صلى الله عليه وسلم
تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله - تعالى - فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية؛ فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها، وكانوايتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، ويقبلون على الله - تعالى - بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف؛ فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم؛ فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة فتعرفوا إليهم، وطلبوا منهم الولايات والصلات، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله - تعالى - في كل عصر من علماء دين الله.
وقد أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية؛ لشدة الحاجة إليهما في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يستمع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فتغلبت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنة، وقمع المبتدعة، وكان زعم من قبلهم أن غرضهم الاشتغال بالفتاوى الدينية، وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد - رحمهم الله تعالى - وغيرهم. وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذاهب، وتمهيد أصول الفتاوى، فأكثروا من التصانيف في الاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن ، ولسنا ندري ما الذي يجد الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلاف والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معه، ولم يسكتوا أيضا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، ولا مطلب لهم سوى التقرب من رب العالمين. ا.ه.»
أقول هذا ما قاله حجة الإسلام في جماهير علماء المسلمين إلى عهده في أواخر القرن الخامس والقرون الخمسة الأولى خير زمن المسلمين علما وعملا وتمسكا بالدين، ثم كان الأمر أمر من ذلك وأقسى من جهالة العلماء، ومزج الدين بالتصوف وبالخرافات، فازداد تفرقهم إلى شيع، ثم احتاج إليهم الأمراء في تخدير الرعية، وإثارة الخلاف بين السنية والشيعة، فعملوا بإشارتهم، وخدروا الرعية كما أمروا، وبالغوا في تعليم الناس أن ما كان مقدرا لا بد أن يكون، وأن ما يحدث بقضاء الله وقدره، وأن الفقير فقير لقضاء الله عليه بالفقر، والغني غني لقضاء الله له بغناه، والسلطان سلطان بقضاء الله بسلطانه. وأن السلطان ليس مطلوبا منه عدل في رعية ولا نظر إلى مصالحها؛ فهو إنما يفعل ما يفعل تحقيقا لمشيئة الله.
كل هذا أضعف من قيمتهم في نظر الملوك أنفسهم وفي نظر الشعوب إلا من عصم ربك، ومثل علماء الدين مشايخ الطرق الصوفية، وقد خضعوا أيضا للسلطان، واستذلوا له وخدروا الشعب من طريق تصوفهم تارة بأن الولاية يصح أن تجتمع مع مخالفة الدين، وتارة من جهة أن السلطان خليفة الله، وإنما يأتي ما يأتي بأمر من الله وإطاعته، فتعاونوا مع الأمراء تعاون العلماء معهم في خدمة مصالحهم الشخصية من طريق خدمتهم للسلاطين والكبراء. على أن الدين في كل أمة ليس هو كل شيء ورقي الأمم وانحطاطها يرجع إلى أسباب كثيرة أحدها الدين. يرجع إلى الحالة الاقتصادية في الشعوب، وإلى الحالة الاجتماعية، وإلى وجود العلماء المخترعين، وإلى الدين أيضا، بل إن الدين يتلون بلون الأمة ولون عقيدتها، فالنصارى أنفسهم دينهم اليوم ، وإن سمي بالنصرانية ليست هي النصرانية التي كانت في القرون الوسطى، ولا النصرانية التي كانت في أول عهد البروتستنتية، لكنها نصرانية تغيرت بتغير العقلية. وحسبنا دليلا على ذلك أن أمة اليابان وهي وثنية الدين لما حذت حذو أوروبا وأمريكا في نهضتها؛ فأيدت علماء الطبيعة والكيمياء وعلمتهم التعليم الحديث، وشجعتهم على الاختراع والابتكار ساروا سيرها، ووصلوا إلى ما وصلت إليه أوروبا وأمريكا، وحاربوا روسيا وانتصروا عليها، ثم حاربوا أوروبا وأمريكا وانتصروا عليهم أولا وإن انهزموا أخيرا. ولم تمنعهم وثنيتهم أولا من النهوض والتقدم، وكان تقدمهم في وسائل النهضة الأخرى مغطيا لانحطاطهم الديني؛ فكيف لو صلح دينهم وسمت روحانيتهم؟! فقوانين النهوض والانحطاط واحدة في جميع الأمم، وطبيعية كطبيعة الشمس تطلع على الكافر والمؤمن وتنبت الزرع للكافر والمؤمن، ولم يجعل الله التقدم مقصورا على أمة دون أخرى، وعلى أهل دين دون آخرين، إنما هي هذه القواعد الطبيعية التي من سار عليها تقدم؛ مسلما كان أو كافرا أو وثنيا، ومن لم يسر عليها تأخر؛ مسلما كان أو كافرا أو وثنيا والله - تعالى - يقول:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، والمتقون هنا من راعوا كل شروط التقدم، لا من أكثروا الصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، فإذا استوفت أمة كل هذه الشروط تقدمت لا محالة، وإذا كانت هذه الشروط عشرة فاستوفت تسعة أو ثمانية كان تقدمها بمقدارها. والدين أحد هذه الشروط، لا كلها؛ فالمشركون لو توفرت لديهم كل الشروط ما عدا الدين تقدموا تقدما ناقصا بقدر عامل الدين الصحيح.
