وهذا الوعي القومي الذي حدث في العالم الإسلامي من جراء هجوم الأوروبيين عليهم واستعمارهم؛ سبب ثورة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، فشبت في الجزائر ثورة سنة 1871، وهب رجال الدين في كل بلد من بلاد إفريقية الشمالية يستثيرون المسلمين، ويستنفرونهم للحرب والجهاد، وكانت ثورة المهدي في السودان المصري، وهي ثورة دامت طويلا، وكلفت الإنجليز خسارات كبيرة، ولم تخمد حتى استطاع كتشنر أن يستولي على الخرطوم، وانفجر في أفغانستان بركان حقد وعداء للغرب، وطارت شرارة منه إلى مسلمي الهند فألهبت صدورهم، فهبوا يشقون الطاعة ضد الإنجليز، وثارت أواسط آسيا على يد الطريقة النقشبندية، فأخذت تمتد، وتنتشر شرقا حتى بلغت الأقطار الصينية، فثار مسلمو الصين ثورتهم الكبرى في تركستان، وأشعلت جزائر الهند الشرقية الهولندية ثورات متوالية. ولكن هذه الثورات كلها كانت محلية متقطعة يعوزها التنظيم والاتحاد، وتوحيد قوة القيادة، والإيمان بأنه لا يصد الأوروبيين مجتمعين إلا الجامعة الإسلامية. وقد أدرك هذا بعض القادة مثل محمد ابن عبد الوهاب في الحجاز، والسنوسي في الصحراء، والسيد جمال الدين الأفغاني، ولكن كان هناك حركة معاكسة؛ لهذا ترى أنه لا يمكن الإصلاح إلا إذا قوت أولا كل أمة نفسها، وحذت حذو أوروبا في جميع مناهجها في النهضة، كحركة مصطفى كمال في تركيا، ومحمد علي في مصر، وأمان الله خان في الأفغانستان. فكل هذه الحركات كانت حركات لا دينية لا تؤمن بالجامعة الإسلامية. ولذلك تخلى مصطفى كمال عن العرب. بينما كان محمد بن عبد الوهاب والسيد جمال الدين والسنوسي ينظرون دائما إلى عهد الإسلام الأول، وقدرة نظامه على الإصلاح التام، وضرورة اجتماع كلمة المسلمين كما كانوا مجتمعين من قبل أن تفرقهم السياسة والمذاهب الدينية.
فالنزعتان مختلفتان، والطريقان أيضا مختلفان. وإذا قلنا إن حركة مصطفى كمال ومحمد علي حركة لا دينية فلم يكن هذا بمعنى واحد؛ فإصلاحات مصطفى كمال ترمي إلى التهور في تقليد الأوروبيين، أما محمد علي فحركته - وإن كانت لا دينية - فترمي إلى شيء من الاعتدال في تقليد الأوروبيين. ولئن كانت حركة مصطفى كمال ومحمد علي مناسبة لشعبيهما، قد تقبلها الشعب التركي والمصرى بقبول حسن؛ فإن الشعب الأفغاني لم يستطع - لتأخره - أن يهضم حركة الإصلاح التي قام بها أمان الله خان يقلد فيها حركة مصطفى كمال، بينما مجد الشعب التركي مصطفى كمال، والشعب المصري محمد علي.
أما حركة مصطفى كمال؛ فإنه بعد انتصاره على اليونان أخذ يفكر في الأسباب التي أدت إلى انهيار تركيا هذا الانهيار، ومحوه لهذه الأسباب وتقليده للأوروبيين في كل تصرفاتهم، فوطن مصطفى كمال نفسه على أن يسير في الطريق الذي سار فيه الأوروبيون لتكوين نهضتهم وتدعيمها، واتخذ الحضارة الأوروبية إماما له - ولو خالفت الإسلام - غير ناظر مطلقا إلى المبادئ الإسلامية، بل لا يأنف أن يهاجمها إذا تعارضت مع الحضارة الأوروبية.
