تصدير
إلمامة
إهداء الديوان
شعر الديوان
كلمة ختامية
تصدير
إلمامة
إهداء الديوان
شعر الديوان
كلمة ختامية
Shafi da ba'a sani ba
الينبوع
الينبوع
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
يستقبل هذا الديوان عام 1934م بمجموعة شعري غير الدرامي منذ صدور ديواني «أطياف الربيع» حتى نهاية سنة 1933م، التي أودعها وأنا أحبر هذه السطور بين أطيافها الأخيرة.
ولي كلمة أوجهها إلى مريدي هذا الشعر وإلى غير مريديه على السواء: تلك هي أنه لا سلطان لي على قرضه، بل أنا مرغم إرغاما عليه بدوافع نفسية لا أملكها تزجيني إلى هذه التعابير النظمية، فليس محتوما على غير مريديها أن يطلعوا عليها حتى أكون معرضا لمؤاخذتهم إياي، وليس محتوما على مريديها أن يدافعوا عنها إلا في مجال النقاش الفني، فللناس أذواق تتباين، ولا بد لتذوق الآداب والفنون من وجود تجاوب بينها وبين ناقديها، ومن الخير الأدبي وجود هذا التباين في مبلغ هذا التجاوب، واحتكاك المذاهب الأدبية بعضها ببعض، لا أن نستاء من ذلك الخلاف البريء، ونعمل عى القضاء عليه؛ فإن هذا الاستياء في ذاته ينافي الروح الفنية، ومحاربة الجهود البريئة المنوعة التي هي عوامل النهضة الفنية وقوامها - حتى ولو كان بعضها مصطبغا بالصبغة التقليدية المحافظة - إنما تعد وصمة للفن والفنانين.
وما كان ثمة داع لنشر هذه الأشعار ولا ما سبقها من دواويني لولا نوازع صوفية وجدانية تحبب ذلك إلي كأنما أنا مكلف برسالة أؤديها، فإن عهدي بشعري ينتهي حينما أنتهي منه، وقلما أحفظ منه شيئا، ولولا ذلك لما ضاع ما ضاع من شعري الكثير من عواصف السياسة أثناء اغترابي الطويل عن وطني، فضاع بضياعها سجل طويل لحياتي العاطفية. وعذر آخر - إن كنت مطالبا بعذر - لوفرة دواويني: ذلك أني على كثرة إنتاجي الشعري لا أنشر إلا النزر اليسير منه في الصحف، ولا أستثني حتى مجلة «أبولو» الشعرية التي أوثر وقف معظم صفحاتها على الكثيرين من شعراء الشباب، وعلى الشعراء المجيدين المغمورين؛ مما أتاح لهؤلاء المعاصرين أن يذيعوا آثارهم، خلافا لمثلي الذي لم يبق له منبر حر غير صفحات دواوينه.
إن الشاعر الفنان تستهويه روح الجمال، وتحفزه إلى إبداع المثل الجميلة التي يرتضيها ذوقه، وهو لا يعنيه أصلا أن يخدم النزعات الخلقية ولا غير الخلقية بشعره، فهذه وظيفة إضافية قد يؤديها الفنان، ولكنها ليست مهمته الأولى ولا الأخيرة، وإذا أصبحت مثل هذه العوامل دوافع فيه صريحة عنده فسد فنه حتما؛ فإن الفنان يجلو لنا فنه، ولكنه لا يصيح ولا يعلن عن دوافعه الخلقية والوطنية وأمثالها، بل هي تعلن عن نفسها إعلانا هادئا يلمح من خلال العمل الفني ولا يغطيه. ولا يغرب عن البال أن مقاييس الفضيلة والرذيلة المعهودة ليست في معظهما بالمقاييس المستقرة التي تحتم الإيمان بها، وحتى إيمان الفنون.
وليست هذه هي النقطة الفريدة التي يشعر مثلي بالحاجة إلى معالجتها في هذا التصدير تعليقا على نقد بعض الأدباء على الشعر الحديث، وعلى شعر صاحب هذا الديوان خاصة، فهناك من يرون أن من الواجب حصر الشعر في موضوعات معينة كأنما الشاعر المفتن يعجز عن التعبير الجميل إذا ما تجاوبت عواطفه وأخيلته مع أي عامل من عوامل هذا الكون الفسيح المدهش، كيفما دقت أو عظمت.
Shafi da ba'a sani ba
من العبث أن يقصر الشاعر همه على الفضيلة؛ فالفضيلة والرذيلة على السواء من مواد الفنان كما يقول أوسكار وايلد، وليست مرائي الشعر عند استيعابه هي مرائي الحياة ولكنها نفوس قرائه، والشعر الذي يثير خلافا حادا حوله يدل على حيويته وقوته. كذلك كانت أشعار المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء المعري بين أعلام الشعر العربي ... والشعر فن تعبيري لا يقصد منه إلى الفائدة، ولكنه كفيل بها في تربية الروح الفني، وما يؤدي إليه ذلك من التسامي بنفسية الأمة بل بالإنسانية عامة، شأن جميع الفنون الجميلة. فلا غبار إذن على فائدة الشعر إذا جاءت عفوا، وكل شعر عظيم له فائدته الثقافية، ولو كان في أصله لهوا؛ لأن العبرة بنبعه الفني الخالص.
ولا مشاحة في أن الإنسانية في القرن العشرين تقدمت كثيرا من الوجهة المادية التي تتفق وأهواء العقل المدرك، ولكن أحوالها النفسية والخلقية ما تزال متأخرة تأخرا بليغا ... وللعقل الباطن ارتباط بهذه الوجدانيات، فالعناية بتهذيبه وتنظيم صلاته بالعقل الواعي المدرك مما يعود بأجزل الفوائد على الإنسانية، وهذا ما تستطيع الفنون الجميلة - وبينها الشعر - أن تقوم به خير قيام؛ فتشجيع الفنون الجميلة واجب حتمي، ونحن أحوج إليها في هذا العصر المادي القاسي من حاجتنا إليها في أي عصر مضى. وعندي أن أديب الذكاء والصناعة يعتمد أولا على عقله الواعي خلافا للأديب المطبوع، ويلوح لي أن العقل الباطن متصل بجوانب الخلق والغريزة اتصالا خطيرا، ويتعاون العقل الواعي والعقل الباطن بنسب مختلفة في تكييف طباع الأدباء وطوابع آدابهم. والشاعر الحي هو الذي يكون شعره مثال نفسه، وهذا معناه الانسجام التام بين العقل المدرك والعقل الباطن، وقد لا يكون الانسجام تاما في جميع الظروف. ومهما يكن من شيء فهذا ما أراه تفسيرا للتباين وللاتفاق في أحوال الشعراء ومظاهر شعرهم من معان ومرام وديباجة وموسيقى هي موسيقى النفس والخواطر قبل أن تكون موسيقى الحروف التي لا تتعدى في الواقع الرموز لحالات الوجدان والفكر، وهم في كل ذلك غير مستقلين، بل يتفاعلون مع البيئة ومع الحياة عامة، وتتجلى مرائيها في نفوسهم قبل أن يبرزوها، كما تتردد أصداؤها في نفوسهم قبل أن يلحنوها.
وإذا كنت أومن إيمانا عميقا بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة، فلست أعني بذلك أن تقديرها شامل في الظروف الحاضرة، فكم تتباين الأذواق. وعلى حد تعبير برونزلاو هوبرمان لا يرتقب أن يجيد عزف موسيقى بيتهوفن إجادة المتذوق المعجب بها من ليست لديه أثارة من عواطف بيتهوفن، وكذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة، فإن أصدق المتأثرين بالشعر - مثلا - هم من يشاركون الشاعر عواطفه وأهواءه، ولا ينتظر مثل ذلك من غيرهم، وبنسبة هذه المشاركة تختلف درجة التجاوب بين الشاعر وقرائه ونقاده.
ومن الطبيعي ألا يرضى عن شعر صاحب هذا الديوان كثيرون من الخاصة ومن غير الخاصة كما هو المعهود إزاء كل أدب غير مألوف، فإن أكثر الناس يؤثرون من الشعر ما يخيل لك عند سماعه أنك سمعته قبل ذلك مرارا ولو في صور متقاربة، وهذا الجفاء هو وحده المبرر للتعاون الأدبي من أقران الشاعر ومريديه شرحا ودراسة، إذ لا أنسى كيف قوبل صدور ديواني «أشعة وظلال» منذ بضع سنوات بنقد كثير لتجرده التام عن كل تصدير وتعقيب. بيد أني أرجو من صميم قلبي أن يحين اليوم الذي يستغنى فيه عن نظير ذلك في دواويني المقبلة، فتصير نماذج هذا الشعر مألوفة معهودة، وتسترعي الأنظار والحوار بدلها النماذج الجديدة القوية لشعراء الشباب الثائرين. وبودي الصادق ألا يحمل القارئ هذه الدراسات والشروح على أكثر من محمل التجاوب الأدبي مع نفسية الشاعر؛ فإن فيها الكريم من التمجيد والإشادة بمحامد لا أعرفها في نفسي، ولكنها فيما عدا ذلك لها قيمتها الأدبية الممتازة في تصوير مواقف المدارس الأدبية نحو الشعر العصري.
