل ما خسر الخصم.
ثم قدم بعد ذلك اسم فتى كان يحب فتاة أشد الحب ويريد أن يتخذها له زوجا، ولكنه علم أن لها محبا يكاد يهلكه الحب فنزل له عنها، ثم لم يكتف بهذه المكرمة، وإنما أدى المهر من ماله الخاص.
ثم قدم بعد ذلك اسم جندي أبلى في حرب هيركانيا بلاء حسنا، يتضاءل بالقياس إليه بلاء سابقيه، فقد اختطف جنديان من جيش العدو خليلته، وكان يدافع عنها ليستردها منهما، وإذا النبأ يصل إليه بأن جنودا آخرين من جيش العدو يريدون أن يختطفوا أمه غير بعيد منه، فترك خليلته باكيا، وأسرع فاستنقذ أمه، ثم عاد إلى خليلته فوجدها تحتضر، فهم أن يقتل نفسه حزنا، ولكن أمه بينت له أنه وحيدها وليس لها عائل غيره، فكان له من الشجاعة ما أعانه على احتمال الحياة في سبيل أمه.
وكان القضاة يميلون إلى هذا الجندي، ولكن الملك قال: «إن بلاءه وبلاء من سبقه حسن، ولكنه لا يدهشني، أما زديج فقد أبلى أمس بلاء راعني، فقد غضبت منذ أيام على وزيري وعلى أثيري كوريب، وكنت ألومه في عنف شديد، وكانت الحاشية كلها تؤكد لي أني كنت به رفيقا، وكانوا جميعا يستبقون أيهم يكون أشد إساءة في القول إلى كوريب، فسألت زديج عن رأيه فيه، فإذا هو يجترئ فيثني عليه، وأعترف أني قرأت في تاريخنا أن الناس كثيرا ما أصلحوا خطأهم بإنفاق أموالهم كلها، وأنهم كثيرا ما نزلوا عن خليلاتهم وآثروا أمهاتهم على عشيقاتهم، ولكني لم أقرأ قط أن رجلا من أهل القصر استطاع أن يثني على وزير مقال قد غضب عليه ملكه غضبا شديدا، وإني أمنح كل واحد من هؤلاء الأبطال عشرين ألف دينار ذهبا خالصا، ولكني أخص بالكأس زديج.»
قال زديج: مولاي! إن جلالتك وحدها هي التي تستحق الجائزة؛ لأنها أتت عملا لا نظير له في الروعة، فأنت يا مولاي ملك، وأنت مع ذلك لم تغضب على عبدك حين اجترأ على أن يعارضك وأنت مغيظ.
Shafi da ba'a sani ba
وقد أعجب الناس بالملك وبزديج، وتلقى القاضي الذي نزل عن ثروته، والعاشق الذي زوج خليلته من صديقه، والجندي الذي آثر سلامة أمه على عشيقته هدايا الملك، ورأوا أسماءهم تسجل في سجل الكرماء، وتلقى زديج الكأس، واشتهر الملك بأنه ملك عظيم خير، ولكنه لم يحتفظ بهذه الشهرة وقتا طويلا، واختص هذا اليوم بأعياد أطول مما قرر القانون، وما زال الناس يذكرون هذه الأعياد في آسيا إلى الآن، وكان زديج يقول: «إني إذن لسعيد.» ولكنه كان مخطئا.
الفصل السادس
الوزير
وقد فقد الملك وزير الأكبر فاختار زديج ليشغل هذا المنصب، وصفقت لهذا الاختيار حسان بابل جميعا، فلم تعرف الدولة منذ إنشائها وزيرا له هذا الشباب، وحزن رجال القصر جميعا حتى انتهى الأمر بالحسود إلى السل الذي انتهى به إلى أن يبصق دما، وورم أنفه ورما مروعا.
أما زديج فقد رفع شكره إلى الملك والملكة، ثم ذهب ليهدي شكره إلى الببغاء قائلا لها: «أيها الطائر الجميل، لقد أنقذت حياتي، وجعلتني وزيرا أكبر، ما أكثر ما أساءت إلي كلبة الملكة وجواد الملك، وما أكثر ما قدمت إلي أنت من الإحسان! وكذلك يتعلق مصير الناس بأوهى الأسباب.» ثم أضاف إلى ذلك قوله: «ولكن هذه السعادة الغريبة خليقة أن يكون أمدها قصيرا.» قالت الببغاء: «نعم!» فوجم زديج هذا الجواب، ولكنه على ذلك كان عالما بطبائع الأشياء والأحياء، وكان يعرف أن الببغاء لم تطلع قط على علم الغيب، فلم يلبث أن عاد إلى الثقة والاطمئنان، ونهض بأعباء الوزارة على أحسن وجه ممكن.
فأشعر الناس جميعا بما للقوانين من سلطان مقدس، ولم يشعر أحدا ما بثقل كبريائه الخاصة، ولم يفرض رأيه على الديوان، وإنما كان لكل وزير أن يجهر برأيه دون أن يسوءه أو يتعرض لسخطه، وكان إذا جلس للقضاء لم يقض هو، وإنما كان يترك القضاء للقانون، ولكنه كان يلطف القانون إن آنس فيه قسوة أو غلوا في العنف، وكان إذا حدثت واقعة لم يعرض لها القانون قضى فيها بالعدل حتى كأنه زرادوشت.
فمنه تعلمت الأمم هذا المبدأ الخطير، وهو أن إنقاذ المجرم خير من الحكم على البريء، وكان يعتقد أن القوانين شرعت لإغاثة المواطنين كما شرعت لإخافتهم، وكان يمتاز بالحرص على إظهار الحقيقة التي يحرص الناس كلهم على إخفائها.
ولم يكد ينهض بأعباء الحكم حتى انتفع فيه بذكائه كله، وكان تاجر كبير من تجار بابل قد قضى نحبه في الهند، وكان قد قسم ثروته بين ابنيه قسمة عدلا على أن يزوجا أختهما، ثم ترك ثلاثين ألف دينار ذهبا على أن تكون منحة لأي ابنيه يظهر أنه أشد حبا لأبيه؛ فأما الابن الأكبر فاتخذ لأبيه قبرا، وأما ابنه الأصغر فزاد من نصيبه في الميراث مهر أخته، وكان الناس يقولون: «إن الابن الأكبر مؤثر أباه، على حين أن الابن الأصغر يؤثر أخته، فللابن الأكبر يجب أن تئول هذه الثلاثون ألفا من الدنانير.»
أما زديج فدعاهما إلى المثول بين يديه واحدا في إثر صاحبه، وقال للأكبر: «إن أباك لم يمت، وإنما برئ من علته الأخيرة، وعاد إلى بابل.» قال الفتى: «الحمد لله، ولكن هذا القبر قد كلفني كثيرا من المال!» قال زديج للابن الأصغر ما قاله لأخيه، فقال: «الحمد لله لأردن إلى أبي نصيبي من الميراث، ولكني أود لو ترك لأختي ما قدمت إليها منه.» قال زديج: «لن ترد شيئا، وستساق إليك الثلاثون ألفا من الدنانير، فأنت الذي تؤثر أباك بالحب.»
وكانت فتاة عظيمة الثراء قد وعدت كاهنين بالزواج، وبعد أن تثقفت أشهرا على الكاهنين أصبحت حاملا ذات يوم، وكان كلا الكاهنين يريد أن يتخذها لنفسه زوجا، أما هي فأعلنت أنها لن تختار منهما إلا الذي أتاح لها أن تمنح الدولة مواطنا جديدا، قال أحدهما: «فأنا الذي أتاح لها هذا المواطن.» قال الآخر: «بل أنا الذي أتيحت له هذه المزية.» قالت الفتاة: «فإني أختار منكما أيكما يكون أقدر على أن يربي الطفل تربية ممتازة.» وقد ولدت غلاما وتنافس الكاهنان في تربيته، وقد رفعت القضية إلى زديج، فدعا الكاهنين وقال لأولهما: «ماذا تريد أن تعلم الصبي؟» قال الكاهن: «سأعلمه الخطابة والمنطق والفلك وخصائص الشياطين، وسأعلمه حقيقة الجوهر والعرض والمجرد والمركب، والوحدات التي يتألف منها الكون والنظام الذي سبق به القضاء.» وقال الكاهن الآخر: «سأحاول أن أجعله عدلا خليقا بأن يكون له أصدقاء.» قال له زديج: «لتكن أباه أو لا تكن، فأنت الذي سيتزوج أمه.»
