لا يا ولدي، ليس لكم فيه شيء، وقد أوصاني والدك أن أقول لك أن تسعى بنفسك وراء معيشتك، وقد رباك أحسن تربية، واعلم أنه لم يترك لك إلا مبلغا زهيدا كان يوفره بعد مصاريفه من دخله القليل، وقد أعطاني وصية كتبها بخطه في أول مرضه وها هي، وإنما أسألك أن تسمح لي أنا وخادمك أن نفارق هذا المنزل فما عاد لنا فيه بقاء، ويعلم الله أنني لو كنت أقدر أن أعيش معك دون أن أسعى وراء معيشتي ما تركتك قط، وخذ هذه الوصية.
فلما سمعت هذا الكلام وقع على قلبي موقع السهام، فخاطبتها: بودي أن أكون قادرا فتقيمين معي، وأما الآن فاذهبي إلى حيث شئت، ولا تنسي أياما قضيتها في منزلنا.
ثم سلمت علي ودعت لي بالنجاح، وتركتني وحيدا، والدنيا مظلمة في وجهي، والدموع تتناثر على خدي، وقد كنت أظن أن والدي ترك لي ثروة أستعين بها على إتمام دراستي، ولكن جاء الأمر بضد ما تمنيت. وبعد أن مكثت ساعة تائها لا أفقه ولا أعي خطر ببالي أن أقرأ الوصية؛ لعلي أجد فيها ما يخفف المصائب، ففتحتها ويدي ترجف وفؤادي يخفق، ولما وقعت عيني على خط والدي هطلت دموعي فخفت أن تمحى الكتابة فطويت الوصية حتى مسحت عيني، وفتحتها ثانية فرأيت فيها بالحرف الواحد:
ولدي الوحيد وحشاشة كبدي
ستقرأ هذه الوصية وأنا في عالم آخر لا ينفعني فيه إلا عملي وسيرتي التي أبقيتها ولعلها حسنة، واعلم يا ولدي أني كنت وحيدا في حياتي بلا أب ولا أم ولا عم ولا خال، قضى على الكل أمر لا مرد له، وهذه الدنيا لا تدوم على أحد ، فلم تدم عليهم ولم تدم علي، ولن تدوم عليك ولا على غيرك، فاسمع يا ولدي فيما فيه النفع للبلاد والعباد، وساعد الفقراء والمساكين، واتخذ لك طريقا شريفا تسلكه في هذا العالم، واسع لمعيشتك من أشرف الطرق، واختر العفة مع الفقر. واعلم أن الغاية لن تبرر الواسطة كما يزعم بعضهم، إلا في قليل من النوادر التي لا يقاس عليها. وكن رجلا ذا محبة وشفقة لأبناء جلدتك، وإذا ساعدك الزمان وارتقيت في أمتك فاجعل نصب عينيك خدمة بلادك. ولا يغرنك ما غر غيرك من نعيم الدنيا فكل شيء يزول، ولا يزول اسم رافع عماد أمته ومشيد ركن دولته.
وما المرء حيث يقضي حياته
لنفع بلاد قد تربى بخيرها
وأنصحك أن لا ترغب في خدمة الحكومة فإنها بئست المعيشة، حيث أصبح فيها المرء آلة صماء. وأملي أن تكون رجلا عاملا في الهيئة الاجتماعية. واجعل لك ما استطعت كثيرا من الأصدقاء وقلل ما استطعت من الأعداء؛ فالدهر دوار لا تؤمن غوائله. ولا تتعلقن بأسباب الحياة الدنيا؛ فإن ذلك مجلبة للجبن. ولا يبعثنك طلب الرفعة والمعيشة على خيانة بلادك، بل عش فقيرا لا تملك إلا قوت يومك، وذلك أمر ميسور في بلادك، مع حفظك الناموس شرفك وشرف أهلك وأمتك؛ فإن الأمة تشقى وتسعد بأفراد قلائل. ولا تستصغرن نفسك عن الإتيان بعمل يفيد بلادك؛ فإنك مدان بخدمتها كما يدان بها الأمير والوزير والكبير والصغير والغني والفقر. واعرف لنفسك حقها، فليس بمكرمها غيرك إذا لم تكرمها أنت. واعلم أن الناس في العالم سواء، أبوهم آدم والأم حواء، إنما يمتازون بأفعالهم، فما دمت سالكا سبيل السداد متبعا قوانين البلاد فلا تتذلل لأجنبي، ولا تتواضع لوطني إلا بما يفرضه عليك دينك وواجبك. وقم في أمتك حاثا على التربية وانتشار العلوم والفضائل وحب الحرية؛ فسعادة الإنسان دائما مرتبطة بسعادة بلاده. وهل تهنأ إذا كنت تنام على الحرير وتلبس الخز والديباج وتأكل أشهى المطاعم ومن حولك يتضورون جوعا حفاة عراة، الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم؟ أظن ذلك لا يرضي البهيم فضلا عن الإنسان الممتاز بالعقل واللسان. وإياك ومعاشرة السفهاء؛ فالطبع كالماء يمتزج مالحه بعذبه. ولا تنكب على الملاهي؛ فإنها مفسدة لروح الشرف.
وكن على الدهر معوانا لذي أمل
يرجو نداك فإن الحر معوان
Shafi da ba'a sani ba