فسألته عن اسم الفتى، فقال: إن اسمه أمين فريد.
فقلت باندهاش عظيم: وارحمتاه، واصديقاه! مات أمين! إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال ذلك الرجل: أما والله لو رأيته وهو طريح بين الأحجار مضرجا بدمائه، لوددت الموت قبل رؤية ذلك المنظر المحزن، وإني ما عشت لا أنسى صورته ورأسه موضوع على حجر والدم يسيل من جنبه وخدوده صفراء وثيابه حمراء.
فسألته: وهل قتل؟ وكيف كان قتله؟
وهنا ابتدأ أن يقص علي حكايته حتى وداعه الأخير: ذهبت إلى مكة لقضاء فريضة الحج الشريف مع أهل بلدتي، ولما وصلنا إلى مكة أخذت في البحث على محل أقيم فيه بواسطة المطوف، الذي قال لي: إن هناك شابا مصريا يود أن يقابل مصريا، وذهب بي إليه ليسأله على محل، فلما تقابلنا به وجدت شابا جالسا في دكان يبيع فيها من الحراير والأقمشة ما يلزم الحجاج، وحين رآني وعرف أني مصري سلم علي باحترام وقابلني بإكرام ثم سألني عن بلدي، ولقد وقع حبه في قلبي لأول نظرة، ثم سألته عن أمره فأخبرني أولا أنه جاء الأقطار الحجازية لسبب أخبرني به فيما بعد. وفي ذلك الوقت ابتدأت صداقتي معه، ثم ترجاني أن أقيم معه حتى نعود سوية إلى مصر، وشرع في بيع ما في دكانه إلى الحجاج المصريين، الذين أحبوه للطف أخلاقه وجميل معاشرته وحسن معاملته، وفي تلك المدة عرفت قصته من رسالة كتبها عن نفسه قبل مقابلتي بزمن يسير، وهذه الرسالة معي سأعطيكها الآن كما أوصى بذلك.
ومما كنت أستغرب له صبره العظيم وسكونه التام وعقله الذكي ونباهته على صغر سنه، وأنه كان يظهر على وجهه أنه أكبر مما كان سنه؛ لما كان كابده من الهموم والمصائب التي سوف تراها في هذه الرسالة.
ولا أطيل الكلام، بعد قضاء فريضة الحج، عزمنا على زيارة قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فباع ما عنده وودع من كانوا يودونه بمكة، وأعطى خادمه مبلغا عظيما فتح له به دكانا يبيع ويشتري فيها، وسرنا في قافلة مسافرة إلى المدينة المنورة، ولا يخفى عليك أن السفر في تلك الأصقاع محفوف بالمخاطر، فإذا اشتدت الهاجرة وضعنا رحالنا ونصبنا في خيامنا وأقمنا بقية يومنا.
وكنت تراه يدور في القافلة يتصدق على الفقراء ويساعد الضعفاء، ونحو ذلك من الخدم التي يندر أن يقوم بها شاب في سنه، وكان يتأخر عني عند سير القافلة، أعني بعد الغروب، ساعة زمانية، فأسأله أين كنت، فيجيبني أنه كان يساعد النساء اللواتي لا يقدرن على الركوب، وأنه كان يشتري للفقراء خبزا يفرقه عليهم لعشائهم، ونحو ذلك من الأعمال المبرورة. وبعد أن سرنا خمس ليال متوالية نزلنا بواد تحيط به الجبال من كل جانب، وبعد نصب الخيام وتناول قليل من الأكل خرج كعادته حاملا خبزا وطعاما وبقسماطا ليفرقها على الفقراء، أما أنا فجلست للمحادثة مع حاج مصري من مدينة طنطا، ودار بنا الحديث على أخلاق ذلك الشاب المرضية وكرم نفسه وشهامته ومساعدته للضعفاء، وقال كل منا في حقه ما يستحقه من الإطراء والإعجاب به، حتى جاء وقت القيلولة وكان الهواء حارا والعرق يسيل كالماء من جبهة الإنسان، فنمت ونام ذلك الرجل كما هي العادة، ولما استيقظت عند صلاة العصر سألت عن أمين فلم أجده، فانتظرته قليلا فلم يأت، فداخلني قلق عليه وأحس قلبي بشيء؛ إذ خفت على حياته من الجمالين الذين يفتكون بالأغنياء طمعا في سلب أموالهم، لكن فؤادي كان مطمئنا من تلك الجهة لأن الجمالين كانوا يحبون أمينا كثيرا؛ لأنه كان يواليهم بالعطايا ويتصدق عليهم بالخبز والبقسماط ونحو ذلك، ولما سألت جماله عليه أخبرني أنه خرج منذ الصباح ولم يعد، فذهبت للبحث عليه فلم أجده أبدا، فحرت في أمري وكلما سألت واحدا يخبرني أنه لم يره، إلى أن قال لي واحد إن أمينا سمع صوت صارخة تستغيث فذهب مسرعا لإنقاذها لكن لم يعد بعدها، ما سمعت هذه العبارة حتى جمد الدم في عروقي واعتراني ذهول وداخلني خوف على حياته، فذهبت إلى خيمتنا وأيقظت صاحبنا وأخذت جمالينا وذهبنا إلى الجهة التي أشار لنا إليها ناقل الخبر، وبعد أن سرنا مسافة بين الهضاب والأكمات بقلوب واجفة، رأينا وراء الأكمة ما وراءها:
Shafi da ba'a sani ba