Shafi da ba'a sani ba
وكانت الشكوى ترتفع إلى القصر في كل يوم من حاكم ميديا، وكان يسمى إيراكس، فقد كان سيدا عظيما كريم الطبع، قد أفسده الغرور وحب اللذة، وكان لا يكاد يحتمل أن يتحدث إليه الناس، ولا يسمح بأن يخالفه مخالف، ولم يكن الطاووس أشد منه غرورا، ولم يكن الحمام أشد منه إيثارا للذة، ولم تكن السلحفاة أشد منه حبا للكسل، ولم يكن ينعم إلا بالمجد الباطل واللذة الكاذبة، وقد حاول زديج إصلاحه، فأرسل إليه من قبل الملك موسيقيا بارعا يصحبه اثنا عشر من المغنيين، وأربعة وعشرون من الموقعين، وأرسل إليه مع هؤلاء قيما على الخدمة ومعه ستة من السعاة وأربعة من الحجاب لم يكن يباح لهم أن يتركوه، وصدر أمر الملك باتباع النظام الآتي دون مخالفة عنه أو خروج عليه، وإليك كيف نفذ هذا النظام.
لم يكد إيراكس يفيق من نومه في اليوم الأول حتى دخل عليه أستاذ الموسيقى، ومعه المغنون والموقعون، فغنوا له أغنية استمرت ساعتين، وكان يتردد فيها كل ثلاث دقائق هذا الكلام:
ما أحسن بلاءه!
ما أجمله! ما أعظم خطره!
ما أجدر مولانا!
بأن يرضى عن نفسه!
فلما فرغ المغنون تقدم أحد الحجاب فألقى بين يديه خطبة استمرت ثلاثة أرباع الساعة، لم تشتمل إلا على الثناء عليه بما ليس فيه، فلما انتهت الخطبة قيد إلى المائدة على نغم الموسيقى، وقد اتصل الغداء ثلاث ساعات لم يكن يهم فيها بالكلام حتى يقول الحاجب الأول: «لن يقول إلا صوابا.» ولا يكاد ينطق بكلمات أربع حتى يقول الحاجب الثاني: «لقد أصاب.» ويضحك الحاجبان الآخران مما قال أو مما كان يمكن أن يقول، فإذا فرغ من غدائه أعيدت عليه الأغنية.
وقد وجد في يومه الأول لذة أي لذة، واعتقد أن الملك إنما أراد أن يعطيه حقه من التكريم، فلما كان اليوم الثاني وجد فيه من اللذة أقل مما وجد في اليوم الأول، فلما كان اليوم الثالث ضاق به شيئا، فلما كان اليوم الرابع لم يستطع له احتمالا، فلما كان اليوم الخامس وجد فيه عذابا شديدا، ثم ضاق آخر الأمر بكثرة ما كان يقال له من أنه خليق أن يرضى عن نفسه، وبكثرة ما كان يقال له لقد أصاب، وبكثرة ما كان يلقى بين يديه من الخطب في ساعة معينة من كل يوم؛ فكتب إلى القصر يتوسل إلى الملك في أن يتفضل فيسترد حجابه ومغنيه وخدامه، ويعد بأنه سيحرص على أن يكون في مستقبل أيامه قليل الغرور كثير النشاط، ثم أعرض عن الثناء الباطل واللذة الكاذبة وأصبح سعيدا، «فإن اللذة المتصلة ليست من اللذة في شيء» كما يقول الكتاب المقدس للبراهمة.
الفصل السابع
الاستقبالات والخصومات
Shafi da ba'a sani ba
وكذلك كان زديج يظهر في كل يوم دقة ذكائه وكرم نفسه، وكان الناس يعجبون به، وكانوا مع ذلك يحبونه، ويرون أنه أسعد الناس، وكان اسمه يملأ الدولة كلها، وكان النساء جميعا ينظرن إليه، وكان المواطنون جميعا يثنون على عدله، وكان العلماء يرون أن مكانه منهم مكان الوحي، وكان الكهنة أنفسهم يعترفون بأنه يحيط من العلم بأكثر مما يحيط به عظيمهم الشيخ بيبور، وكان العهد بعيدا بقضية العنقاء، ولم يكن الناس يقبلون إلا ما كان زديج يرى أنه خليق بالقبول.
وكانت في بابل خصومة عظيمة قديمة قد اتصلت منذ خمسة عشر قرنا، وانقسمت لها الدولة إلى فريقين متعاديين: أحدهما كان يرى ألا يجوز أن يتخطى الداخل عتبة المعبد لمترا إلا بقدمه اليسرى، والآخر كان يمقت هذه العادة أشد المقت، ولا يدخل المعبد إلا برجله اليمنى، وجعل الناس ينتظرون يوم العيد الأكبر للنار المقدسة ليروا أي المذهبين يؤثر زديج، وكانت أعين العالم كله تتجه إلى رجليه، وكانت هذه المدينة كلها مضطربة قلقة، ولكن زديج دخل المعبد وثبا فلم يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ثم بين للناس في خطبة رائعة أن إله السماء والأرض الذي لا يختص أحدا بفضله لا يؤثر قدما على قدم سواء أكانت اليمنى أو اليسرى.
وقد زعم الحسود وامرأته أن خطبته لم تشتمل على مقدار ملائم من المجاز، وأنه لم يرقص فيها التلال والجبال، وكانا يقولان إن خطبته جافة لا براعة فيها، فليس يرى فيها البحر هاربا ولا النجوم متساقطة، ولا الشمس ذائبة كما يذوب الشمع، فليس له الأسلوب الشرقي الجميل، أما زديج فكان يكفيه أن يكون أسلوبه ملائما لعقله، وقد سار الناس كلهم على أثره، لا لأنه كان على الصراط المستقيم، ولا لأنه كان حريصا على موافقة العقل، بل لأنه كان الوزير الأول.
وهو كذلك قد قضى قضاء حسنا بين الكهنة البيض والكهنة السود، وكان البيض يزعمون أنه من الإثم أن يتجه الناس إلى المشرق إذا صلوا في الشتاء، وكان السود يؤكدون أن الله يكره الذين يصلون إلى المغرب في الصيف، فأمر زديج أن يولي الناس وجوههم في الصلاة حيث يشاءون، وقد نظم وقته، فكان يصرف الأعمال الخاصة والعامة في الصباح، وينفق بقية اليوم في تجميل بابل، وكان يأمر بتمثيل المأساة التي تبكي والملهاة التي تضحك، وقد أحيا هذه العادة بعد أن ماتت؛ لأنه كان عظيم الحظ من الذوق، ولم يكن يزعم أنه يعرف الفن خيرا من أهله، وإنما كان يكافئ أصحاب الفن بالمال وأنواع التمييز، ولا يخفي الغيرة من تفوقهم، فإذا كان المساء فرغ لتسلية الملك والملكة خاصة، وكان الملك يسميه الوزير الأكبر، وكانت الملك تسميه الوزير الظريف، وكانا يضيفان كلاهما أن الدولة كانت تتعرض بفقده لشر عظيم.
ولم يتح لوزير قط أن يستقبل السيدات بمقدار ما كان يستقبلهن، وكان أكثر من يسعين إليه يعرضن عليه أمورا لا تعنينهن ليحدثن بينهن وبينه أمورا ذات بال، وكانت زوج الحسود منهن في الطليعة، وقد أقسمت له بمترا وبالزند أفستا وبالنار المقدسة أنها كرهت سيرة زوجها معه، ثم أسرت إليه بعد ذلك أن هذا الزوج غيور عنيف، ثم لمحت له بأن الآلهة يعاقبونه على ذلك، فيحرمونه الاستمتاع بهذه النار المقدسة التي ترفع الناس إلى مكان الخالدين. ثم أسقطت رباط جوربها وقد التقطه زديج في أدبه المألوف، ولكنه لم يرده إلى موضعه من ساق السيدة، وكانت هذه الغلطة - إن صح أن تكون غلطة - مصدرا لخطوب منكرة شداد، لم يفكر زديج في هذه الغلطة، ولكن امرأة الحسود أطالت فيها التفكير.