إن الشعر العصري هو قبل كل شيء لسان الحياة العصرية، والحياة العصرية ذات صلات شتى بالماضي وذات تطلع إلى المستقبل، فليس غريبا في الثورة الروحية والفكرية الحاضرة أن يأتي هذا الشعر مزيجا منوعا لا في مصر وحدها بل في العالم الأدبي بأسره، ولا ينتظر من مثلي أو من أي شاعر عصري آخر إلا أن يكون صادق الشعور والتعبير، فلا غبار على هذا التنويع الصادق ما دام نتيجة أحاسيس شتى، هذا التنويع الذي نجده في العواطف والتأملات والأساليب، كما حدث في عهد الشاعر الألماني العظيم «هنريش هيني
Heinrich Heine »، فقد جمع شعره بين نفحات القديم وبين النزعة الرومانطيقية التي كان آخر شعرائها في قومه وبين نزعة التحرر العصري التي ساعد على تكوينها، وقد أصبحت الصورة الغالبة على الشعر العصري في الغرب صورة الرومانطيقية الواقعية
romantic realism .
ونزعة التحرر هي صديقة الأسلوب الشخصي الذي هو سمة من سمات الأدب الحي، فإن الثالوث العظيم في الشعر العربي «المتنبي، والمعري، وابن الرومي» يمتاز بهذه النزعة التي تشمل الأسلوب وغير الأسلوب، وإنه لخير ألف مرة أن يكون الشاعر غامضا في بعض نواحيه ويكون مستقلا في تعابيره، من أن يكون ببغاويا أو صاحب شعر مستعار، فهذا «هيني» على عظمته الليريكية كان غامضا عميقا في مناسبات كثيرة ، حتى أن أبياته ترى حائمة حول خواطره لا متناولة لها مباشرة، كما لاحظ مترجمه الشاعر «لويس أنترميير
Louis Untermeyer ».
وقد كان شعراء العربية السالفو الذكر يعابون في حياتهم على أساليبهم جزاء ما كانوا يبذلونه من جهد لتجويد أدواتهم اللغوية القاصرة، ثم دار الزمن دورته فإذا بتلك الأساليب الطريفة تكتسب حرمة، ويصبح جديدها مألوفا محترما، وما كان يحسب بعيدا عن الأناقة لطرافته وخروجه على التقاليد صار يعد غير ذلك في معظم الأحوال. ومهما يكن من شيء فالأناقة التي ترادف التصنع مرذولة بغيضة، وهي تنافي روح الفن، ولخير منها ألف مرة الجمال المتواضع، بل الجمال العربيد. وليست العبرة في الواقع بالأساليب ذاتها بل بالاستعداد للتأثر بها، وهذا الاستعداد يختلف بين جيل وآخر، وبغير وجوده لا يستطيع الشعر أن ينشئ في النفوس تصوير الحالات التي خلقته.
Shafi da ba'a sani ba
وما دمنا قد أشرنا إلى الأسلوب فحتم أن نصرح بأننا نحترم أصول اللغة وتراثها، ونعنى بمفرداتها، ونوصي باستيعاب روائعها، ولكننا نوصي في الوقت ذاته بأن يطلق الشاعر نفسه على سجيتها ما دام قد أخذ قسطا وافرا من أدب اللغة. وكل شاعر لا يستطيع أن يملك حرية التعبير عن أزماته النفسية، وعواطفه الشعرية، وعالمه الوجداني تعبيرا خالدا مستقلا تتجلى فيه براعته الطليقة، يعد بعيدا عن الكمال الفني. وكم من عائب لأساليب اللغة المبتكرة وهو جاهل بمرونة اللغة، وغافل عن كنوزها التي لا تجد المستغلين القادرين، بينما هؤلاء العائبون يتغاضون عن توجه الشعراء إلى تغذية العامية بإنتاجهم في الأغاني وغيرها؛ مما يحولها تدريجيا إلى لغة فنية، ويجعلها خطرا أدبيا إلى حد ما على اللغة الفصحى التي تفقد جهود أولئك الشعراء لخيرها. ولست أنكر أن للغة العامية رسالة تؤديها في أوساطها، ولكن من الممكن إبلاغها منزلة العربية البسيطة السهلة.
إن الفن فن في أية لغة وفي أية صورة وتعبير، ولو كانت اللغة العربية السلسة السليمة عاجزة عن البيان السائغ لعذرنا أنصار العامية من غير أهلها على اللجوء إليها. أما والواقع نقيض ذلك فهذا التدلي بلغتنا لا معنى له ولا موجب، والأولى بمن يأخذون علينا تطويع لغتنا للتعبير عن كل ما توحي به الحياة بدل أن نواجهها كالبكم المشدوهين، الأولى بهم - إذا لم يعرفوا تقدير ذلك لنا - أن ينظروا في الخطر الداهم على اللغة الفصحى من سيل العامية الذي يعززه أولئك الشعراء المتقربون إلى الجماهير على حساب الإساءة إلى الأدب الرفيع، وإن عانت الفصحى من وراء ذلك ما تعاني من إعراض وإصغار.
ويرى بعض الشعراء المقلين وبعض النقاد أن الوزن والقافية من أعداء الفكرة، ومن هذا يتدرجون إلى تثبيط المنجبين من الشعراء، وينتقدون محاولاتهم الجريئة، وهذا خطأ ظاهر؛ فالشعر ليس ميدانا لدراسة الموضوعات العلمية وغير العلمية المجردة، كما أن الشاعر الناضج القوي الإيقاع لا تعوقه مطلقا الأوضاع عن التعبير الحي، ولا عن التسامي أو التعمق، بل يدفعه نضوجه، وثقته بنفسه، ومرانته إلى تكييف اللغة وأوزانها وقوافيها التكييف الذي يناسب موضوعات شعره بعيدا كل البعد عن المحاكاة، مطلقا نفسه على سجيتها كالطائر الحر الغرد حينا، وكالحكيم الذي يملي عليه القدر وحي الحياة الطليقة حينا آخر. ومن ثمة اختلفت أساليب الشعراء المتحررين حسب أمزجتهم ونزعاتهم وموضوعاتهم، بل قد يختلفون في نفس الموضوع الواحد بحكم اختلاف الطابع الشخصي؛ فأسلوب ملتون الإنجليزي شاعر القرن السابع عشر في «الفردوس المفقود» غير أسلوب بيير جان جوف الفرنسي شاعر القرن العشرين في نفس هذا الموضوع، وهو اختلاف طبيعي ولا غبار على ذلك، بل هو أمر ممدوح.
الشعر ليس صناعة بل هو فن من الفنون، وجميع الفنون في أصلها مواهب، والروح التي خلفها شائعة في مظاهر الطبيعة التي يستوحيها جميع الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين ومثالين وغيرهم. ووحدة هذه الروح التي تلمح خلف مرائي الطبيعة والحياة هي التي تجعل النقاد يصفون التصوير بأنه شعر الأصباغ، والنحت بأنه الشعر الصامت، والشعر بأنه التصوير الناطق، وهلم جرا ... وما ذلك إلا بسبب المشاركة الروحية بين جميع هذه الفنون. وأما النظم فيرجع إلى طبيعة إيقاعية توجد عند كثيرين من الناس، وقد لا تكون قوية عند بعض الشعراء، بل قد لا توجد عندهم بتاتا، فهؤلاء أمين الريحاني، وفؤاد صروف، وأحمد الصاوي محمد، وإبراهيم المصري، وتوفيق مفرج بين شعراء العربية المجيدين، ولكنهم لا ينظمون لأن سليقتهم لا تواتيهم بالنظم وإن تفجرت بالشعر الصافي. وإذا كانت كلمة «شعر» مأخوذة أصلا من كلمة «شير» العبرية بمعنى غناء، فليس كل شعر غناء، كما أنه ليس كل شعر نظما. والشاعر المثقف البعيد التأملات يستطيع بفطرته أن يجعل شعره مسرحا لفنون ومعارف شتى في غير كلفة يحس بها، كما أنه بقدرته النظمية - إذا كانت ناضجة لديه - يستطيع التعبير عن شتى الخواطر الوجدانية بحرية تامة، فليس النثر وحده اللغة الحرة للتعبير عن الآراء. والشاعر الممتاز هو الذي يجمع بين صفتي النضوج والتحرر، وكلتاهما وليدتا المواهب أولا، والاطلاع أو التأمل ثانيا، والمرانة ثالثا؛ فالموهبة الشعرية ودقة التأمل والمرانة هي التي أنطقت الشاعرة العربية حميدة بنت زياد بهذه الأبيات الرائعة تصف واديا:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
Shafi da ba'a sani ba
يصد الشمس أنى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم!
