فالشاعر الذي يفتن المرء بجمال الزهرة، يرفعه من معيشة الذل والشظف، ويجعل قناعته بالدون والسفساف ضربا من المستحيل. وفكتور هوجو لم يكن من أصحاب البرامج الاجتماعية، ولكنه وصف البؤس والظلم فأغنى عن البائسين والمظلومين ما لم يغنه الدعاة المنقطعون لما يسمونه: مشاكل المجتمع وبرامج الإصلاح. وكل نغمة موسيقية تعبر عن شوق إنساني هي خبز لا يحسن بالإنسان أن يحتمل جوعه ويصبر على فقده؛ لأن عدم الخبز الذي تطلبه المعدات فقر وعوز، أما عدم الخبز الذي تطلبه الأرواح، فهو مسخ وحرمان من الأذواق والأخلاق.
ويكثر الاشتراكيون من ذكر الاقتصاد، ويحسبون الدنيا بحذافيرها اقتصادا في اقتصاد، وهم يخالفون قواعد «القصد الطبيعي» فيما يشيرون به على نوابغ الأدب والفنون؛ لأنهم يطلبون من العبقريين الموهوبين عملا يقوم به من ليست لهم عبقرية فنية ولا ملكة أدبية، وإنما يغني فيه من درسوه وحذقوه، وتفرغوا لإحصاءاته وقواعده ومقابلاته ومقارناته، ونريد به بحث المسائل الاجتماعية، ومسائل الفقر والغنى، وتوزيع الثروة ونظام الطبقات. فهذه موضوعات لا حاجة بها إلى عبقريات هوميروس وابن الرومي والمتنبي وشكسبير وبيرون؛ ولا نخسر شيئا إذا أقبل عليها من خلقوا لها، وانقطعوا للإحاطة بمعارفها وأصولها، ولكن العالم الإنساني يخسر أولئك العبقريين إذا وقفوا ملكاتهم على مسائل يوم أو مسائل أمة، لن تصبح مسألة بعد يوم آخر ولا بين أمة أخرى ... في حين أن الذي كتبوه لا يزال من شاغل بني الإنسان في جميع الأيام وبين جميع الأقوام.
فليس من القصد الذي يترنم به الاشتراكيون أن تصرف عبقرية عن عمل تحسنه، وتحيلها إلى عمل يتولاه غير العبقريين وغير الموهوبين، وإنما هو خلط في التوزيع يعاب لما فيه من سوء الوضع فوق ما يعاب لفشله وقلة جدواه.
ويستطرد بي هذا إلى مقال في «الرسالة» للأستاذ رمسيس يونان، ينحلني فيه كلاما لم أقله ولم أقل ما يؤديه؛ بل قلت ما هو نقيضه على وجه صريح لا محل فيه لتأويل.
فالأستاذ رمسيس يونان يروي الحقائق عند العقاد، ومنها «أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان، وأنه لو اطمأن كل فرد إلى قوته وكسائه، فقدنا من بني الإنسان العنصر المقتحم المغامر.»
ثم يقول: «ولو صدر هذا القول من إسماعيل صدقي مثلا لعذرناه، ولكن الغريب حقا أن يصدر من العقاد، فكيف يستطيع العقاد الشاعر أن يقول: إنه لا تكون مغامرة أو اقتحام إلا حيث يكون طلب الرزق، وإن الإنسان لا يغامر في سبيل غرام أو في سبيل كشف علمي أو إنتاج فني؟! ولماذا لا نقول: إن روح المغامرة إذا تحررت من هموم العيش وأعباء الثروات، فسوف تكتشف لنفسها ميادين وآفاقا جديدة هي أجدر بعواطف الإنسان؟!»
والعجيب كما أسلفت أنني صرحت بنقيض هذا الكلام في مقالي عن المال الذي يناقشه الأستاذ رمسيس يونان، فقلت: «إن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء؛ وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه؛ ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة ... وإنما تفسر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات، وإذا قيل لنا: إن فلانا يجمع المال لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره؟! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات ...»
هذا كلامي فكيف فهمه كاتب المقال عن الفقر ومسألته الاجتماعية؟!
فهمه على أسلوب الاشتراكيين في فهم كل شيء؛ وأسلوبهم أنهم يفهمون ما يروقهم، وأن الذي يروقهم هو المناوأة والإنكار، وعلى هذه السنة ينكرون العصامية كما ينكرون الغنى، ويسمون الفقر مسألة اجتماعية ليريحوا أنفسهم من العطف على الضعفاء، فلا هم يطيقون الممتازين بالفضل أو بالثروة، ولا هم يشعرون بالعطف الصحيح على المحرومين من النبوغ والمال، وماذا يفيد العطف كما يقولون؟ أليست هي مسألة اجتماعية لا دخل فيها للشعور والرحمة؟!
وكأننا إذا قلنا: إن الفقر داء اجتماعي يعالج كما تعالج الأدواء الاجتماعية خرجنا به من طريق العلاج ... وكأنهم إذا قالوا: إنه مسألة وليس بداء فرجوا أزمة الفقر أو اقتربوا بها من التفريج.
Shafi da ba'a sani ba