وجعلت سيدات أخر يزرنه في كل يوم، وقد سجل التاريخ السري لمدينة بابل أنه هفا هفوة واحدة، ولكنه دهش أشد الدهش؛ لأنه لم يجد في هذه الهفوة لذة، ولأنه كان يقبل خليلته لاهيا عنها، وكانت المرأة التي ميزها بهفوته هذه وهو لا يكاد يلتفت إليها وصيفة من وصائف الملكة أستارتيه، وكانت هذه البابلية الرقيقة تقول لنفسها ملتمسة العزاء: «يجب أن يكون هذا الرجل كثير الهموم إلى حد أنه يفكر في همومه أثناء الحب.» وقد أفلتت من زديج في الساعة التي لا يقول الناس فيها شيئا أو لا يقولون فيها إلا ألفاظا مأثورة كلمة نطق بها في غير وعي، وهي: «الملكة»، فظنت البابلية أنه قد ثاب إلى نفسه آخر الأمر وأنه يدعوها ملكته، ولكن زديج مضى في ذهوله حتى نطق باسم الملكة أستارتيه، وخيل إلى السيدة في هذه اللحظة السعيدة أنه كان يقول لها: إنها أجمل من الملكة أستارتيه، وقد خرجت من قصر زديج ومعها طرف كثيرة، فما هي إلا أن تزور زوج الحسود وكانت لها صديقا حميما، فتقص عليها مغامرتها تلك، وتغار هذه لأن زديج آثر عليها صاحبتها.
قالت: «إنه لم يتنزل حتى إلى أن يضع لي رباط الجورب هذا في موضعه، ولقد كرهت هذا الرباط منذ ذلك اليوم.» قالت السيدة السعيدة للسيدة الحسود: «إنك لتتخذين لجواربك نفس الرباط الذي تتخذه الملكة، لعلكما تشتريانه من صانعة واحدة.» ففكرت زوج الحسود طويلا ولم تقل شيئا، ثم أظهرت زوجها الحسود على القصة كلها.
وكان زديج في أثناء ذلك يلاحظ أن شيئا من الذهول يصيبه حين يقضي وحين يستقبل، ولم يكن يعرف كيف يعلل هذا الذهول.
وقد رأى فيما يرى النائم كأنه كان مستلقيا على عشب جاف فيه شوكات تؤذيه، ثم كأنه بعد ذلك قد كان نائما على سرير من الورد، فخرج منه ثعبان لدغ موضع القلب منه بلسانه الدقيق الحاد المسموم، وكان يقول لنفسه: «وا حسرتاه! لقد نمت طويلا على العشب الشائك، ثم ها أنا ذا الآن أنام على سرير من الورد، فما عسى أن يكون هذا الثعبان؟»
الفصل الثامن
Shafi da ba'a sani ba
الغيرة
وقد جاء شقاء زديج من سعادته نفسها، ومن كفايته بنوع خاص، فقد كان يخلو في كل يوم إلى الملك، فيتحدث إليه وإلى زوجته الجليلة أستارتيه، وكان سحر حديثه يزداد لحرصه على أن يثير الإعجاب، ومكان هذا الحرص من النفوس مكانة الزينة من الأجسام، وقد أثر شبابه وظرفه في نفس أستارتيه تأثيرا لم تفطن له أول الأمر، فجعل حبها ينمو في ظل البراءة، وكانت أستارتيه تستمتع غير متحفظة بالنظر والاستماع إلى فتى عزيز على زوجها الملك، وأثير عند الدولة كلها، ولم تكن تكف عن الثناء عليه عند الملك، والتحدث عنه إلى وصائفها اللاتي كن يضفن إطراء إلى إطراء، وكان كل شيء يعين على أن ينفذ في قلبها ذلك السهم الذي لم تكن تشعر به، وكانت تهدي إلى زديج من الهدايا ما يدل على الميل أكثر مما كانت تقدر، وكانت تظن أنها إنما تتحدث إليه كما تتحدث الملكة إلى وزير قد رضيت عن عمله، على حين أنها إنما كانت تتحدث إليه حديث امرأة رقيقة مرهفة الحس.
وكانت أستارتيه أروع جمالا وأبرع حسنا من سمير تلك التي كانت تكره العور، ومن تلك المرأة التي كادت تجدع أنف زوجها، وما هي إلا أن يثير تبسط أستارتيه مع زديج، وحديثها الرقيق الذي أخذ يسبغ على وجهها شيئا من حمرة، ولحظها الذي كانت تريد أن تحوله، ولكنه كان يستقر على لحظه هو فيذكي في قلبه نارا دهش لها دهشا شديدا، وقد قاوم واستعان بالفلسفة التي كانت تعينه كل ما التمس عندها العون، ولكنها في هذه المرة لم تمدده إلا بنور المعرفة دون أن تخفف من وجده شيئا، وكان الواجب وعرفان الجميل وجلال الملك، كل أولئك يتمثل له كأنه آلهة الانتقام، كان يقاوم وكان ينتصر، ولكن هذا الانتصار الذي كان يجب أن يظفر به كل ساعة كان يكلفه كثيرا من الأنين والدموع، وقد أصبح لا يجرؤ على أن يتحدث إلى الملكة في تلك الحرية الحلوة التي كانت تسحرهما جميعا، وكان إذا لقي الملكة غشيت عينيه سحابة وتقطع حديثه واختلط، فكان يغض بصره، فإذا تحول لحظه على رغمه نحو الملكة رأى عينيها يبللهما الدمع وتنطلق منهما في الوقت نفسه سهام من نار، وكأنما كان كل منهما يقول لصاحبه: «إن الحب يشغفنا ولكننا نخاف الحب، وإن نارا واحدة تحرقنا ولكننا نبغض هذه النار.»
وكان زديج يخرج من عندها هائما واجما قد أثقل قلبه عبء لا قبل له باحتماله، وقد تجاوز الهيام به حده، فأظهر صديقه كادور على مكنون سره، وكان يشبه في ذلك رجلا شق عليه الألم حتى أضناه؛ فانتزع منه صيحة شاكية، وأسال على جبهته عرقا باردا، فظهر من أمره ما كان مستورا.
قال كادور: «لقد تبينت هذا الشعور الذي كنت تريد أن تخفيه حتى على نفسك، فإن للعواطف الجامحة آيات ليس إلى الشك فيها سبيل، فقدر أيها الصديق العزيز - وقد استطعت أنا أن أقرأ في قلبك - كيف تكون حال الملك لو قرأ هذا القلب بعض ما يهينه! فليس للملك عيب إلا أنه أشد الناس غيرة. إنك تقاوم حبك في قوة أشد مما تبذل الملكة لمقاومة حبها، ومصدر ذلك أنك فيلسوف وأنك أنت زديج، أما أستارتيه فامرأة، وهي تبيح للحظها أن يتكلم في غير تحفظ؛ لأنها ما زالت تعتقد أنها غير آثمة، وهي مع الأسف قد اطمأنت إلى براءتها، فيدعوها ذلك إلى الإهمال في التحفظ والاحتياط بالقياس إلى أشياء خارجية لا ينبغي أن تهمل، وسأظل مشفقا عليها ما لم تقترف شيئا تلوم نفسها فيه، ولو قد اتفقتما لهان عليكما خداع الرقباء، فالحب الناشئ المكبوت لا بد من أن يفتضح، أما الحب الذي ظفر بالرضا فهو قادر على أن يستخفي.» وقد اضطرب زديج لهذه الفكرة التي تغريه بخيانة الملك وهو الذي أحسن إليه، ولم يبلغ من الوفاء لملكه قط مثل ما بلغ حين تبين أنه قد تورط في هذه الخطيئة عن غير إرادة منه، ومع ذلك فقد كانت الملكة تكثر من ذكر زديج، وكانت الحمرة تغشى وجهها كلما ذكرته، وكانت حين تتحدث إليه بمحضر الملك تتحمس حينا وتنقطع حينا، وكانت تغرق في التفكير العميق إذا خرج؛ حتى أثار هذا كله شيئا من الاضطراب في نفس الملك، فصدق كل ما رأى وتخيل كل ما لم ير، ولاحظ بنوع خاص أن حذاء امرأته كان أزرق، وأن حذاء زديج كان أزرق، وأن شرائط الملكة كانت صفراء، وأن قلنسوة زديج كانت صفراء، وكانت هذه الأشياء كلها آيات خطيرة بالقياس إلى ملك مترف، وما هي إلا أن يتحول الشك إلى يقين في نفسه الساخطة.