وهي التي أوحت إلى الشاعر الإنجليزي توماس هود (Thomas Hood)
بهذه المقطوعة في «أوان الورود»:
It was not in the winter
Our loving lot was cast;
It was the time of roses -
We plucked them as we passed.
Shafi da ba'a sani ba
That churlish season never frowned
On early lovers yet:
Oh, no, the world was newly crowned
With flowers when first we met.
Twas twilight, and I bade you go;
But still you held me fast.
It was the time of roses -
We plucked them as we passed.
ومثل هذه الروح القوية البعيدة عن التكلف نجدها في صور شتى بأشعار جميع الموهوبين الناضجين المتحررين من قدماء ومحدثين في الشرق والغرب، وهي روح «متعادلة
Neutral »، قابلة لأن تنقل من لغة إلى أخرى؛ لأنها لا تعتمد على بهرج الألفاظ، والثرثرة الجوفاء.
Shafi da ba'a sani ba
نعود إذن لنكرر أن النهضة الشعرية التي تعنى بإنصاف المواهب وتغذية النضوج ثم تقاوم التحرر تنعكس عليها جهودها، فالتحرر عنصر هام من عناصر التبريز؛ لأن قوامه الصدق والسماحة الفطرية والبساطة الصريحة، ومحال أن يكون الشاعر شاعرا كاملا إذا كان يكبت عواطفه كيفما كانت، ويكذب على نفسه وعلى غيره. وبهذه المناسبة لا ننكر أن بعض الغاشمين المنتسبين إلى الأدب أو إلى الدين يهرع إلى الاتهام بالزندقة والإلحاد كل نزعة تصوفية، ولكن الشاعر الموهوب المتحرر يسخر من كل هذا؛ لأنه بوجدانه يحس بما ننعته «نقط التركيز» للألوهية في مخلوقات الله وبدائعه - سبحانه وتعالى - فيمجد فيها الفنان الأعظم ... ولخير للشاعر أن يوصم بألف وصمة غاشمة من أن يكون أسير الروح عبدا للتقاليد، أو خادعا لنفسه ولغيره. وقس على ذلك ما ينعت بالاستهتار في الشعر حينما لا يتعدى هذا «الاستهتار» التعبير الطبيعي لجوانب قوية من الحياة ...
ولعل من الخير أن ننظر نظرة نقدية في سيرة الشاعر الوجداني الكبير چون كيتس
John Keats
فإنها تشرح لنا ما أجملناه من قبل، وتنبهنا إلى عوامل أخرى في رفعة الشعر والشاعر، وما اخترنا ذكراه إلا لأنه من أسبق الشعراء إلى ذهننا، كما أنه أصبح من أحبهم منزلة لدى جميع الأدباء والمتأدبين.
عرفت عن كيتس في طفولته الروح الثورية، ثم عرف عنه فيما بعد الاطلاع الواسع، وأخذ بنصيب يذكر من الدراسة العلمية والطبية، ثم استولت عليه فكرة الحياة الشاعرة، والعمل على تحقيقها وهو في الحادية والعشرين، فتبع هذا أن كانت روحه التجديدية طبيعية لا مصطنعة، وأن كان هداما ثائرا في شبابه. وعرفنا عنه غرامه بجورجيانا - زوجة أخيه فيما بعد - ولمحنا صورة التسامح لنفسه الصافية، وقدرنا كيف كانت هذه الحبيبة نبعا صافيا علويا لشعره الوجداني، كما كانت محبوبته الثانية «فاني» نبعا آخر جميلا. كذلك عرفنا أن حياته الواقعية كانت شعرية؛ فقد كان إشفاقه على أهله وعنايته بهم بمثابة قصائد رائعة مدهشة ... وكان كيتس بروحه الرومانطيقية المبدعة كثير المحاولات التجديدية، ولكن الجمهور لم يكن ليكترث لأشعاره الأولى بالرغم من كتابة «هنت» عنها. وقد تعاون فيما بعد مع الأدباء: هايدن، وبراون، وسفرن، وغيرهم، ثم حملت عليه مجلتا بلاكوود وكوارترلي الشهيرتان، وتنكر له هايدن صديقه القديم، ولكن كيتس بقي عظيم الجلد، عظيم الرجولة، سامي الخلق، طيب القلب، بدليل تسامحه إزاء هايدن وأمثاله ... وكان كيتس يعجب كثيرا بسبنسر، وكان متأثرا به، ولكنه قلما كان يحتذيه، بل كان محتفظا غالبا بطابعه الشخصي، واستوعبت شخصيته الأصيلة مطالعاته (وبينها الكثير من الأساطير والميثولوجيا الإغريقية وغيرها) دون أن تخضع لها. ومات في شبابه بذات الرئة، وهو إلى آخر لحظة في حياته شعلة باهرة ما كان يجوز أن تنطفئ لولا قسوة القدر ...
ومن هذه الأثارة عن حياة كيتس نلحظ: (1)
النفس الشاعرة الثائرة بفطرتها التي لم تتحول طول حياته، وأنه مثال للشاعر الذي يكون في حياته شاعرا كما يكون في نظمه شاعرا. (2)
أن دراسته ومطالعاته لم تفسد شعره، بل زادته صقلا، وجعلت شهده منوعا شهيا. (3)
أنه شعر بما نسميه «طاقته الشعرية» وتمنى أن يكون شاعرا مجيدا وعمل لذلك، لا عن طريق الصناعة، بل عن طريق التعبير الجريء، وجراءة التعبير الفني جزء أصيل من العبقرية، وبغير هذه الجراءة الطليقة ما كانت تتجلى قوة شكسبير، ولا دانتي، ولا أبي العلاء المعري، ولا عمر الخيام، ولا أمثالهم من رواد الفن الأدبي. (4)
أنه انتفع بالمعاونة المادية التي قدمها له أصدقاؤه الأدباء والناشرون، ولولا هذه المعاونة لما انتفع الشعر بكل هذه الآثار التي أنجبها وودعها في شبابه ... وفي الواقع إنه لولا عون المال الذي استند إليه كبار الأدباء والشعراء لما بلغت آثارهم ما بلغت من الكثرة والروعة، وهذا مشهود في الشرق والغرب على السواء، وآخر شاهد على ذلك بيننا المرحوم أحمد شوقي بك. ومهما يكن لشاعر من إنتاج في بؤسه وفقره فهذا الإنتاج لا يقارن بطاقته المتجلية في ظروفه المواتية. (5)
Shafi da ba'a sani ba
أن الحب كان عنصرا قويا بين العناصر التي ألهبت شاعريته المطبوعة، وقد جاء شعر الحب في نظم كيتس قويا صريحا مستقلا. (6)
أن ثقته بنفسه وفنه جعلت النقاد المتحاملين ينهزمون في النهاية أمامه، فكل محاولاتهم لم تصلح لتزييف جوهره الصحيح. (7)
أن أساليبه ونزعاته التجديدية لم ترض جمهرة الأدباء في البداية، ولكنها استحالت فيما بعد إلى مفخرة من مفاخر الأدب الإنجليزي، بل الأدب العالمي. (8)
أن شخصيته الأدبية القوية لم تهضمها البيئة ولا المطالعات، بل هو الذي هضمها، فخدم الشعر الإنجليزي حتى من الناحية الثقافية خدمة قيمة؛ لأنه ضمن شعره لطائف الميثولوجيا الشائقة، وتأملاته العميقة، وقد كان مرضه في ذاته مشعلا لذكائه، مبررا لشذوذه، ومن العبقريات ما يقترن بشذوذ المرض. (9)
أن المواهب الجديدة قد لا يعترف بها اعترافا منصفا إلا بعد زوال صاحبها ، وعلى الأخص إذا كان من الشباب؛ لأن الناس غالبا عبيد ما تعودوه، ويؤثرون الشك في كل جديد حتى ولو تجاوبت نفوسهم معه.
