فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعرا من دواوين البرعي وأمثاله، ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحدا بأنني ناظمها، وخفت أن يستكثروها علي بعد ظهور الحقيقة، فختمتها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة، وهي:
عباس من هو بالأشعار مدرار
وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي - رحمه الله - حين أطلعته على الحقيقة، فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختتم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذلل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.
فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر، كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء، ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلا: إن الهندسة «الميكانيكية» قريبة من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك: إن علم الحيوان قريب من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.
إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية، وروابط الملكات والطبائع الخفية، وغير هذه العلاقة أردنا حين قلنا: «إن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها، واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها.»
فالتعبير عن النفس هو الأدب في لبابه.
وما هو التعبير الذي عنيناه؟
التعبير الذي عنيناه هو كشف المكنون، وتوضيح الأسرار وتمثيل الخفايا في صورة تخرجها من عالم الخفاء إلى عالم النور.
وهنا العلاقة الوثيقة بين أعمق أعماق الدين وأعمق أعماق الأدب: هنا العلاقة بين استطلاع أسرار الوجود وبين معرفة النفس، ومعرفة الإفصاح عن معانيها والإبانة عن أشواقها بلسان الأدب، أو بلسان الفن على التعميم.
فكل تعبير ينطوي على سر موضح مكشوف.
Shafi da ba'a sani ba