وخدام الملوك والملكات جميعا جواسيس على قلوبهم، فما أسرع ما تبين هؤلاء الخدام أن أستارتيه عاشقة، وأن مؤبدار غيران، وأغرى الحسود امرأته بأن ترسل إلى الملك رباط جوربها الذي يشبه رباط جورب الملكة، وكان هذا الرباط - لشقاء زديج - أزرق، فلم يفكر الملك بعد ذلك إلا في الانتقام، وأزمع في ذات ليلة أن يميت الملكة مسمومة، وأن يميت زديج مشنوقا إذا أسفر الصبح، ثم صدر الأمر بذلك إلى خصي قاس من خصيانه موكل بانتقامه، وكان في غرفة الملك حين أصدر هذا الأمر قزيم أخرس ولكنه سميع، وكان يخالط الملك ولا يخفى عليه من أمر القصر شيء كأنه بعض الحيوان المستأنس، وكان هذا الأخرس القزم وفيا للملكة ولزديج، فلما سمع الأمر بموتهما أحس دهشا لا يعدله إلا ما أحس من هول، ولكن كيف السبيل إلى اتقاء هذا الأمر الفظيع الذي يوشك أن ينفذ في ساعات قلائل؟ لم يكن القزم يحسن الكتابة، ولكنه كان يحسن التصوير، ويجيد المقاربة بين الصورة والأصل، فأنفق شطرا من الليل في رسم ما كان يريد أن يؤدي إلى الملكة من المعنى، وكان رسمه يصور الملك مغيظا محنقا مصدرا أمره إلى الخصي، ومائدة غير بعيدة قد ألقي عليها حبل أزرق ورباط جورب أزرق وشريط أصفر وقام عليها إناء، والملكة في وسط اللوحة تحتضر بين أذرع وصائفها، وزديج مخنوق تحت قدميها، وكان الأفق يصور طلوع الشمس ليدل بذلك على أن هذا الأمر المنكر سينفذ إذا أسفر الصبح؛ فلما أتم صورته أسرع إلى وصيفة من وصائف الملكة وأفهمها أن هذه الصورة يجب أن تصل إليها من الفور.
وفي أثناء الليل طرق باب زديج ثم أوقظ ودفعت إليه رسالة من الملكة، فيشك في أنه حالم أو عالم، ثم يفض الرسالة بيد مرتعشة، فأي دهش وأي حزن أصابه حين قرأ هذه الكلمات:
النجاء في هذه اللحظة وإلا فقدت حياتك! النجاء يا زديج إني آمرك بذلك وأستحلفك بحبنا وبشرائطي الصفر، لم أكن آثمة ولكني أشعر بأني سأموت مجرمة.
ولم يكد زديج يجد القوة على الكلام، فأمر بدعاء كادور، ولم يقل له شيئا وإنما دفع إليه الرسالة، فأكرهه كادور على الطاعة على أن يأخذ من فوره الطريق إلى ممفيس، قال له: «إن حاولت لقاء الملكة عجلت موتها، فإذا تحدثت إلى الملك عجلت موتها كذلك، فعلي أن أدبر أمرها؛ فدبر أنت أمرك، وسأذيع أنك سلكت طريقك إلى الهند، وسألحق بك بعد قليل وأنبئك بما يكون قد حدث في بابل من الخطوب.»
وفي الوقت نفسه أمر كادور بإعداد نجيبين خفيفين سريعين أمام باب خفي من أبواب القصر، وحمل على أحدهما زديج حملا فلم يكن يستطيع أن يسعى، وإنما كان يوشك أن يموت حزنا، وصحبه خادم واحد، وما هي إلا ساعة حتى كان كادور غارقا في حزن عميق وقد غاب صديقه عن بصره.
Shafi da ba'a sani ba
ومضى هذا الهارب العظيم، حتى إذا بلغ تلا مشرفا على بابل التفت إلى قصر الملكة ثم أغمى عليه، ولم يفق من إغمائه إلا ليسفح الدمع ويتمنى الموت، فلما قضى حق الملكة التي هي أحب النساء إلى القلوب، وأبعد الملكات صوتا في الآفاق، وفكر فيما قضى عليها من شقاء، عاد إلى نفسه وفكر في أمره، ثم صاح قائلا: «ما حياة الناس إذن؟ أيتها الفضيلة بماذا نفعتني؟ لقد خانتني امرأتان، وهذه الثالثة لم تقترف إثما وقد قضى عليها الموت، كل ما في من خير كان مصدر شقاء لي، ولم أرتفع إلى أرقى المراتب إلا لأهوى إلى الدرك الأسفل من الشقاء، ولو قد كنت شريرا ككثير من الناس لظفرت بما يظفرون به من السعادة.» ومضى في طريقه إلى مصر تثقله هذه الخواطر المهلكة، ويغشى عينيه سحاب الألم، وتعلو وجهه صفرة الموت، وقد هوت نفسه من أعماق اليأس إلى قرار سحيق.
الفصل التاسع
المرأة المضروبة
مضى زديج يهتدي بالنجم في طريقه، وكانت الجوزاء والشعرى تقودانه نحو كانوب، وهو يعجب بهذه الكرات الضخمة من الضوء التي لا تظهر لأعيننا إلا كمستصغر الشرر، على حين تظهر الأرض لمطامعنا شيئا عظيما جليل الخطر، مع أنها ليست في حقيقة الأمر إلى نقطة ضئيلة في هذا الكون، وكان يرى الناس كما هم في الواقع جماعات من الحشرات، يأكل بعضها بعضا على ذرة ضئيلة من الطين، وهذه الصورة الصادقة كانت تلغي شقاءه إلغاء؛ لأنها تضائل من شخصه ومن مدينة بابل نفسها، وكانت نفسه تتجرد من شخصيته، وتثب نحو آفاق اللانهاية، وتلاحظ هذا النظام المستقر الذي يمضي عليه الكون، ولكنه حين كان يثوب إلى نفسه ويتعمق دخيلة قلبه، لم يكن يستطيع إلا أن يفكر في أن أستارتيه قد تعرضت لأعظم الخطر، ولعلها قد لقيت الموت، هنالك كان العالم كله يستخفي، ولم يكن هو يرى إلا أستارتيه تحتضر وزديج يتجرع كأس الشقاء!
وبينما كان يتردد بين هذا المد والجزر من فلسفة رفيعة إلى ألم ممض، جعل يتقدم نحو حدود مصر، وكان خادمه الأمين قد سبق إلى إحدى الضواحي ليلتمس له منزلا، وجعل زديج يتنزه في الحدائق التي تحيط بهذه الضاحية، فرأى غير بعيد من الطريق العامة امرأة مولهة تستغيث بالأرض والسماء، ورجلا يتبعها وقد أخرجه الغضب عن طوره، وقد لحقها الرجل وهي تستعطفه لاثمة ركبتيه، والرجل يشبعها شتما وضربا، فقدر زديج لمنظر هذين المصريين أن الرجل كان غيورا وأن المرأة كانت خائنة، ولكنه حين نظر إلى هذه المرأة ورآها ذات جمال مؤثر، وفيها ملامح من أستارتيه، رق لها وسخط على الرجل، أما هي فأعولت والعبرات تخنقها قائلة لزديج: «أعني، أنقذني من هذا الرجل الذي ليس له نظير في الغلظة والجفاء، أنقذ حياتي.»