هذه الدروس نستفيدها من سيرة كيتس، وقد نستفيد نظائر لها من سير غيره من أعلام الشعر في الشرق والغرب على السواء، وهذه الدروس تتناول الرد على ما يوجهه النقاد إلى شعراء العربية المجددين في كثير، فإن من النقاد من ينادي بنفسه حاكما بأمره لا يطيق حتى النقاش الفني، ويعلن بأعلى صوته أن ما نعتبره تصوفا جميلا هو مثال مروع للشعر الإلحادي الذي يجب أن يصادر، وينسون في أي قرن يعيشون، بل ينسون حتى أبسط الأدب العلائي الذي يدعون فهمه وتقديره، وقد ذهب أبو العلاء المعري إلى درجة تحدي القرآن بينما الشعراء المعاصرون لا يشغلهم شيء من ذلك ... ويبلغ الشطط ببعض النقاد أن يستنكر تطعيم أدبنا العربي بالميثولوجيا الإغريقية الرائعة التي نفتقر إليها أشد الافتقار، بينما الإنجليز (وقد استوفوا نقل الروائع الأجنبية الأوروبية القديمة) يرقصون لترجمة الخيام، والمعري، والبهاء زهير، وابن الفارض، وغيرهم من شعراء الشرق إلى لغتهم، ويهللون أخيرا لمجهود الأستاذ أستارو مياموري (A. Miyamori)
في نقل الهيكوات اليابانية (وهي أشبه النظيم بالرباعيات عند الفرس) إلى اللغة الإنجليزية، فنحن على فقرنا نستنكر النقل والتطعيم، وغيرنا على غناه يرحب به، ونحن نحب القديم والمحافظة على ما لا جدوى منه، والإنجليز على رعايتهم للتقاليد، وحرصهم الشديد عليها أضعاف حرصنا يؤثرون أن يكونوا عمليين في إحياء لغتهم بمفرداتها وآدابها، حتى أغناهم هذا النشاط الفذ وهذه الحيوية الفريدة عن إنشاء مجمع لغوي لهم! ونحن نغبن شعراءنا وأدباءنا، ونتركهم يعانون الخصاصة الممضة وهم الرغيف، ثم نقول إن هذا لخير إنتاجهم الأدبي، وإن قرع آذاننا قول صائحهم:
1
بواد كدار الخلد بر المنازل
حييت، فما لي لا أفوز بنائل؟
Shafi da ba'a sani ba
أقاسي به في ليله ونهاره
معيشة أفاق ووحدة ثاكل
وكم سألوني: كيف تشقى مع الحجى
وفي شعرك الهامي عذاب المناهل؟
فقلت: بهذا الشعر بؤسي وشقوتي
كما قتل الصداح زهر الخمائل
فلا تسألوني عن دمائي وسفكها
سلوا بدمي الغالي جريمة قاتلي!
فكم مرت النعمى علي بسيمة
فأبعدني عنها وضيع الوسائل
Shafi da ba'a sani ba
ورفض لئيم كاشح القلب حاقد
منالي أرزاقي بهمة عامل
بكت بلدتي حزنا علي وحسرة
وأحزن ما أبصرت دمع المنازل!
إن عقل الفنان (العقل الباطن) هو عقل الطفل الكبير الذي يصاحبه ولي أمره (العقل المدرك) ليرشده ويراعيه، ولكنه كثيرا ما يجامله، وإن استفاد هذا الطفل من تأملات مرشده وفلسفته بدرجات مختلفة حسب أهوائه وفهمه العجيب ... ولكنه إذا ترك وشأنه، وكانت له حيويته الفطرية وحريته المطلقة، فإنه يجيء لنا شعرا بما يشبه تصويرا «حلم ميكي» - وهو من تلك التصاوير المتحركة المفتنة التي طالما أحببناها عن ميكي ماوس ووالت دزني - فلو أنصف النقد لترك الشعراء يبدعون نماذجهم المنوعة من شعر خالص، وشعر فلسفي، وشعر تصويري، وشعر قصصي على اختلاف أساليبهم، فنحن بحاجة إلى كل هذا إنماء لثروتنا الشعرية، وها نحن الآن نرى في فرنسا بعثا شعريا جديدا منوعا للشعر يعمل له أمثال بول كلوديل، وفرنسيس جام، وبيير جان جوف في حرية تامة.
وإذا كان لمدرسة أبولو جريرة أقضت مضاجع الفرديين المتصنعين فهي تبشيرها بالمبادئ السابقة لخير الفن والفنانين، فقد أبت إباء عبادة الأصنام، واحترمت شخصية كل شاعر، وعملت على إظهار روائع كل منهم، ووضعت إبداعهم جميعه في بوتقة واحدة، إذ الواقع أن الفنان الصحيح غير أناني، وإن يكن شخصي التعبير ... كذلك شجعت النقد الأدبي، واحترمت النقاد سواء أكانوا لها أم عليها، ولكنها لم تحترم أصنامهم كما لا تحترم أصنام الشعراء! وبهذه المبادئ يدين صاحب هذا الديوان من الوجهة الثقافية العامة، وحول هذه المبادئ تدور حرب طاحنة يعززها من الجانب الآخر من يريدون الظهور الأناني على حساب المجموع، وعلى حساب الأدب، كلفهم ذلك ما كلفهم من تحامل وإسفاف!
إن الشاعر ككل فنان يعمل على تخليد صور الحياة الفانية وذكرياتها في النسق الذي يستطيع به استرجاعها لروحه العالمية كلما تأمل ذلك النسق الفني سواء أكان شعرا أم تصويرا، أم نحتا أم عزفا، أم غير ذلك، وهو حينما يتأمل التسجيل الفني لم يقتصر على تصورها بالذات، بل تصور أيضا علاقاتها بالوجود بحكم طبيعته التصوفية التي جعلت شكسبير يقول:
Tongues in trees, books in the running brooks
Sermons in stone, and good in everything.
والحياة في ذاتها عالم إيقاعي، فإذا أحس الإنسان بالحاجة إلى العزاء جنح إلى الاندماج في عالم الحياة اندماجا أوفى كأنه يطلب حمايتها، والإيقاع هو الممر الذي يسلكه أو هو أدنى المسالك الميسورة، وهذا هو ما يفسر النزوع الفطري إلى الجمع بين الروح الشاعرة المتصوفة والإيقاع. وبديهي أن ألوان هذا التزاوج تتعدد إلى ما لا نهاية، ومن ثمة وجب علينا احترام شخصيات الشعراء، وتشجيع التنويع بدل الالتفاف حول شخصيات قليلة معدودة لا يمكن أن تجتمع روائع الفن الشعري ولا الفن الموسيقي فيها وحدها، كيفما عظمت هذه الشخصيات في ذاتها.
Shafi da ba'a sani ba
كان الشاعر اليوناني السكندري كافافي (C. P. Cavafy)
يقول: «لا تحتقر أي شيء في الحياة، بل خذ كل ما تعطيه لك.» وذلك نفس شعوري؛ فإني لا أحتقر شيئا غير التصنع، وأما كل ما في الحياة من جمال ومادة فنية فحبيب إلي، ومنير لشاعريتي، وأشعر بالقصور أمام روعته مهما حاولت أن أعبر وأجيد، مدفوعا بدوافعي الوجدانية، واعيا أم غير واع. وإزاء هذا التنوع في الحياة يتنوع الشعر ويبدو متناقضا أحيانا في مظاهره، ولكن حقيقة الحياة واحدة. ومن جميع مآثر الحياة ومعالمها أود أن أخص المرأة بتحيتي وتقديري، وإني لأذكر كيف عشت مشغوفا في طفولتي وصباي وشبابي بوالدتي، وقدست المرأة بتأثير حنو هذه الوالدة علي، وزاد من عمق هذه القداسة فقداني إياها، وفقداني من علقت بها وأنا غريب عنهما عشر سنين كاملة تحت رحمة الحرب ... فإذا بقي لشعري تعلقه بالمرأة، بل تقديسه إياها في شتى الصور فهو تعلق طبيعي، وإذا كان من أثر هذا الشعر أن تعنى الرجولة بالأنوثة العناية الواجبة بدل إغفالها الحاضر فإن هذا الشعر يكون قد أدى وظيفة تهذيبية ضمنية ولو لم يقصد إليها عمدا. •••
زعم أحد أفاضل النقاد «أن من عادة المؤلفين أن يقولوا إنهم ينتظرون نقدا لا تقريظا، فإذا نقدناهم عادونا أشد المعاداة!» وسواء أصح هذا أم لم يصح فمثلي يبرأ إلى الأدب من هذه الوصمة، وأعتقد أن جميع زملائي أعضاء أبولو يتعففون معي عن ذلك ... إن النقد الأدبي جزء متمم للحركة الأدبية، ولا يجوز أن يتعالى عنه الشعراء، وفي الوقت ذاته لا يجوز للنقاد أن يتغاضوا عن الشعراء، ولا يسوغ لأحد الفريقين أن يستاء من نقاش الآخر؛ إذ الفائدة كل الفائدة بنت الحوار الأدبي لا بنت التقرير، والحكم المطلق من أحد الفريقين على الآخر
2 ... ومن الأسف يبلغ الغرور ببعض الأدباء أن يتوهموا أن أعمالهم لا يجوز أن تنقد ولو بمعنى الدرس والتحليل، ويبلغ مثل هذا الغرور وفساد الرأي بطائفة من النقاد أن يتوهموا أن النقد الأدبي ليس سوى لون من الهدم أو صورة من التشفي وكلا الفريقين لا ينصف نفسه، ولا ينصف الأدب ولا الأدباء، وكأنما يشتهي أن يكون وحده دكتاتورا أو حاكما بأمره!
