وطال الأمد فأنفق الشيخ المال - حتى ما اختصت به بنته - على التي حلت محل زوجته بعد هجرتها، وانتظر الحوالة الثانية فإذا بحرب سنة 1914 تعلن، وانسدت أبواب البحر على لبنان، واشتد الضيق ثم كانت المجاعة التي ذهبت بثلث السكان، فبيع باب البيت برغيف خبز شعير، ودونم الأرض بأقة طحين، وأكل الناس الفئران والجراذين والحمير الميتة، وكنت ترى البائسين على طرق العربات صفوفا كالتي تخيلها الفرزدق حول سماط جنوده، صفوفا حول روث الخيل ينقون منه الحب الذي لم يهضم، أما الشيخ فرنسيس فانصرف إلى عقاراته الواسعة يستغلها ويفي من ريعها ما بقي من ديون، كل ليرة ذهبية بليرة ورقا أو أقل.
وانفتح باب جديد، فتسرب مال المهجر عن طريق المطبعة الأميركية، فأصبح اسم المستر دانا والمعلم أسعد خير الله على كل لسان، ثم انفتح باب آخر عن يد القومندان ترابو، كان يرسل الذهبات عينا فيستبدلها عماله بالورق هربا ... من المسئولية، فمات أصحاب المال جوعا، واغتنى السماسرة إلى ولد الولد.
وأخيرا ورد إلى فرنسيس مبلغ ألف ريال عن يد المطبعة الأميركية، فما فرح به كثيرا، أغنته غلة عقاراته عن هدلا وحوالاتها، فكان يقول: نشكر الله كل ساعة، زيادة الخير خير، وانقطع الحبل بين الزوجين، كل يعمل في حقله ... ثم سكنت الحرب، فورد كتاب من أحد أبناء القرية في المهجر يروي خبر اقتران هدلا رسميا برجل أميركي، فألحت سلطانة بدورها على الشيخ فرنسيس أن يتزوجها أيضا رسميا، أفهمها أن ذلك مستحيل، وأن وضح زواج هدلا كعين الشمس، فجفته، ولم يطق صبرا، فنزل أخيرا على إرادتها، وكانت المؤامرة التي ورد على أثرها كتاب إلى فرنسيس من المهجر ينبئه بموت زوجته ويعزيه أحر التعزية، فتسلح فرنسيس بالرسالة وأقام جنازا حافلا جدا، وبعد أشهر التمس إجازة زواج من أسقفه، فتم إكليله باحتفال لم يقل أبهة عن العرس الأول مع أنه أرمل. أما بنوه فبكوا أمهم ثم نسوها، ولكنهم لم ينسوا بؤسهم ، البنت عنست لأن سمعة أمها ساءت، ولأن أباها أكل دوطتها، فأمست كالخادمة لخالتها سلطانة، وأما إخوتها فهجروا الضيعة بعد اعتداء البكر على أبيه، ورزق فرنسيس غلاما من سلطانة أحبه جدا.
وبعد سنتين شاع - على أثر وصول البريد - خبر مآله: أن هدلا ستعود من «البلاد» في أول أيلول، فاضطرب فرنسيس وارتاعت سلطانة؛ استشارت معلم ذمتها فوجم أيضا ولكنه صدقها الفتوى، فقالت: بأي حق؟ فأجابها الخوري: هذا هو اللاهوت يا بنتي، ما في اليد حيلة، السماء والأرض تزولان وحرف من الناموس لا يزول، الزوجة الأولى أحق برجلها.
فقالت المرأة: والأولاد؟ فتنهد الكاهن وقال: على الله يا بنتي. فنبشت المرأة شعرها وتفجعت ما شاءت، ولكن اللاهوت ظل لاهوتا، ورجعت إلى بيتها كالمجنونة.
ورفعت هدلا الدعوى على زوجها، فاستغرب ذلك راعي الأبرشية وقال لها: يا بنتي، أنت مت، لا تموتوا وترجعوا إلي.
وأثبتت أنها لم تمت، فسمع الديوان دعواها وحكم ببطلان زواج فرنسيس الثاني، وقضى بعودة زوجته الأولى إليه، ولكن القدر فكاك المشاكل، فقضت المسكينة نحبها تحت سقف بيت آخر غير بيتها، فأسرع فرنسيس إلى حيث ماتت واعترف أنه خاضع لأحكام الديوان الأسقفي، بعدما تمرد ورشق بالحرم الكبير.
قعد للعزاء بلا حياء، فعظم الناس أجره وشكر هو سعيهم، ولما دنت ساعة الميراث عثروا على حوالة قيمتها عشرة آلاف ليرة إنكليزية أبرق لها وجه فرنسيس، إلا أنه ما عتم أن اسود عندما قرءوا على قفاها: «وعنا دفع المبلغ إلى ولدينا جميل وأنيس وبنتنا ليلى، والقيمة وصلتنا نقدا.»
نفخ نفخ
منذ ألف وتسعمائة وأربع وأربعين سنة وقعت حوادث قصة الليلة، أما مكانها فبيت لحم وضواحيها، وكان رعيان يحرسون مواشيهم، ويتحدثون عن شئون وطنهم المقهور، مسهم القر فخصرت أيديهم وأرجلهم، فأوقدوا نارا قدام خيمتهم المنصوبة بين بيت جالا وبيت لحم، ثم عادوا إلى حديث ملكهم المندثر لما استدفئوا، فعللوا النفس «بانتصار الأسد من سبط يهوذا».
Shafi da ba'a sani ba