هنالك أسرع زديج فألقى بنفسه بينهما ليرد عنها عنف هذا الرجل، وكان له شيء من العلم بلغة المصريين، فقال له في هذه اللغة: «إن كان لك حظ من رحمة، فإني أتوسل إليك أن تحترم الجمال وترفق بالضعف، أتستطيع أن تهين إلى هذا الحد آية من آيات الطبيعة، قد جثت أمامك وليس لها عاصم منك إلا الدموع؟» قال الرجل العنيف: «فأنت تحبها أيضا؟ ومن حقي أن أنتقم منك.» ثم أرسل شعر المرأة الذي كان يجذبه، وصوب إلى الغريب رمحه يريد أن يشق به صدره، وكان زديج محتفظا بهدوئه، فاستطاع أن ينحرف عن الطعنة في يسر، وأخذ بسنان الرمح يجذبه إليه، والمصري يريد أن يحتفظ به، فيتحطم الرمح بين الرجلين، ويسل المصري سيفه فيسل زديج سيفه، ويسعى كلاهما إلى صاحبه، فأما المصري فيرسل ضرباته في غير نظام، وأما خصمه فيتقيها في مهارة، والمرأة جالسة على العشب تصفف شعرها وتنظر إليهما، وكان المصري أقوى من خصمه، وكان زديج أمهر من المصري، أحدهما يقاتل ورأسه يدير ذراعه، والآخر يقاتل وقد ملك الغضب عليه أمره كله، ثم يهجم عليه زديج فيجرده من سلاحه، ولكن المصري يبلغ من الغضب أقصاه، فيهجم على زديج الذي يأخذه فيضغطه فيلقيه على الأرض فيضع ذباب السيف على صدره ويعرض عليه الحياة، هنالك يفقد المصري صوابه، فيستل خنجرا ويجرح به زديج في نفس الوقت الذي كان يهدي إليه العفو فيه، وقد ثارت حفيظة زديج فأغمد سيفه في صدر خصمه، ويدفع المصري صيحة هائلة ثم يلفظ الروح.
ثم يتقدم زديج في خضوع إلى هذه المرأة قائلا لها في صوت هادئ: «لقد أكرهني على أن أقتله، فأنت الآن صرت طليقة قد أمنت شر هذا الرجل الذي لم أر مشبها له في العنف، فماذا تريدين مني الآن يا سيدتي؟» قالت المرأة: «أريد أن تموت أيها المجرم، أريد أن تموت! لقد قتلت حبيبي! وددت لو أمزق قلبك تمزيقا.» قال زديج: «إن لك في الحق لمزاجا غريبا يا سيدتي! لقد كان يضربك ضربا مبرحا، ولقد كاد يسلبني حياتي لأنك طلبت إلي النجدة، فاستجبت لك.» قالت معولة: «وددت لو يضربني الآن ضربا مبرحا! لقد كنت أهلا لما كنت ألقى منه، لقد دفعته إلى الغيرة، وددت لو يضربني الآن وأنت ملقى مكانه.» قال زديج، وقد أخذ منه الدهش والغضب مأخذا عظيما: «سيدتي، إنك لرائعة الحسن، ولكنك أهل لأن أضربك أنا أيضا؛ لأنك شاذة الأخلاق، ولكني لن أكلف نفسي هذا الجهد.» ثم جلس على جمله وسعى نحو الضاحية، ولكنه لا يكاد يمضي إلا قليلا ثم يسمع نبأة، فليتفت وإذا سعاة أربعة من أهل بابل قد أقبلوا مسرعين، فيرى أحدهم هذه المرأة ويصيح: «هذه هي، إنها لتشبه الصورة التي وصفت لنا.» ثم لا يلتفتون إلى الميت، وإنما يحيطون بالسيدة فيخطفونها خطفا، وهي تصيح: «أنقذني مرة أخرى أيها الغريب! إني لنادمة على الإساءة إليك، أنقذني، إني لأعتذر إليك بأني شكوت منك! أنقذني وأنا لك إلى أن أموت.» ولكن زديج كان قد فقد الميل إلى أن يقاتل في سبيلها، فأجابها: «اطلبي المعونة من غيري، فلن تخدعيني مرة أخرى.»
على أنه كان جريحا وكان دمه ينزف، وكان محتاجا إلى بعض العناية، وقد ملأه منظر هؤلاء البابلين الأربعة قلقا، فهم رسل الملك مؤبدار، فيسرع نحو القرية غير متخيل للسبب الذي من أجله يختطف البابليون هذه المرأة، وغير فاهم لأخلاق هذه المرأة نفسها.
الفصل العاشر
الرق
Shafi da ba'a sani ba
ولا يكاد يدخل القرية المصرية حتى يرى الناس قد أحاطوا به، وهم يتصايحون: «هذا هو الذي اختطف ميسوف الحسناء، وقتل كليتوفيس.» قال زديج: «أيها السادة، ليعصمني الله إلى آخر الدهر من أن أختطف حسناءكم ميسوف، فإنها جانحة مسرفة في الجماح، أما كليتوفيس فإني لم أقتله عن عمد، وإنما دافعت عن نفسي حين اعتدى علي، لقد كان أراد أن يقتلني لأني طلبت إليه في أرفق الرفق أن يكف أذاه عن ميسوف، وكان يضربها ضربا مبرحا، وإنما أنا رجل غريب قد أقبل لاجئا إلى مصر، وليس مما يلائم العقل أن أسعى إليكم مستجيرا بكم، ثم أبدأ بخطف امرأة، وقتل رجل.»
وكان المصريون في ذلك الوقت أولي عدل ورحمة، فقد قاد الشعب زديج إلى المركز، وهناك ضمدت جراحه قبل كل شيء، ثم حقق معه ومع خادمه كل على حدة لاستجلاء الحقيقة، فتبين أن زديج لم يتعمد القتل، ولكنه قد أراق دم إنسان، وكان القانون يقضي عليه بالرق، فبيع جملاه لمصلحة القرية، وفرق ما كان يحمل من ذهب على أهلها، وعرض هو وخادمه للبيع في سوق الرقيق، وقد تنافس فيهما المشترون، وتمت الصفقة لتاجر عربي يسمى سيتوك، على أن ثمن الخادم قد كان أرقى من ثمن سيده؛ لأن الخادم أقدر على العمل وأجدر أن يحتمل من المشقة ما لم يكن سيده يقدر على احتماله، ولم ينظر إلى ما بين السيد وخادمه من تفاوت في العقل والمنزلة، فأصبح زديج إذن عبدا خاضعا لخادمه، وقد قرن كلاهما إلى صاحبه في حبل واحد من رجليهما ثم دفعا إلى بيت سيدهما الجديد، وكان زديج في أثناء الطريق يعزي خادمه ويرغبه في الصبر، ولكنه كان على عادته يفكر في حياة الإنسان ومصيره، وكان يقول لخادمه: «إن الشقاء الذي كتب علي يمتد إليك، فقد دارت الأشياء كلها بالقياس إلي دورة غريبة إلى الآن، فقد قضي علي بالغرامة لأني رأيت كلبة تمر، وأشرفت على الموت من أجل العنقاء، وأرسلت إلى العذاب لأني صنعت شعرا أثنيت فيه على الملك، وكدت أشنق لأن شرائط الملكة كانت صفراء، وها أنا ذا أدفع معك إلى الرق لأن رجلا عنيفا ضرب خليلته، فلنحتفظ بشجاعتنا، فقد يكون لألمنا حد يقف عنده، ولا بد لهذا التاجر العربي من أن يملك الرقيق، ولم لا أكون أنا رقيقا كغيري من الرقيق ما دمت رجلا كغيري من الرجال؟ ولن يكون هذا التاجر قاسيا، فقد ينبغي أن يرفق بعبيده إن كان يريد أن ينال منهم خيرا.» كذلك كان يقول لخادمه على حين كان قلبه مشغولا بمصير الملكة أستارتيه.