وإني أرحب بكل نقد نزيه يوجه إلى هذا الديوان وإلى شعري عامة لخدمة الأدب في ذاته، وأما صلتي بهذا الشعر فهي أوثق من صلة الأديب المألوفة بأدبه، فهو دمي وأنفاسي، ومهما قيل له أو عليه فلن أجحد ما هو من صميم نفسي، ولن أنشد له ثناء لن يزيد من نبض حياته المستمدة من كفاية حيويتي وحدها.
ضاحية المطرية، مصر
في 27 ديسمبر سنة 1933
أحمد زكي أبو شادي
إلمامة
الأدب العربي في العصر الحاضر
Shafi da ba'a sani ba
ليس غرضي وأنا أكتب هاته الإلمامة لديوان «الينبوع» تقديم أبي شادي إلى قرائه، فما كان أبو شادي بحاجة إلى التقدمة، ولعل الكثير من قرائه يعرف عنه أكثر مما أعرف، ولا الإشادة بسجاحة خلقه، وسماحة نفسه، وطيبة قلبه، فتلك صفات يستطيع أن يدركها كل من يطالع آثاره، فيلمس فيها صوفيته العميقة التي تعاطف العالم، وتشمل كل شيء فيه بفيض من العطف والحنان، ولا التنويه بجهوده العظيمة المتعددة التي ينوء بحمل أعبائها فريق من الناس أولي العزم، فقد عرف الناس له هاته المزية، وآمنوا بها في شيء من العجب غير قليل.
أجل، فأنا لا أريد أن أعرض لكل ذلك، بل ولا أريد أن أعرض لشعر أبي شادي أيضا ببحث مفصل، ونظرة مستوعبة ، فقد فاجأ أبو شادي الناس في شعره بروح جديدة ونزعة مستحدثة، وأسلوب طريف، وطريقة لم يعهدوها من قبل، فقابلوه بشيء من الاستنكار غير قليل، ثم أخذ الزمان يعمل عمله، فاستساغه فريق من الناس وألفه، وأخذت فئات أخرى تشيد به وتنضح عنه، وظلت طائفة من الناس على رأيها الأول ونفرتها القديمة لا تتحلحل عنها أو تميل، فاختلف الناس فيه وما زالوا، ولا يزالون مختلفين فيه إلى ما شاء الله، وأعتقد أن كلمتي لا تنقص من هذا الخلاف قليلا ولا كثيرا؛ ولهذا فقد آثرت أن أتحدث حديثا أعم من ذلك وأشمل، وأن أتخذ موضوع هذا الحديث «الأدب العربي في العصر الحاضر»، ثم لا أتحدث عن شعر أبي شادي إلا كظاهرة من ظواهر هذا الأدب، لها وجهها الخاص، ولونها الذي تعرف به. •••
أعتقد أنني لا أكون غاليا في شيء إذا قلت إن عصرنا الحاضر يمتاز عن كل ما سبقه من العصور بامتزاج الثقافات فيه امتزاجا عظيما لا نظير له، وإن الأدب العربي الحديث قد اختلط بآداب العالم اختلاطا لم تعرفه تواريخ الآداب في عهودها السالفة.
ففي أطوار الانقلابات الكبرى، التي يريد فيها التاريخ أن يدور دورته المحتومة الخالدة، تأخذ نفسيات الشعوب التي ستولد مرة ثانية في التطور والتحور والاستحالة، فتستيقظ أحلامها النائمة، وتتوهج أشواقها الخامدة، وتصبح نفسها شعلة متأججة بنار الحنين، وينقسم قلبها الثائر إلى شطرين: شطر ملول، متبرم بالحاضر وما فيه، وشطر مشوق، طامح إلى المجهول وما فيه، وفي مثل هاته الحالة النفسية المعقدة التي تصبح فيها روح الأمة مشبوبة بحمى الحياة، يندفع الناس في لهفة اليقظة الطامحة إلى ثقافات العالم وفنونه وآدابه يطفئون بها ما في أعماق نفوسهم من جوع وظمأ إلى الحياة، فتتلاقح ثقافات، وتتمازج آداب، وتصطفق آراء وأفكار، وينتج من هذا المزيج ثقافة جديدة وأدب طريف لهما سحر وفتنة وجمال. كان ذلك في الروح اليونانية، حينما انتصرت على الفرس، واتصلت بروح الشرق في فارس وآشور ومصر، وكان ذلك في الروح الرومانية حينما مكن الله لها من اليونان فانتهبت ما لها من علم وأدب وفن، وكان ذلك في الروح العربية في العصر العباسي وما يليه، حينما اطلع العرب على ما لفارس والهند واليونان والرومان من حكمة، وأدب، وعلم، وفلسفة، وتشريع، وكان ذلك في الروح الأوروبية منذ عصر «النهضة» حينما اتخذت مثلها الأعلى في الأدب والفن ما لليونان والرومان من فن وأدب، وأخيرا كان ذلك أيضا في الروح العربية الحاضرة بعد يقظتها من سبات الدهور. ولكن امتزاج الأدب العربي الحاضر بغيره من الآداب قد كان على صورة من القوة والشمول لم يعهد لها مثيل في جميع العصور والأجيال، ولعل ذلك يرجع إلى «المطبعة» التي أعطت للحركة الثقافية هذا المظهر القوي الساطع، كما يرجع إلى طبيعة حضارة اليوم التي تمتاز بالسرعة والحركة والاتصال، فإن الأدب العربي في العصر العباسي وما يليه لم يتأثر إلا قليلا بأدب الفرس والهند وما لهما من حكمة وأمثال، وبقليل من أساطير اليهودية والمسيحية، وبشيء من الفلسفة اليونانية، وبعض المذاهب والنحل الشائعة إذ ذاك، وبنزر مشوه من أدب الرومان، فهو لم يتأثر تأثرا قويا بآداب هاته الأمم، ولا حاول أن يتصل اتصالا وثيقا بما لها من تاريخ ودين وأساطير، بل تأثر بها تأثرا بسيطا لعله لم يكن مقصودا ولا معنيا به، ولكنه على كل حال قد أحدث نتيجته المنتظرة، فاستحدثت معان وأخيلة وأساليب وطرائق من البيان لم يعهدها العرب من قبل ولا ألفوها. والأدب الأوروبي لم يتصل في عصر «النهضة» بغير الأدب اليوناني والروماني، ثم بقليل من الأدب العربي في صقلية والأندلس، ثم إنه عاد بعد ذلك إلى تاريخه يستلهم ما فيه من أقاصيص الفروسية وسير الأبطال، ثم رجع إلى دينه فأخذ يستوحي الأساطير المسيحية، ويتخذ منها غذاء لروحه وأحلامه، ثم إنه عثر على كنزه المفقود فأخذ يستمد من الروح الأوروبية نفسها مادة حياته التي لا تنفد، فكانت ثورته الرومانتيكية الحاسمة التي فتحت أمامه آفاقا جديدة، ووقفت به على حدود المجهول الذي لا تنتهي صوره وأشكاله، وعلمته كيف يستلهم الحياة نفسها، ويستوحي جمال الوجود، بعد أن كان يتخذ الوقائع والأحداث مادة وحيه وخياله، والتي ما زالت - فيما أرى - حية في صميمها، وإن اختلفت فيها الأسماء والحدود.