وقد شاء الله أن يكون تقدم الأمم وانحطاطها. بشروط طبيعية، كشروط تمدد الأشياء بالحرارة وانكماشها بالبرودة، وانجذابها وفقا لقانون الجاذبية، والكهربة وفقا لقوانين الكهربة وهكذا، فإذا حصلت الأسباب حصلت المسببات، فإذا سار المسلمون سير غيرهم في تقدمهم نهضوا نهضتهم، وبقدر ما يحققون من شروط يكون مقدار نهضتهم، ولا يعبأ الله بالأسماء؛ مسلما كان أو نصرانيا أو وثنيا، إنما يعبأ بالأسباب. والمثل العربى يقول: «ومن سار على الدرب وصل.» وأول هذه الشروط هو الوعي القومي الناضج ومعرفته هدفه. وقد تقدم المسلمون بعض التقدم على قدر وعيهم القومي غير الناضج، وغير المحدد الهدف، فإذا حدد هدفهم، ونضج وعيهم زاد تقدمهم وإلا لا. سنة الله التي خلق الناس عليها ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، والله - تعالى - يقول:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فتقدم المسلمين أولا وتأخرهم أخيرا ثم نهضتهم ثالثا لم تكن مجرد حوادث ليس لها تعليل طبيعي، وإنما هي معللة تعليلا طبيعيا يدركه ذوو العقول الراجحة.
لو نظرنا إلى حال المسلمين في عهد الرسالة وصدر الإسلام وجدناهم كتلة واحدة توحدت غاياتها، وتوحدت عقيدتها، وتوحدت تقريبا جنسيتها، ولهذا كانوا قوة فتحت فأحسنت الفتح، ونظمت فأحسنت التنظيم. وليس يقوم للعالم الإسلامي قائمة إلا بهذا التوحيد في العقيدة وفي العمل، ولهذا دعا كثير من المصلحين إلى الجامعة الإسلامية ويعنون بها الرابطة التي تربط بين المسلمين في مختلف الأقطار من فرس وترك وعرب، وقد كانت كلمة مفزعة لأوروبا في القرن الماضي، وليس صحيحا ما قاله المرحوم سعد باشا زغلول: «إن صفرا وصفرا يساوي صفرا»، بل الصحيح أن: «ناقص خمسة في ناقص خمسة يساوي زائد خمسة وعشرين» فكل دولة وحدها قد لا تساوي شيئا، ولكنها جميعا تستطيع الوقوف أمام الاستعمار الأوروبي، وإذا كان الأوروبيون يتكتلون على الباطل لمحق المسلمين، فأولى أن يتكتل المسلمون على الحق لدفع كارثة الاستعمار، وقد كان أول من نادى بها في العصر الحديث السيد جمال الدين الأفغاني، وخلفه الشيخ محمد عبده، والسيد عبد الرحمن الكواكبي، غير أن طريقة السيد جمال الدين كانت قوية عنيفة؛ إذ كان يريد الثورة على الملوك والأمراء في الداخل، وإشعال نار الشعوب ضد الخارج، أما الشيخ محمد عبده فكان في ذلك هينا لينا يريد الجامعة الإسلامية من طريق التربية والتعليم، والسيد عبد الرحمن الكواكبي كان أقرب إلى السيد جمال الدين، وكان أشد فى محاربة الأمراء، وألف فى ذلك العهد كتاب «طبائع الاستبداد» ضد السلطان عبد الحميد ، كما ألف أم القرى لرسم