وقد ارتحل سيتوك العربي بعد يومين مستصحبا خادميه وإبله إلى صحراء بلاد العرب، وكانت قبيلته تسكن قريبا من صحراء أوريب، وكانت الطريق طويلة شاقة، وكان العربي أثناء السفر يؤثر الخادم على سيده؛ لأن الخادم كان يحسن وضع الأثقال على ظهور الإبل، فكان العربي يخصه بالعناية، وقد نفق أحد الجمال على مسيرة يومين من أوريب، فوزع حمله على الخدم، وحمل زديج نصيبه، وكان سيتوك يضحك حين يرى عبيده جميعا يمشون وقد انحنوا لثقل ما كانوا يحملون، وقد استباح زديج لنفسه أن يبين له سبب هذا الانحناء ففسر له قوانين التوازن، فدهش التاجر وجعل ينظر إليه نظرا جديدا، ولما رأى زديج اهتمامه بما سمع استحث حبه للاستطلاع، فتحدث إليه في أشياء كثيرة كانت تتصل بتجارته، كالثقل النوعي للأشياء التي تختلف مادة وتستوي حجما، وخصائص بعض الحيوان التي تنفع الناس، وطرائق الانتفاع بما لا يظهر فيه نفع؛ فتبين لسيتوك أن خادمه حكيم، فآثره وقدمه على خادمه الذي كان يفضله عليه من قبل، ثم أحسن معاملته، ولم يندم فيما بعد على ما قدم إليه من معروف.
ولم يكد سيتوك يصل إلى مضارب القبيلة حتى استقضى يهوديا خمسمائة مثقال من الفضة، وهو دين كان اليهودي قد اقترضه منه أمام شاهدين، ولكن الشاهدين كانا قد فارقا الحياة، فالتوى اليهودي بالدين حامدا لله أن أتاح له هذه النعمة التي مكنته من أن يجحد دين رجل من العرب، فأفضى سيتوك بهمه هذا إلى زديج الذي كان قد أصبح له مستشارا، قال زديج: «في أي مكان أقرضت مثاقيلك لهذا الكافر؟» قال التاجر: «على صخرة ضخمة قريبا من جبل أوريب.» قال زديج: «وما أخص ما يمتاز به مدينك؟» أجاب سيتوك: «يمتاز بالغدر.» قال زديج: «ولكني أسألك أنشيط هو أم كسل، أحذر هو أم أخرق.» قال سيتوك: «هو بين الذين يلتوون بالدين أعظمهم حظا من النشاط.» قال زديج: «أتأذن أن أكون محاميك أمام القضاة؟» ثم دعا اليهودي أمام المحكمة، وتحدث إلى القضاة على هذا النحو: «يا وسائد العرش الذي يستقر عليه العدل، إني أطلب إلى هذا الرجل نيابة عن سيدي خمسمائة مثقال من الفضة قد التوى بها وأبى أن يؤديها.» قال القاضي: «أعندك بينة؟» قال زديج: «لا! لقد مات الشاهدان، ولكن هناك صخرة عريضة عدت عليها المثاقيل، فإذا أذنت المحكمة بحمل هذه الصخرة، فقد أرجو أن تشهد لي، وسنبقى نحن هنا حتى تحمل الصخرة، وسأرسل من يحملها على نفقة سيدي سيتوك.» قال القاضي: «لا بأس.» وجعل ينظر في قضايا أخرى.
فلما كان آخر الجلسة قال لزديج: «ألم تأت صخرتكم بعد؟» فتضاحك اليهودي قائلا: «تستطيع عظمتكم أن تبقى في الجلسة إلى غد دون أن تحضر الصخرة، فهي تقوم على بعد ستة أميال، ولا يستطيع أن يحولها عن مكانها أقل من خمسة عشر رجلا.» فصاح زديج: «ألم أقل لكم إن الصخرة ستشهد لي؟ فما دام هذا الرجل يعرف مكانها فهو يقر بأن المثاقيل قد عدت عليها.» فبهت اليهودي واضطر آخر الأمر إلى الاعتراف، وأمر القاضي بأن يشد هذا الرجل إلى الصخرة ولا يقدم إليه طعام ولا شراب حتى يؤدي الدين.
ومنذ ذلك الوقت أصبح العبد زديج والصخرة موضع ثقة وثناء في بلاد العرب.
الفصل الحادي عشر
التحريق
وبلغ الرضا من سيتوك أن جعل من عبده لنفسه خليلا، وأصبح لا يستطيع أن يستغني عنه كما كان ذلك شأن الملك في بابل، وكان زديج سعيدا لأن سيده لم يتخذ لنفسه زوجا، وكان يتبين في سيده طبعا ميالا إلى الخير، وكثيرا من الاستقامة في السيرة والإصابة في التقدير، وساءه أن سيده كان يعبد جيش السماء؛ أي الشمس والقمر والنجوم، كما جرت بذلك عادة العرب، وكان يتحدث إليه في ذلك متحفظا أشد التحفظ، ثم قال له آخر الأمر: «إن هذه الكواكب والنجوم ليست إلا أجساما كغيرها من الأجسام، وليست أحق بالتعظيم من شجرة أو صخرة.» قال سيتوك: «إنها كائنات خالدة تحقق لنا منافعنا كلها، فهي تشبع الحياة في الطبيعة، وتدبر فصول العام، وهي بعد ذلك بعيدة عنا بحيث لا نستطيع إلا تقديسها.» قال زديج: «إن البحر الأحمر يحقق لك من المنافع أكثر مما تحقق لك هذه الكواكب، حين يحمل تجارتك إلى الهند، وما يمنعه أن يكون قديم العهد كالنجوم؟ وإذا لم يكن بد من أن تعبد ما بعد عنك، فقد يجب أن تعبد أرض جنجاريد التي هي في أقصى العالم.»
قال سيتوك: «كلا! إن النجوم مشرقة إشراقا يفرض علي عبادتها.» فلما جن الليل أشعل زديج عددا ضخما من المصابيح في الخيمة التي كان يجب أن يجلس فيها إلى العشاء مع سيتوك، فلما أقبل مولاه جثا أمام هذه المصابيح قائلا: «أيها الضوء المشرق الخالد، وفقني دائما لما أريد.» ثم جلس إلى المائدة دون أن ينظر إلى سيتوك، قال سيتوك مدهشا: «ما خطبك؟» قال زديج: «إنما أصنع صنيعك، فأعبد هذه المصابيح وأهمل سيدها وسيدي.» هنالك فهم سيتوك فحوى هذه الإشارة، ونفذت حكمة عبده إلى نفسه، فأعرض عن عبادة المخلوقات وعبد الخالق الخالد الذي فطرها.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت تتحكم في بلاد العرب لتلك الأيام عادة منكرة نقلت إليها من بلاد السيتيين بعد أن استقرت في الهند بفضل البراهمة، وكادت تعم الأرض كلها، وكانت هذه العادة تقضي إذا مات رجل وأرادت امرأته أن تكون قديسة أن تحرق نفسها على جسم زوجها بمشهد من الناس، وكان ذلك يجري في حفل عظيم يسمى حريق الترمل، وكانت القبيلة التي تعد كثيرا من النساء المحرقات تمتاز بحسن الذكر وبعد الصوت، وقد مات عربي من قبيلة سيتوك، فقررت زوجته ألمونا وكانت صالحة أن تتبعه، وأعلنت اليوم والساعة اللذين اختارتهما لتلقي نفسها في النار على قرع الطبول ودعاء المزامير، وقد أظهر زديج لسيتوك أن هذه العادة البشعة مسيئة أشد الإساءة إلى النوع الإنساني، فهؤلاء النساء اللاتي يتركن نهبا للحريق في كل يوم خليقات أن يمنحن الدولة عددا ضخما من المواطنين، وأن يربين أطفالهن على أقل تقدير، وما زال به حتى أقنعه بأن من الخير إلغاء هذه العادة إن كان ذلك ممكنا، قال سيتوك: «لقد مضى أكثر من خمسمائة وألف عام والنساء يحرقن، فأينا يجرؤ على أن يغير قانونا قدسه الزمن؟ هل يوجد شيء أجدر بالاحترام من ظلم بعد به العهد؟» قال زديج: «إن العقل أقدم من هذه العادة، فتحدث أنت إلى شيوخ القبيلة، وسأذهب أنا إلى هذه الأرملة الشابة.»
