ورفعت نظري عن الورقة المبسوطة أمامي، فوهلت إذ رأيت قبالتي رجلا جالسا كأنه الطيف، لم أشعر بدخوله، وعجبت من صبره علي، فتنهدت مبتسما كالمعتذر ولكنه ما بالى، هو مطرق دائما، عربي الزي من قمة رأسه إلى نعله ذات الشراك والسيور، ملتح عليه عباءة رفع ذيلها الأيسر إلى كتفه اليمنى، منكسر الطرف كمن أفاق من النوم، تذكرت أني رأيت وجهه ولكن اسمه لم يدر على لساني، فما تراه جاء يعمل في هذا الليل؟ ولماذا لا يتكلم؟
دقت أجراس عالية كلها بعيد الميلاد، الأجراس تدق وتطنطن، والرجل جامد، سكوت بليغ، ضغطت على الزر فما لباني البواب، فتحلحلت من مكاني ولكن ضيفي لم ينزل من قمة رصانته. أقول لك الصحيح اقشعر بدني وغرقت في الكرسي، راعني سكوته، وهو لو يتكلم لعرفت ما عنده، وأخيرا هتفت كمن ركبه كابوس: «الله يمسيك بالخير.»
فتزحزح خياله قيد شعرة، وكأني سمعته قال: «مرحبا يا عم.»
مرحبا يا عم! هذه غلاظة، أهكذا يقضي على أبهة كافحت لأجلها كفاح عنترة؟ ولكني تصبرت وقلت في نفسي: هو رجل لا شبح؛ إذن الأمر هين، سأعرفه من أنا، وأؤدبه غير هذا الأدب، ووزنته لأرى إذا كنت أقوى عليه فوجدتني كذلك، ولكن العصا النائمة في حضنه رجحت كفته، ووجدت في الكلام قوة وشجاعة فقلت: «من أين شرف جناب الشيخ؟»
فهز برأسه وقال: «ابني عندكم يا أخي؟»
فامتعضت وتصبرت وقلت: «لهجة السيد فلسطينية.»
فأجاب: «نعم يا بي.»
فظننته يقول: «يا بك.» فانشرحت وانبسطت وأجبت بلهجة المرتاح: «نعم يا سيدي، المحروس عندنا، اليوم جئتم حضرتكم من الناصرة؟ كيف حال تلاميذنا القدماء؟»
فقال: «يا ليت! طفت الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها وما وجدته.»
فأكدت له أنه عندنا وصحته جيدة، وهو من الأولين في صفه ...
Shafi da ba'a sani ba