فأجابت: «وعمي وحماتي.» قلت: «إذن بيتكم دير.» فهزت برأسها وقالت: «وأي دير!»
فقلت: «وكيف تعيشون؟» فقالت: «من الأرض، في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل، انظر البيت خال، واحد مع المعزى، والثاني مع البقر، والثالث يكاري، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ، والبقية لأشغال البيت، وأنا للحياكة والخياطة والترقيع.»
قلت: «ترتاحون في أيام الشتاء.» فابتسمت وقالت: «ومن أين لنا الراحة! أنا والبنات نغزل ونسدي للحياكة في أيام الشتاء، والرجال للزرع والقلع، من لا يزرع لا يشبع.»
قلت: «وكل هذا من أين؟» فأجابت بنبرة: «من أين؟ من الأرض يا حبيبي، من الأرض، الله يبارك فيها.» قلت: «والخيطان من أين؟» فأجابت: «من صوف الغنم والشرانق، والقطن من البترون، لو كان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي البرية.»
ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت: «هذا جهاز البنات.» ثم أرتني نولها باسمة، وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن، وبراني السمن والعسل، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس، وبتيات العرق، وأخيرا أرتني صيرة المعزى، وقبو البقر، ودلتني على قن الدجاج والأرانب.
قلت: «وهل أملاككم واسعة؟» فقالت: «بين بين، ولكن الشغل متواصل، والزبل كثير، وشريك الماء لا يغلب، عندنا مائة رأس معزى وما فوق، عدا الغنم، وراءها السنة أكثر من خمسين جديا، وعندنا ستة رءوس بقر، وعندنا يا سيدي الأكرم دابة مثل البغلة، خلفها جحش يسوى نوم العينين، حلو حلو أكثر مما تتصور.» والتفتت نحو الأرض وقالت: «هذي الأرض نقبها أبو نخول العتيق، عاش فوق المائة، ما دخن ولا شرب أبدا، كان أغلب شغله في ضوء القمر، كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون، نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه، الفواكه لا تنقطع، عندنا من كل شيء حتى الأدوية من أعشابنا، الكينا قنطاريون، والمساهل دبس خروب، قال الله لا تكذب؛ لا نشتري إلا حبة الرز، الأحد مخصص للملح وصيد السمك.»
فقلت: «والسكافة يا أم نخول؟» فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود، فقلت: «والعلم؟» فهزت كتفيها وقالت باستهزاء: «تقبر العلم، جارنا علم ابنه وعرفنا النتيجة، تعلم أولادي القراءة والكتابة والحساب وهذا كاف، المدرسة مجانا من كيس الوقف.»
ونوديت من خلف الستار فلبت، وفيما هي راجعة دق جرس الظهر فوقفت «تبشر» حيث كانت، ولما أنهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت: «تفضل، الغدا حاضر.» فاعتذرت منها، فعزمت علي وقالت لي: «بيننا وبينكم خبز وملح، لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن أختي.»
وتغدينا دجاجا وأرانب وبيضا ولبنا وأكثر خضرة الوقت، وكان الحلو عسلا وقريشة وفواكه متنوعة، أما شرابنا فنبيذ عتيق.
وانصرفت قرب العصر أردد قول المثل اللبناني: «فلاح مكفي ملك مخفي.» ورأيت أبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة، فذكرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الوراق التي قال فيها ابن الرومي:
Shafi da ba'a sani ba