فتلطف حتى قدم إليها، ثم جعل يتملقها بالثناء على جمالها، ثم بين لها أن مما يحزن ويسوء أن يحرق سحرها العظيم للنار، ثم أثنى على ثباتها وشجاعتها، ثم قال لها: «أكنت تحبين زوجك إذن حبا جما؟» قالت: «أنا؟ كلا لم أحببه قط! لقد كان عنيفا غيورا لا سبيل إلى احتماله، ولكني على ذلك مصرة على أن أحرق نفسي في أثره.» قال زديج: «يجب أن تكون هناك لذة لا نظير لها في أن يحرق الإنسان نفسه حيا.» قالت السيدة: «هذا شيء ترتعد له الفرائص، ولكن لا بد مما ليس منه بد، إني تقية، وما أحب أن أشتهر بالسوء، ولا أن أتعرض للسخرية لاجتناب هذه النار.» فبين لها زديج أنها إنما تحرق نفسها إرضاء لغيرها، وأن الغرور هو الذي يدفعها إلى ذلك، ثم ما زال يرفق بها حتى حبب إليها الحياة شيئا ما، بل استطاع أن يعطفها قليلا على هذا الذي كان يتحدث إليها، ثم قال لها: «ما عسى أن تصنعي لو برئت من هذا الغرور الذي يدفعك إلى النار؟» قالت السيدة: «وا حسرتاه لو برئت من هذا الغرور، لطلبت إليك أن تتخذني لنفسك زوجا.»
ولكن زديج كان مشغولا بحب أستارتيه، فلم ير بدا من أن يروغ عن هذا الدعاء، ثم سعى إلى شيوخ القبيلة، وطلب إليهم أن يصدروا قانونا يحظر على كل أرملة أن تحرق نفسها دون أن تخلو ساعة كاملة إلى فتى من الفتيان، ومنذ ذلك الوقت لم تحرق عربية نفسها، ودانت بلاد العرب لزديج بهذه المكرمة التي ألغى بها في يوم واحد عادة مضت عليها القرون، وأصبح زديج محسنا إلى بلاد العرب كلها.
الفصل الثاني عشر
العشاء
وقد أصبح سيتوك حريصا على ألا يفارق زديج هذا الذي استقرت الحكمة في قلبه، فاستصحبه إلى سوق البصرة؛ حيث كان يلتقي أكبر التجار في جميع أقطار الأرض التي يسكنها الناس، وكان لقاء عدد ضخم من الناس على اختلافهم في الوطن والمنزلة والطبقة مصدر عزاء لزديج عن بعض همه، وقد خيل إليه أن العالم إنما هو أسرة كبيرة قد اجتمعت في البصرة.
فلما كان اليوم الثاني من إقامته في البصرة جلس إلى مائدة العشاء مع جماعة فيهم المصري والهندي من جنجاريد، والنازح من أرض كتاي، واليوناني، والكلتي، وآخرون من الغرباء، وكل هؤلاء الناس قد تعودوا الرحلة إلى شط العرب؛ حتى تعلموا شيئا من العربية كانوا يديرون به الحديث فيما بينهم، وكان المصري يظهر شديد الغضب، وكان يقول: «ما أقبح البصرة من بلد! إن أهلها يأبون أن يقرضوني ألف مثقال من ذهب على أن يرتهنوا بها أقوم عين في الدنيا.» قال سيتوك: «وكيف كان ذلك؟ وما هذه العين التي لم يرتهنوها بهذا المال؟» قال المصري: «جثة عمتي، وكانت أرضى نساء مصر خلقا، وكانت ترافقني دائما، فماتت في بعض الطريق، وقد اتخذت منها أحسن ما عرفت مصر من المومياء، ولو رهنتها في وطني لأخذت عليها كل ما طلبت من مال، وإنه لغريب أن يضن علي بألف مثقال مع أني أقدم في سبيلها هذا الرهن القيم الخطير.» وكان في أثناء غضبه يتهيأ لأكل دجاجة سليق، فأخذ الهندي بيده وصاح متألما: «ماذا تريد أن تصنع؟» قال صاحب المومياء: «أريد أن آكل من هذه الدجاجة.» قال الهندي: «إياك أن تفعل! فقد يجوز أن يكون روح عمتك قد تقمص هذه الدجاجة، وما أراك تحب أن تأكل عمتك، وإن في طبخ الدجاج لإهانة بالغة للطبيعة.» قال المصري الغضوب: «ماذا تريد أن تقول حين تحدثنا عن طبيعتك ودجاجك؟ إنا نعبد الثور ونأكل منه مع ذلك.» قال ساكن شاطئ الجانج: «أيمكن أن تعبدوا ثورا؟» قال المصري: «لا غرابة في ذلك، فنحن نعيش على عبادة الثورة منذ خمسة وثلاثين ومائة ألف من السنين، لم ينكر ذلك أحد منا.» قال الهندي: «خمسة وثلاثون ومائة ألف! هذا غلو في الحساب، فلم تسكن الهند إلا منذ ثمانين ألف سنة، ونحن مع ذلك أقدم منكم، ليس في ذلك شك، وقد حرم علينا براهما أن نأكل من الثور قبل أن تضعوه أنتم على المذابح لتعبدوه، وفي النار لتأكلوه.»
قال المصري: «إنك لتضحكني حين تذكر براهما لتوازن بينه وبين آبيس، وماذا تظن أن براهما قد صنع من غرائب المعجزات؟» قال البراهمي: «هو الذي علم الناس القراءة والكتاب، وهو الذي تدين له الأرض كلها بلعبة الشطرنج.» قال كلداني كان يحاورهما: «لقد أخطأت! إنما يونس الحوت هو الذي أسدى إلى الناس هذه المكارم، فينبغي أن يرد إليه حقه ويعرف له فضله، والناس جميعا ينبئونك بأنه كان كائنا إلهيا له ذيل مذهب ورأس إنسان، وأنه كان يخرج من الماء ليعظ أهل الأرض ثلاث ساعات في كل يوم، وقد ولد له بنون كثيرون وكلهم كان ملكا كما يعرف الناس جميعا، وإن عندي صورة له أعبدها كما ينبغي لها أن تعبد، وللناس أن يأكلوا من لحم الثور ما أحبوا، ولكن ليس لهم أن يطبخوا السمك، ومع ذلك فأنتما تنتميان إلى أصل حديث العهد قليل الحظ من الشرف، فما ينبغي لكما أن تجادلا، فالأمة المصرية لا تعد إلا خمسة وثلاثين ومائة ألف عام، والهند لا تفاخر إلا بثمانين ألف عام، أما نحن فإن تقاويمنا تسجل أربعة آلاف من القرون؛ فاسمعا لي وأعرضا عن هذا الهذيان، وأنا زعيم أن أهدي إلى كل واحد منكما صورة من صور يونس.»
قال ساكن كمبالو: «إني أكبر المصريين، والكلدانيين، واليونان، والكلتيين، وبراهما، والثور آبيس، والحوت العظيم يونس، ولكن ربما كان «اللي» وهو نور الطبيعة أو «القيان» وهو السماء والإله أحق بالتكرمة من الثور والسمك، ولن أقول شيئا عن وطني، فهو أكبر من مصر وبلاد الكلديين والهند جميعا، ولن أجادل في قدم العهد، فحسب الإنسان أن يكون سعيدا، وليس أهون من أن يكون قديم الأصل، وإذا لم يكن بد من ذكر التقاويم فإني أقول إن آسيا كلها تستعير تقاويمنا، وإننا أحسنا وضع التقاويم قبل أن يتعلم الكلدانيون الحساب.»
هنالك صاح اليوناني: «إنكم جميعا لجاهلون! ألا تعلمون أن الكاووس هو أصل كل شيء، وأن المادة والصورة هما اللتان جعلتا العالم كما هو الآن؟» وقد تكلم اليوناني فأطال الكلام، ولكن الكلتي الذي أسرف في الشرب أثناء هذا الحوار ظن أنه أعلم منهم جميعا، وصاح قائلا إنه ليس غير توتة والبلوط شيء يستحق التكريم والإجلال، وإنه هو يحمل دائما من هذا الزهر في جيبه، وإن أجداده السيتيين هم وحدهم أهل الخير في الأرض كلها، وإنهم في الحق ربما أكلوا جسم الإنسان، ولكن ذلك لا يمنع من أن من الحق على الناس أن يعرفوا لهم قدرهم، وأن من ذكر توتة بسوء فسيعلمه كيف ينبغي أن يعيش.