ذلك كل تأثر الأدب الأوروبي بغيره، أما الأدب العربي الحديث فإنه لا يريد أن يتصل ببعض آداب العالم دون بعض، كلا، وإنما هو يتصل بجميع آداب العالم، لا يستثني منها واحدا، سواء في ذلك القديم والجديد، والقريب والبعيد؛ فهو يتصل بالأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والإيطالي والروسي والإسباني والإسكانديناوي والأمريكي، بل وحتى الروماني واليوناني القديمين، وهو لا يريد أن يمر بهاته الآداب مر المجانب، بل يريد أن يتصل بروحها اتصالا وثيقا، وأن يتأثر بهذا الروح ويستوحيه، وهو لا يكتفي بهذا بل يستلهم تواريخ هاته الأمم والشعوب، وما لها من أساطير وخرافات، ثم هو يأبى إلا أن يستغل في استلهامه ما لها من فن وفلسفة وعلم، ثم هو لا ينسى أن يستوحي مع ذلك ما في أدب اللغة العربية وتاريخها وأساطيرها من صور الفن وآيات الجمال، ثم هو يضيف إلى كل ذلك ما في حياة الأمة العربية الحاضرة من أحاسيس مختلفة، وأحلام مشبوبة، وأطوار تشتبك فيها الحقيقة بالخيال، كل ذلك يتخذ من الأدب العربي المعاصر مادة لروحه، وغذاء لقلبه، وشرابا لأشواقه الجامحة.
وقل بين أدباء العربية الآن من كانت ثقافته مقصورة على العربية وحدها، بل إن الكثير منهم ليدين في إنتاجه إلى أكثر من ثقافتين وثلاث. والحق أنه قد أصبح من العسير جدا على الأديب العربي المعاصر أن يعصم نفسه من التأثر بالروح الأجنبية، فهو لا بد أن يتأثر بهذا الروح ولو تأثرا لا شعوريا، مهما كانت ثقافته خالصة في عروبتها، ومهما كان غاليا في التشيع لأنصار القديم، وما ذلك إلا لشيوع الترجمة والنقل عن الآداب الأجنبية شيوعا لم يعرفه تاريخ الآداب في عصر من عصوره.
وقد كان لاتصال الأدب العربي بغيره من آداب العالم هذا الاتصال القوي أن اكتسب الأدب ثروة فنية ضخمة في الصور والمعاني والأخيلة والأساليب بصورة لم تعرفها الآدب العربية من قبل، وإن أفادت اللغة العربية مرونة ودقة أصبح بهما الأديب الشاعر يستطيع أن يعبر عن أخفى العواطف المستسرة، وأدق الأحاسيس الغامضة، وأعقد الحالات النفسية التي كان أديب الأمس لا يستطيع تصورها وإدراكها، فضلا عن التعبير عنها، ونفخ الحياة فيها، وإعطائها ما يلائمها من أضواء وظلال. ولكن ذلك الاتصال الوثيق كما أنتج تينك النتيجتين الجميلتين أنتج نتيجة أخرى لا ندري على التدقيق ما سيكون أثرها في الأدب العربي الحاضر، فقد أدى إلى بلبلة في فهم الشعر، وضبط مقاييسه، وموضوعه، وغايته، لا نحسب أن تواريخ الأدب في العالم قد سجلت مثلها، حتى لقد كاد يصبح لكل أديب مقياسه في فهم الشعر وتقديره، وأصبح النقد فوضى لا تضبط لها حدود ولا تقوم على أساس محترم من الجميع.
فهناك المدرسة القديمة، وشعراؤها ونقادها، وآراؤها عن الشعر وما يجب أن يكون عليه، وهناك المدرسة الحديثة بما فيها من شعراء ونقدة على اختلاف نزعاتهم وثقافاتهم وأطوارهم النفسية، ومن خلفهم طوائف المتأدبين الذين لهم أحكامهم الخاصة على الشعر والشعراء والنقد والناقدين، والتأليف والمؤلفين، والذين لا تضن عليهم الصحافة ولا المطبعة بنشر ما يرتئون من رأي وحوار، ومن وراء كل ذلك جماهير القارئين في مختلف جهات العالم العربي بآرائهم المتقلبة التي تبنيها الغدو وتهدمها الآصال، ويعبث بها جزر الحوادث ومدها في خضم الزمان.
وإنه ليعيي المرء - مهما حاول - إحصاء هاته المذاهب، أو النزعات إذا تحرينا دقة التعبير، التي تضطرب في رءوس الشعراء والنقاد والمتأدبين، والتي تتقاذف الأدب العربي المعاصر أخذا وردا وجزرا ومدا، ولكن سنحاول أن نتحدث بإيجاز عن أظهر هاته النزعات في محاورات اليوم، وأقواها أثرا في نفوس الأدباء.
فمن هاته النزعات النزعة «الخيالية»، وهي نزعة لا تعتبر الشاعر شاعرا إلا إذا كان شعره عالما سحريا، لا تنتهي أطيافه وخيالاته ولا أضواؤه وظلماته، وتشعر فيه نفس القارئ أنها قد ارتفعت إلى ما وراء الغيوم وما خلف النجوم ... ومنها النزعة «الرمزية»، وهي نزعة لا تريد من الشاعر إلا أن يتحدث للناس من وراء السحاب، أو ملفوفا في مثل الضباب، ولا تتطلب منه إلا كلاما مبهما لذيذا، شبيها بالموسيقى في لغتها الغامضة التي كلما أصغى لها السامع حركت في نفسه ضروبا من الحس والتصور والخيال غير ما حركت من قبل، وعبرت له في كل لحظة تعبيرا جديدا لا تنتهي ألوان المتعة والطرافة فيه. ومنها النزعة «الفلسفية»، وهي نزعة لا تفهم الشاعر إلا أن يكون فيلسوفا له فلسفة مضبوطة محكمة لا تضطرب مقدماتها، ولا تختل نتائجها، ولا تتناقض أجزاؤها بتناقض حالات الشاعر النفسية واضطرابها بين الشك والإيمان والثورة والسكون واللذة والألم. ومنها النزعة «الثورية»، وهي نزعة لا تعترف للشاعر بالشاعرية إذا لم تكن له في آثاره قوة العاصفة الداوية والبراكين الطاغية، ينطق فتنطلق كلماته مجلجلة جامحة ترج الحياة في أعماقهم رجا، وتزلزل هدوء الأحلام، ويتكلم فيندلع اللهيب من كلماته المتوهجة بنار الحياة. ومنها النزعة «المتعمقة»، وهي نزعة تأبى على الشاعر إلا أن يكون عميقا كالليل، لا يناجي أبناء الإنسان بهاته المعاني الواضحة البادية التي تستوعبها اللمحة الخاطفة والنظرة الطائرة في الفضاء، وإنما تريد منه أن يناجيهم بما في أعماق الحياة والموت والوجود والعدم، وما في خفايا ذلك العالم المجهول الذي يحمله قلب الإنسان من عبودية عريقة للحياة، وثورة على نواميسها العاتية. ومنها النزعة «التاريخية»، وهي نزعة تنكر على الشاعر كل شيء إلا أن يكون ظلا واضحا لهاته الحياة العابرة، يستطيع المؤرخ أن يجد في آثاره صورة حية من عقائد الشعب وعاداته وأطواره، وتقلباته وأحلامه وخرافاته. ومنها النزعة «السياسية»، وهي نزعة لا تريد من الشاعر إلا أن يكون زعيم قوم يدعوهم إلى النهضة والحياة، ويهيب بهم إلى الضرب في سبيل الزمان الذي لا تنتهي تعاريجه وعقباته. ومنها النزعة «الصحافية»، وهي نزعة تريد من الشاعر أن ينظم في أحداث اليوم ومشاكل الساعة ويقدم للناس صحفا منظومة يسجل فيها حوادث العالم في السياسة والاقتصاد وكل شيء آخر، وعلى الإحساس والفكر والعاطفة رحمة الله ... ومنها النزعة «الغزلية»، وهي نزعة لا ترضى عن الشاعر إلا إذا قدم حياته قربانا للمرأة، وأحرق مواهبه بخورا تحد قدميها الجميلتين، ولم يتكلم بغير لغة الحب والدموع، أما بقية لغات النفس وعواطفها الأخرى فعليها لعنة الشعر والحياة ... ثم لعنة حضرات السادة الغزليين ...
Shafi da ba'a sani ba
وهناك نزعات كثيرة أخرى، ولكنها ضعيفة تافهة، ليس لها من قوة الأثر ما يحملنا على تدوينها في كلمتنا هاته: نزعات غريبة، وأخرى ذابلة، وأخرى ميتة بالية، فلندعها تختلج اختلاجة الموت في أدمغة بعض غلاة القديم، وبعض متطرفي الجديد، ولندعها تقضي ساعة الموت في سكون الظلام؛ فهي ذاهبة لا محالة إلى هوة الفناء المحتوم ...
