ومن الخطأ أن نتصور عالما حديثا يتمسك بنظريات السابقين من العلماء؛ لأن العالم الحقيقي لا يسعى إلى تطوير نظرياته فحسب، بل هو على استعداد لأن يقلبها رأسا على عقب، عندما يفرض عليه تقدم العلوم أن يتخلى عنها؛ فالإنسان في زماننا لا يعنيه أن يقيم نصبا تذكاريا لمجد الإنسان. إنما تهمه فاعلية الأعمال ذاتها.
والفنان، كالعالم، صناعته الكشف عن الكون، ولو بطريقته الخاصة؛ فالتصور والإدراك الداخلي، الفهم والرمز، كلها عناصر في عالم الفنان ورجل العلم، ولكن في أدوار مختلفة وبدرجات متفاوتة. والفرق بين اقتحام دنيا رجل العلم ودنيا رجل الفن، هو فرق في التوقيت والدرجة. كما أن إحساس الفنان بالحقيقة العلمية لا ينفصل عن طبيعة الفن.
مثلا، ما كشف عنه الميكروسكوب الإلكتروني، والتصوير الفوتوغرافي على البعد، وفحص الأفلاك بأمواج الأثير، أضاف ثروة من الأشكال الجديدة لعالمنا. ومع ذلك فالفنان كان سباقا إلى إدراك بعض هذه الأشكال عن طريق مخيلته وحاسته الفنية.
والقوالب أو الصيغ الجديدة (الأشكال) لا تجيء تبعا لحسابات عقلية هادئة إنما يحققها رجل الفن بتجاربه الإنسانية وإحساسه المرهف بتنوع أشكال المادة. ويقول أينشتاين: إن مطالعة
دوستويفسكي
أعانته على الوصول إلى النظرية النسبية. لماذا؟ لأن
دوستويفسكي
كان شديد الحساسية بالحياة عميق النفاذ إلى أركانها حتى ليعتبر مكتشفا قاسيا جريئا لأغوار النفس البشرية.
الإدراك الداخلي والتصور أساس كل عمل خلاق؛ فالعالم يتصور ويتخيل ما لا يراه، كما حدث في الكشف عن داخل الذرة، أو عن مادة التوريت، وكذلك الفنان، إدراكه الداخلي وتصوره يقودان إلى اكتشاف أشياء بأسبق ما توصلت إليه الملاحظة المباشرة. والفن الصادق الأصيل هو الذي يكشف الغطاء.
والإنسان المعاصر، وهو ينقب عن حقائق جديدة، لا يضيع وقته في تكرار ما عرفه الناس من قبل، ولا في المرور بأدوار الاختراعات من أولها؛ فهناك آلات للملاحظة والتسجيل والحساب تعصم الإنسان من أن يكون مجرد متأمل للطبيعة؛ لأن الفنان ولد ليخلق لا ليكون مسجل عقود، أو رئيس حسابات الكون.
Shafi da ba'a sani ba