Shafi da ba'a sani ba
وقد اشتدت الخصومة حينئذ، ورأى سيتوك أن المائدة توشك أن يصبغها الدم، وكان زديج قد احتفظ بالصمت أثناء هذا الحوار كله، فنهض إذ ذاك ثم اتجه إلى الكلتي؛ لأنه كان أشد القوم غضبا، وقال له: إنه مصيب، وطلب إليه بعض زهره، وحمد لليوناني بلاغته، وهدأ النفوس الثائرة، ولم يقل لصاحب كتاي إلا قليلا لأنه كان أعقل القوم جميعا، ثم قال لهم جميعا: «أيها الأصدقاء، لقد كدتم تختصمون في غير طائل؛ لأنكم جميعا متفقون.» هنالك تصايح القوم، قال للسيتي: «أليس من الحق أنك لا تعبد الزهر والبلوط، وإنما تعبد صانعهما؟» قال الكلتي: «لا شك في ذلك.» «وأنت يا سيدي المصري إنما تعبد في بعض الثيرة من خلق لك الثور.» قال المصري: «نعم.» «ويونس الحوت يجب أن يذعن لمن خلق البحر والسمك.» قال الكلداني: «أوافق على ذلك.» قال: «والهندي والكاتي يعترفان من غير شك بالمبدأ الأول لكل شيء، ولم أفهم هذا الكلام الرائع الذي تكلم به اليوناني، ولكنه واثق بأنه يسلم بوجود كائن عظيم هو الذي أنشأ المادة والصورة.» قال اليوناني وقد أحس الإعجاب به إن زديج قد فهم عنه حق الفهم، قال زديج: «فأنتم إذن على رأي واحد، وليس هناك ما يدعو إلى الخصومة.» فأقبل القوم عليه يعانقونه؛ ثم باع سيتوك تجارته بيعا رابحا وعاد مع صديقه إلى قبيلته، ولكن زديج عرف عند وصوله أن قضيته قد نظرت أثناء غيبته، وأن الحكم قد صدر عليه أن يحرق في نار هادئة.
الفصل الثالث عشر
الموعد
وكان كهنة الكواكب قد أزمعوا أثناء رحلته إلى البصرة أن يعاقبوه، فقد كانت جواهر الأرامل اللاتي يرسلن إلى النار وحليهن تئول إليهم، فلم يكن أقل من أن يحرقوا زديج عقابا له على ما جر عليهم من خسارة، فاتهموه إذن بسوء رأيه في جيش السماء، ورفعوا القضية، وأقسموا على أنهم قد سمعوه يقول: إن نجوم السماء لا تغرب في البحر، وقد ارتعد القضاة لهذا الكفر الشنيع، وكادوا يمزقون ثيابهم حين سمعوا هذا المنكر من القول، وقد كانوا أحرياء أن يفعلوا لو علموا أن لزديج من المال ما يعوض عليهم ثيابهم، ولكنهم حين انتهى بهم الألم إلى أقصاه اكتفوا بالحكم عليه أن يحرق في نار هادئة، وقد جزع سيتوك وأنفق ما كان يملك من جهد لينقذ صديقه، ولكنه أكره على الصمت إكراها، هنالك أزمعت الأرملة الشابة ألمونا أن تنقذه، وكانت قد أحبت الحياة بفضل زديج، فأرادت أن تعصمه من النار التي بين لها ما فيها من الظلم، فأدارت رأيها في رأسها دون أن تتحدث به إلى أحد، وكان مقررا أن يحرق زديج من غده، فلم يكن أمام الأرملة إلا الليل لإنقاذه، وإليك الخطة التي دبرتها في رحمة ورفق وحذر.
تعطرت وازينت حتى جعلت جمالها ساحرا فاتنا، ثم طلبت لقاء خاصا إلى رئيس كهنة النجوم، فلما مثلت أمام هذا الشيخ الجليل قالت له: «أيها الابن البكر للدب الأعظم، يا أخا الثور، وابن عم الكلب الأكبر - وكانت هذه ألقاب رئيس الكهنة - لقد أقبلت أفضي إليك بذات نفسي، إني لمشفقة أن أكون قد وقعت في خطيئة عظيمة حين لم أحرق نفسي في أثر زوجي العزيز، وعلى ماذا أردت أن أبقي جسم هالك قد أخذت فيه السن!» قالت ذلك وهي تخرج من كمها الحريري ذراعها العارية ذات الصورة الرائعة والبياض الخلاب، قالت: «انظر، ما أهون هذا وما أقل خطره!» ووجد زعيم الكهنة في دخيلة نفسه أن هذا شيء عظيم الخطر، قالت ذلك عيناه وأكد ذلك فمه، فقد أقسم أنه لم ير قط في حياته أجمل من هذه الذراع، قالت الأرملة: «وا حسرتاه! لعل الذراع أن تكون خيرا من سائر الجسم، ولكنك توافقني على أن النحر لم يكن خليقا بعنايتي.» ثم أظهرت أجمل ثدي صنعته الطبيعة لو قرن إليه زر من الورد على تفاحة من العاج لأذى بها، ولو قرنت إليه الحملان بعد غسلها لظهرت بالقياس إليه صفراء مشبعة بالسمرة، هذا النحر وهاتان العينان الكبيرتان الفاترتان المشرقتان بنار رفيقة وهذان الخدان اللذان يزدهيان بأجمل الأرجوان قد خالطه بياض اللبن النقي، وأنفها الذي لم يكن كبرج جبل لبنان، وشفتاها اللتان كانتا كطرفي محارة من مرجان تضمر أجمل ما في بحر العرب من اللآلئ،
1
كل هذا مجتمعا أشعر الشيخ بأنه ابن عشرين، فأعلن إليه حبه متلعثما، ولما رأته ألمونا ملتهبا سألته العفو عن زديج، قال: «وا حسرتاه! أيتها السيدة الحسناء، لو أجبتك إلى ما تطلبين لما أغنى عفوي عنه شيئا، فقد يجب أن يمضي هذا العفو ثلاثة آخرون من الزملاء.» قالت ألمونا: «فأمض أنت.» قال الكاهن: «مع السرور بشرط أن يكون عطفك ثمنا لعفوي.» قالت ألمونا: «إنك لتغلو في تشريفي، فتفضل بزيارتي إذا غربت الشمس، وأشرقت في الأفق النجمة شيت، فستجدني على إيوان وردي اللون، وستصنع بخادمتك ما تشاء!» ثم خرجت ومعها الإمضاء، وتركت الشيخ يصرعه الحب ويخيفه الشك في قوته، وأنفق سائر اليوم في حمامه، واحتسى شرابا مزاجه من قرفة سيلان وبهار تيدوروترنات، وانتظر وقد كاد يفقد الصبر أن تظهر النجمة شيت في الأفق.
وفي أثناء ذلك مضت ألمونا الحسناء فلقيت الكاهن الثاني، فأكد لها أن الشمس والقمر وكل ما في السماء من نجوم ليست إلا نارا موهومة بالقياس إلى سحرها، فطلبت إليه العفو نفسه، وطلب إليها أن تؤدي ثمنه، فأظهرت الإذعان وضربت موعدا للكاهن الثاني حين تشرق النجمة الجنيب، ثم مضت إلى الكاهن الثالث وإلى الكاهن الرابع، ظافرة دائما بالإمضاء، ضاربة موعدا من نجم إلى نجم. ثم طلبت إلى القضاة أن يلموا بدارها لأمر ذي بال، فلما حضروا أظهرت لهم الأسماء الأربعة، وأنبأتهم بأي ثمن باع الكهنة عفوهم عن زديج، وأقبل كل واحد من الكهنة في موعده، ودهش كل واحد منهم حين رأى زملاءه وبنوع خاص حين رأى القضاة الذين تبينوا خزيهم واضحا، وكذلك نجا زديج، أما سيتوك فقد فتنته مهارة ألمونا فاتخذها له زوجا.
الفصل الرابع عشر
الرقص
Shafi da ba'a sani ba