ولكن هناك نزعة غريبة يدين بها بعض الناس ممن يحملون التجديد على غير محمله، ويفهمونه على غير المراد منه، فهم يحسبون التجديد أن يأتي الشاعر في أسلوبه ومعناه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشيء، وأن يخلق آثاره من عدم، ويأتي بها غير مسبوقة بصورة أو مثال! وهي فكرة غريبة لا نفهم كيف يستطيع اعتقادها فريق من الناس، ولكننا نسوق إليهم هاته الكلمة الصغيرة:
إن الحياة نفسها ليست إلا حرية ترسف في القيود، وسلسلة يتصل فيها الطريف بالتليد، وإننا حين نطالب الشاعر بالتجديد لا نطالبه بأكثر من أن يترسم خطى الحياة في فنها، فالزهرة - وهي فن من فنون الحياة - ليست إلا بعض ما في التراب والماء والسماء من روح الحياة، ولكنها مع ذلك فن منها جديد يخيل إلينا أنه بعيد عنها جد بعيد. ونحن - أبناء الإنسان - ننحدر إلى هاته الدنيا وفينا مشابه من آبائنا الأولين في الملامح والميول والأطوار، ولكن لكل منا روحه الخاصة، وطابعه الممتاز. وكذلك تتدفق الكائنات من قلب الحياة الأزلي الذي لا ينضب، وكأنها صور ممتازة متباينة رغم ما بينها من وشائج الرحم والقربى، ولولا ذلك التباين الحكيم لأصبح عمل الحياة عبثا متواصلا، وعناء معادا لا جدوى وراءه ولا متاع.
كذلك يصنع الشاعر الفنان، وكذلك ينبغي أن يصنع، فهو لا يستطيع أن يخرج عن نفسه التي بين جنبيه وما في هذا العالم من سحر ولذة وألم، وما خلفته الإنسانية من فن ورأي ودين، ولكنه حين يتحدث إلينا بذلك في آثاره لا يتحدث به إلا بعد أن يحيا في قلبه، ويتوهج في حياته، ويتضرج بأضواء نفسه المشرقة، فتبرز آثاره للدنيا موسومة بوسمه، ومطبوعة بطابعه الذي لا يزول، وذلك هو التجديد بمعناه الواضح الصحيح. •••
والشاعر ماذا يصنع بين هاته السبل المتعرجة، وفي لجة هاته الأصوات التي تهيب به من كل ناحية ومكان؟
أما إذا كان ضعيف النفس خوار العزيمة فإن مواهبه وألحانه تضمحل وتفنى في هذا الأفق الداوي بالأضواء، وتذهب حياته أباديد في مهاب هاته الرياح، وأما إذا كان موثق العزم قوي الإيمان برسالته، فهو يسلك سبيله في عزم وقوة غير آبه لتلك الأصوات الكثيرة المتباينة، وهو يمضي قدما، صاما سمعه إلا عن صوت «الحياة» المتردد في أعماق قلبه المتدفق في جوانب نفسه تدفق أمواج البحار، مطبقا بصره إلا عن نور السماء المشرق في آفاق روحه الحالمة، وفي أعماق الوجود. وهو يمشي وعلى شفتيه بسمة مشفقة ساخرة بكل هاته الأصوات التي تريد أن تحصر روح الشاعر في قفص مطبق محدود الجوانب؛ لأنه يعلم أن روح الشاعر روح حرة لا تطمئن إلى القيد، ولا تسكن إليه، حرة كالطائر في السماء والموجة في البحر، والنشيد الهائم في آفاق الفضاء، حرة فسيحة لا نهائية لا تحدها نزعة واحدة، ولا مذهب محدود، وإن كانت لا تضيق بكل هاتيك النزعات مجالات نفس الشاعر، ولا تتقيد بصورة أو مثال.
والحق أننا نخطئ كثيرا إذا حاولنا أن نفرض على الشاعر آراءنا ومذاهبنا وأحلامنا فرضا، ولن نجني من وراء ذلك إلا تضليل المواهب الجديدة الناشئة، وسخرية المواهب الكبرى السائرة إلى النور، وأنه ليس لنا أن نطالب الشاعر في شعره بغير «الحياة»، وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه «الحياة» رفيعة سامية، تتكافأ مع ما للشعر من قدسية الفن وجلاله، ففي الحياة كثير من الحماقات والدنايا، يتعالى الفن عن التدلي إليها من سمائه العالية.
فإذا قرأنا شعر الشاعر فوجدنا فيه إنسانا من لحم ودم، يحيا ويتنفس، ويشعر ويفكر، ويجاوبنا بالعطف والحس والخيال، وينسينا لحظة وجودنا المحسوس بما يخلعه علينا من جمال الفن وصوره، ويرتفع بمشاعرنا فوق دنايا هذا العالم ومحقراته، إذا وجدنا هذا الشاعر فلنقرأه في ثقة وإيمان بأنه الشاعر حقا، وليس بعد هذا أن يكون رمزيا أو رومانيكيا أو غير هذا وذاك. فما تلك في الحقيقة إلا أطوار نفسية يتشكل الشعر بما لها من ألوان وظلال وأضواء، وليست هي الشعر نفسه؛ فإن لباب الشعر «الحياة».
ولقد قلت مرة عن الفن بمعناه الواسع: إنه «حياة موسيقية مصطفاة»، سواء كان قطعة تنشد، أو لحنا يعزف، أو صورة ترسم، أو تمثالا ينحت، فهو «حياة»؛ لأن الفن في صميمه إنما هو صورة من تلك الحياة التي يحيا بها الفنان في هذا الكون الزاخر الرحيب، أو في دنيا خياله وأحلامه، وكيفما كانت تلك الصورة في اللون والشكل والعرض، وهو حياة «موسيقية»؛ لأن الفن في جميع صوره وألوانه إنما هو مجموعة نسب موسيقية، يوازن الفنان بينها موازنة حكيمة ملهمة، يحس بها في قرارة نفسه ويأتيها، وربما لا يفهمها كل الفهم أو بعضه؛ فالشاعر العظيم هو الذي يوفق في فنه إلى المعادلة بين نسب العاطفة والفكر والخيال والأسلوب والوزن، بحيث يحصل بينها التجاوب الموسيقي الذي ينسجم في القصيد انسجام النور والعطر والماء والهواء في الزهرة الجميلة اليانعة. والرسام العظيم هو الذي يوفق في الصورة إلى الموازنة الموسيقية بين الألوان والأضواء والظلال، والروح الفنية الشائعة في كل ذلك شيوع الضياء في السماء، وليقل مثل ذلك في بقية ضروب الفن وأصنافه.
وهو حياة موسيقية «مصطفاة»؛ لأن الفنان المخلص لفنه لا يعبر أو هو مكره على ألا يعبر بفنه إلا عن أرفع صور الحياة وأسماها، وعلى هذا فإن الشعر الرفيع حياة موسيقية مختارة تعبر عن نفسها في فن من الكلام. والموسيقى حياة موسيقية مختارة ترفرف بألحان مجنحة في جو منغم موزون، وكذلك يقال في سائر أنواع الفن. •••
Shafi da ba'a sani ba
وقد تحدثت عن المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة في الشعر العربي الحديث، فما هي حدود كل من المدرستين، وما هي غاياتهما؟
أما المدرسة القديمة، فهي تزعم أن للغة العربية مزاجا خاصا لا يسيغ إلا ضروبا محدودة من التفكير والحس والخيال، وهي تنقم على المدرسة الحديثة أنها تستحدث في الأدب العربي فنونا من البيان مشبعة بما في الروح الأجنبية وآدابها من طرائف التفكير والخيال والإحساس، وهي تدعي أن ذلك لا يلائم طبيعة اللغة العربية، ولا ينسجم على ما تسميه «الأسلوب العربي الصميم».
وأما المدرسة الحديثة فهي تدعو إلى كل ما تكفر به المدرسة القديمة بدون تحرز، ولا استثناء، هي تدعو إلى أن يجدد الشاعر ما شاء في أسلوبه وطريقته في التفكير والعاطفة والخيال، وإلى أن يستلهم ما شاء من كل هذا التراث المعنوي العظيم الذي يشمل كل ما ادخرته الإنسانية من فن وفلسفة ورأي ودين، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربيا أو أجنبيا، وبالجملة فهي تدعو إلى حرية الفن من كل قيد يمنعه الحركة والحياة، وهي في كل ذلك لا تكاد تتفق مع المدرسة القديمة إلا في احترام قواعد اللغة وأصولها، بل إن فريقا من متطرفي المدرسة الحديثة لا يعدل بحرية الفن شيئا، ولا يحفل في سبيل ذلك حتى بقواعد اللغة وأصولها، غير أن صدى هاته الطائفة قد أخذ يخفت ويضمحل ولا شك أنه سيفنى مع الزمان؛ فهو ليس إلا طفرة جامحة لكل الطفرات التي تصحب كل انقلاب في حماسة الدعاية الأولى.