ونفخ مصطفى كمال في الأمة روحا جديدة ترمي إلى الاعتزاز بقوميتهم بدل الاعتزاز بدينهم، وبث في قومه العزة والفخار بوصفهم أحفاد الطورانيين، كما كان بعض الدعاة في مصر يدعون للاعتزاز بأنهم أحفاد الفراعنة. وأيد الفكرة الضعيفة التي قال بها بعض علماء قليلين من الأوروبيين التي تذهب إلى أن لغة السومريين منشئي الحضارة البابلية القديمة كانت ذات صلة بالتركية والقائلة بأن اكتشافات حدثت في الأناضول تدل على أن شعوب آسيا الصغرى اقتبست من حضارة الحيثيين التي أخذت من البابليين، ثم أخذتها شعوب آسيا الصغرى، وعنها أخذ الجنس الأوروبي، فأصل الحضارات كلها إذن في زعمهم هي الحضارة التركية.
ثم صفيت اللغة التركية من كثير من الكلمات العربية والفارسية، وبحث مكانها عن كلمات طورانية قديمة، حتى الأعلام، مثل: مصطفى كمال غيرت بكلمات أخرى مثل أتاتورك. وفي سنة 1928 دعا مصطفى كمال مؤلفا موسيقيا نمسويا للتدريس في المعهد الموسيقي بإستنبول لإدخال العنصر الأوروبي في الموسيقى على العنصر التركي.
وكان طبيعيا أن يساير الأدب هذه النهضة، من مثل: الأديبة التركية خالدة أديب التي لحقت مصطفى كمال إلى الأناضول، وشاركت بنفسها في معارك التحرير، وصورتها تصويرا رائعا في روايتها «قميص النار».
ورعى مصطفى كمال الفنون والآداب رعاية تامة؛ علما منه بأنها تخدمه خدمة كبرى في نزعاته الجديدة، فشجع المعماريين الأتراك على أن ينشئوا العمارات الكبيرة وفقا لأحدث الطرز الأوروبية الحديثة. وشجع النحاتين الألمان أن ينحتوا تماثيل كالتماثيل الأوروبية، وفي مقدمتها تمثال أتاتورك. واستقدم رسامين فرنسيين؛ ليعلموا الأتراك أصول فن الرسم الحديث، كما استقدم بعض مشاهير الموسيقيين، وألحقهم بمعهد إستنبول. وشجع الأدباء الذين ينهجون في أدبهم منهجا يوافق نهضتها، من مثل: الشاعر الغنائي الكبير عبد الحق حامد، والشاعر أحمد هاشم، والقصصي الروائي يعقوب قدري، الذي وضع القصة على أساس فن روائي حديث.
أما محمد علي في مصر؛ فقد كان أكبر اهتمامه بالجيش وإصلاحه، وتدعيم وسائل هذا الإصلاح من غير هزة عنيفة كالتي عملها في تركيا مصطفى كمال، وقد أنشأ الجديد مع محافظته على القديم. فالمدارس المدنية بجانب الأزهر، والقضاء الأهلي بجانب المحاكم الشرعية، والكتب الأدبية المترجمة بجانب الكتب التركية والعربية القديمة، وهكذا.
كانت حركة مصطفى كمال في تركيا، ومحمد علي في مصر، وأمان الله خان في أفغانستان حركات لا دينية بالمعاني التي ذكرناها قبل، ولم تكن تنظر إلى الجامعة الإسلامية، ولم ينظروا إلى المبادئ الإسلامية في قليل أو كثير، وإن كان محمد علي كان يريد التوسع في مملكته بقدر الإمكان لا لإنشاء جامعة إسلامية، ولكن لإنشائه دولة واسعة علوية تشمل العراق وسوريا والأناضول ومصر.
يقابل هذه الحركة حركات أخرى تريد الجامعة الإسلامية وتريد النظر إلى الإسلام في حالته الأولى، مثل: محمد بن عبد الوهاب في الحجاز، والسيد جمال الدين الأفغاني في مصر، والسنوسي في ليبيا.
Shafi da ba'a sani ba