خطه الجامعه الإسلامية، ولم تطق أوروبا صبرا على جريدة العروة الوثقى التي كان يصدرها السيد جمال الدين في باريس، فأغلقتها بعد صدور العدد الثامن عشر، وكان السلطان عبد الحميد يحارب هذه النزعة أولا، ثم أراد أن يحتضنها وأهلها أخيرا؛ لما تبين له هو نفسه من نفعها، وكان الشيخ علي يوسف يبشر بهذه الدعوة في جريدة المؤيد؛ إذ كان ينشر فيها أخبار العالم الإسلامي، والآراء في تكتله، وكذلك مجلة المنار؛ إذ كانت تعبر عن آراء الشيخ محمد عبده، والسيد رضا، ثم خفتت الدعوة بوفاة السلطان عبد الحميد الذي كان يحميها.
وأيا ما كان؛ فقد أحس الأوروبيون بخطر هذه الدعوة، وحاربوها بكل قوتهم؛ بصحفهم ومؤتمراتهم وكل قوة لديهم؛ لما تبين لهم من قوتها وخطرها إذا تحققت، واستنجد بعض الأوروبيين الشعوب المسيحية طالبين إعانة سنوية، والنهضة بالمبشرين، وتعيين المبشرين الكبار في الجهات التي يوجد فيها مسلمون، ونشر الرسائل، وإنشاء مجلة لمقاومة فكرة الجامعة الإسلامية، ونشر جريدة لبيان الأفكار التي تطبع مؤيدة لها، وهكذا. وكان من نتيجة ذلك أن اجتهد رئيس المبشرين وهو المستر «زويمر» في عقد مؤتمر للنظر في هذه الحالة، فانعقد المؤتمر في سبتمبر سنة 1911م، وكان هذا الموضوع - موضوع الجامعة الإسلامية، وكيفية مقاومتها - من أهم موضوعاته، وخصص لجنتان منه لهذا الغرض. وقد افتتح الرئيس «زويمر» المؤتمر بأن بدأ يدعوه للبحث في الوسائل التي يمكن بها مقاومة الإسلام، وكان يتبع المؤتمر غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية، واشترك في هذا المؤتمر 168 مندوبا و113 مدعوا عن أربع وخمسين جمعية تبشيرية، وعلى رأس المؤتمرين القسيس زويمر الذي تصفه جريدة فرنسية بأنه لا يهزم، وبأنه درس الإسلام في شعوبه، ومنع الصحفيون الإنجليز والأمريكان من شهود هذا المؤتمر، ولم توزع عليهم النشرات إلا بعد تنقيحها. وقد قال الرئيس في مجلة العالم الإسلامي: إن الإسلام تمخض في السنوات الخمس الأخيرة التي أعقبت مؤتمر مصر عن حوادث خارقة لم يسبق لها نظير، ففيها حدث الانقلاب الفارسي، والانقلاب العثماني ، وفيها انتبهت مصر لحركتها الحاضرة، وعني المسلمون بمد السكة الحديدية، وتأسست في الهند مجالس شورية، ودخلت الأمور الإسلامية في قالب يلائم العصر، ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام، وانتشر الإسلام في أفريقيا والهند الغربية والجزائر الجنوبية، وكل هذه الحوادث تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد، وتنظر في أمر التبشير والمبشرين بكل عناية، وعلى ذلك فسيوضع برنامج للأمور الآتية:
Shafi da ba'a sani ba