ولكن، ما غاية هاته المدرسة الحديثة وما حدودها؟
أما إذا أردت يا صاحبي أن تجعل لهاته المدرسة حدودا مضبوطة فاصلة على النحو الذي كان عليه المذهب الرومانتيكي أو الرمزي أو البرناسي أو الواقعي، أو غير هاته المذاهب التي سيرت الأدب الفرنسي في طرق خاصة، وأملت عليه من روحها القوي الثابت، أقول إذا أردت ذلك فإنك غير واجده؛ فالمدرسة الحديثة لم تصبح بعد مذهبا واضح الحدود والمعالم، ولكنها ما زالت ثورة مشبوبة هائجة، وإيمانا قويا عميقا، ثورة في سبيل حرية الشعر وكماله، وإيمانا بسمو الغاية وجلال المبدأ. أجل، هي ثورة ما زالت تختلط فيها المطامح والميول، وتضطرب فيها أصول المذاهب اضطراب البذور في حميل السيل، وآية هذا ما أسلفت من اختلاف في المقاييس الأدبية ، والأساليب والنزعات، وذلك سر هاته الحيرة العميقة الغائمة التي تعانق أرواح أغلب شعراء هاته المدرسة، فكل واحد منهم واقف بشعره على تخوم عالم مجهول، لا يعرف له مبدأ ولا غاية، تستفز نفسه أصوات وأنغام، وتستهوي خياله أشواق وأحلام، وتسحر طرفه أشعة وأطياف، ولكنها لا تأسر نفسه حتى تتوارى وراء السحب البعيدة النائية، ثم تضمحل وتفنى في سكون الفضاء. وما أشبه حال شعراء هاته المدرسة اليوم بحال «البحار وجنية البحر» فيما تقصه الأساطير! ولذلك فكل شاعر من شعراء هاته المدرسة يكاد يمثل في نفسه مدرسة مستقلة لها مذهبها الخاص، وطابعها الممتاز، ولها وجهتها في فهم الشعر وإنشائه.
على أنك تستطيع أن تلمس في آثارهم رغم ذلك روحا قوية متأججة مشرقة كالصباح، متوهجة كاللهيب، هاته الروح هي طلاقة الحياة والحنين إلى المجهول ... فالحياة الحرة المطلقة، والأشواق التائهة المبهمة، أو «الطموح» بأشمل معانيه، هو الروح الغالبة البادية في آثار هاته المدرسة التي تجاهد في سبيل الكمال الفني المنشود.
وأبو شادي كشاعر من شعراء هاته المدرسة المجددة له مذهبه، وأسلوبه، وروحه الخاصة الممتازة.
أما مذهبه الشعري - فيما أرى - فهو أن يحرص الشاعر كل الحرص على التعبير عما يدوي في أعماق نفسه من أصداء الحياة، وما يخالجها من وحي هذا الوجود، وعلى ألا يضيع من ذلك شيئا ما استطاع إليه سبيلا. ولعله يؤمن بأن كل تقصير في ذلك يعد خيانة لأمانة الفن؛ فالشاعر لم يوجد إلا ليؤدي رسالة هذا الكون الذي لا تسكت ألسنة الهواتف فيه، وكلما قصر الشاعر في أداء هاته الرسالة كان خائنا لرسالته، وغير مخلص لفنه، وهذا هو السر في وفرة إنتاج أبي شادي بالنسبة لغيره من الشعراء.
فهو إذن صاحب مذهب جديد في الشعر، وأنا أعتقد أن مذهبه هذا يرجع إلى طبعه أكثر من كل شيء آخر، فهو ذو طبع عملي ممتلئ بالعزم، والحياة لا تكاد تولد الفكرة في أعمال نفسه حتى تحولها طبيعته العملية إلى كائن موجود؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يحس إحساسا لا يعبر عنه، ولذلك فهو يعجب كيف يؤثر الشاعر وأد عواطفه على بعثها حية في شعره تتنفس بروح الحياة! وكيف يقتل الكسل والاستسلام روح الخلق في الفنان الذي لم يوجد إلا ليخلق! وهو يعبر عن مذهبه هذا في كثير من نثره وشعره، ولكنه يعبر عنه بحرارة وإيمان في قصيده الجميل الرائع: «التجدد» من هذا الديوان.
وأما أسلوبه فهو يمتاز بجمال الطبع والسهولة، والبساطة الحرة الواضحة التي لا تحب التكلف ولا تسعى إليه، وهو يرسله إرسالا، كما قال «مثل الأتي ومثل الجدول الجاري» لا يتأنق فيه ولا يتعمل، ولا يحرص على ما يحرص عليه بعض الشعراء من ظهور آثارهم بمظهر المترف الأنيق، ولكنه يحرص كل الحرص على أن يكون صادقا دقيقا في التعبير عن ذات نفسه ولو أدى به ذلك إلى الغموض أحيانا.
Shafi da ba'a sani ba
أما بعض الناقدين الذي يجردون أسلوب أبي شادي من الجمال فإنهم يظلمون الرجل ويتحاملون عليه، فإن أسلوبه لا يفقد الجمال ولكنه يفقد الأناقة، وشتان بين الأناقة والجمال، والحق أن الشاعر إما أن يضيع غير قليل من أحاسيسه وأصوات قلبه في سبيل الأناقة والاندفاع مع الرنين الموسيقي، وإما أن يضيع غير قليل من هاته الأناقة في سبيل التعبير عن ذات نفسه بدقة وأمانة، وأبو شادي لا يؤثر التضحية بمذهبه الذي يدعو إليه ويؤمن به في سبيل التزويق والتنويق.
وأما الروح التي يمتاز بها شعر أبي شادي فهي روحانية عميقة، وصوفية بعيدة المدى، وإحساس مرهف مشبوب، وخيال متنقل سريع. وبهاته الروح المركبة ينظر أبو شادي إلى هذا الوجود فلا يرى فيه إلا أحياء جديرة بالمحبة والعطف، يعاطفها وتعاطفه، وتشاركه الأنس والحياة، وبهاته الروح يهتف قائلا من أعماق قلبه:
وكم في الظل والأنوا
ر أحلام أناديها!
أبو القاسم الشابي
تونس
إهداء الديوان
لما رأيت عواطفي وخواطري
ومنى الحياة لديك أنت تضوع
أيقنت أنك أنت وحدك خالقي
Shafi da ba'a sani ba
وعرفت أن جمالك «الينبوع»
فجعلت قرباني إليك عواطفي
إن الحياة حنانك المطبوع
أبو شادي
شعر الديوان
الصبا المبعوث
يا زهرة لحبيبتي قد مثلت
أعوام فرقتنا إليك أحن
1
لم ألق غيرك من تجسم ما مضى
Shafi da ba'a sani ba
من لوعة في روعة تفتن
مضت السنون فكيف كيف أعيدها
إلا بحبك أنت حين أجن؟
لم لا أجن وذاك عمري ذاهب
كالنبع قد خانت جداه المزن؟
عمري مضى إلا الأقل، وإنه
عمر على الحالين فيه الحزن
وأحبه ذاك الشباب المنطوي
ولديك أنت خياله المفتن
فإذا عشقتك أنت عشق حبيبتي
Shafi da ba'a sani ba
فالبر يوحي بالهوى والفن!
قد صرتما لي صورتي حبي الذي
منه نفيت، ومنه منه الغبن
وله حييت وما أزال أعيش في
حلمي، فلولا الحب مات الكون!
من ذا يلوم توددي لك بعدما
عانيت مما قد جناه البين؟
من مرجع أمسي الذي كفنته
فيعود عطف منه ليس يمن؟
أنت التي هي صورة من أمها
Shafi da ba'a sani ba
فلها الرشاقة والصبا والحسن
وبها زمان تلهفي وتحرقي
يرنو إلي، كما شجاني الأن
ما أنت إلا فلذة من مهجتي
بعثت فكيف ترد شوقي السن؟
وإذا انتسبت فإنني أولى بما
مثلت من روح إليه أحن
الألحان الصامتة
لغة الحواجب والعيون
لغة من الشعر الحنون
Shafi da ba'a sani ba
أغنت عن اللحن الشجي
وفسرت معنى الفنون
وكأنما الألحان إن
حرمت صداقتها تهون
وقفت تغني والغنا
ء يذوب من فمها فتون
ورشاقة الصوت الحبي
ب كأنها عذب الجنون
قد رنحت منها القوا
م وأسبلت منها الجفون
Shafi da ba'a sani ba