معلم
جبور بك
معاز الضيعة
الناس
دايم دايم
جان أفندي
أم لطوف
وجه غريب
موعظة القيامة
لص جواد
أم نخول
صلاة نائب
وعظة وديك
وجه مقيت
مهاجرة
نفخ نفخ
معلم
جبور بك
معاز الضيعة
الناس
دايم دايم
جان أفندي
أم لطوف
وجه غريب
موعظة القيامة
لص جواد
أم نخول
صلاة نائب
وعظة وديك
وجه مقيت
مهاجرة
نفخ نفخ
وجوه وحكايات
وجوه وحكايات
تأليف
مارون عبود
معلم
عرفته في عنفوان شبابه، صدر كالصندوق على فخذين كعضادتين، وهامة تثبت للعلماء أنه كان على وجه الأرض عمالقة، في مشيته شيء من الخيلاء يبرئ تسميتها غطرسة، كأن خطواته موقعة إيقاعا أو مقسمة بالبيكار، مشي السحابة لا ريث ولا عجل، ولكن ليس إلى بيت جاراته.
يتزيا بزي العلماء ويتوقر مثلهم، فأبداه غنبازه «الديما» أطول مما هو، هو متأنق في كل شيء حتى الحديث، كان يرطل كل كلمة ويروزها قبل أن تنطلق في الهواء، رأسه ثقيل كما يعبر العوام عن الرصانة، يدور على قدميه بكل مهابة، إن التفت كأنه مصراع بوابة الدير المصفحة، فلا تسمع منه جلنبلق كما أكد لنا أبو عثمان المازني إذ حدثنا عما يقوله مصراعا الباب عند الغلق والإصفاق.
فحصت ضميري فحص مؤمن موسوس قبل الاعتراف لأتذكر ابتسامته فأصفها، فما تذكرت قط أني رأيته باسما، أذكر أن لثته كانت محمرة، ولهذا حكاية رأيتها وأنا ابن خمس حين كان يعلمنا الألفباء؛ قال لأحد رفقائنا النجباء: قاف. فانتصب بوجهه كالمارد، فغضب المعلم لهذه البلادة، هو يريد الحرف المعروف لا الوقوف، فرفع شفته العليا وأرخى السفلى، وربسه بيديه ساخطا.
استيقظت في المعلم الجرثومة اللبنانية فهاجر إلى فلسطين، وعاد بعد سنوات ومعه عروس، كان عرسه أول الأعراس التي شهدتها، جماهير زاحفة بتلك الهدية العسلية، غناء وحداء وزغردة، الملبس والرز والقمح تتناثر من كل بيت تمر به العروس، وأيد لطيفة تلوح بالقماقم راشة عليها وعلى موكبها ماء الزهر والورد. العريس على السطح منتصب فوق الباب الذي تدخل منه العروس، لصقت العروس الخميرة على العتبة، وانهالت عليها ضربا بالرمان ورشقت به الناس، ثم نزلت عن الفرس ودخلت عشها الجديد. كانت أم العريس تصطنع الابتسام وترحب بكنتها العتيدة طائفة حولها بصحن البخور؛ كانت تبخرها وتدرسها درسا فيزيولوجيا. الثياب جميلة والزي طريف، العروس بنت مدرسة ولكن وجهها الديناري يدل على أنها قليلة جدا؛ ذراع كالمسلكة، وساق كالمغزل، ويد كأص الكبا.
كانت أم العريس في تلك الساعة نهبا مقسما، تجيب الجميع على عباراتهم التقليدية بالأجوبة المعدة لها، وتؤهل بحرارة بربة البيت العتيدة، وقد سمعتها فيما بعد تشكر ربها على خروجها من تلك الهمكة ظافرة، يشهد لها الناس بالفصاحة وضبط النفس ...
وصمدت العروس فوق صندوق وإلى جانبها شبينتها وما حولها بنات جنسها، وتصدر العريس المجلس، وقعد الناس حوله وبين يديه في السماطين، وافتتح شاعر العرس سوق عكاظ، فقال «ردة» - هي أول محفوظاتي - مدح فيها العريس، فسرى عن والديه بعض الهم. نقر الدف نقر مدل فتطاولت إليه الأعناق وكان صمت، وما هتف «أوف» حتى صاح الجمهور بصوت واحد كالرعد «أوف»، ولم يقل:
كلن غابوا وما جابوا
السبع غاب وجاب
حتى تماوج الجمهور. أخذت الردة بالعقول كأنها السيما المحكي عنها أنها تحول الأشياء عن حقيقتها، فرددها الجميع متحمسين وصارت زيارة - اسم العروس - أخت الزهرة وبلقيس، إلا ثرثارة سمعتها تقول: لولا يرجع وحده، كان أحسن، الله يساعد أمه! وقالت امرأة أخرى: هذي زيارة، هذي زيار يا طنوس! وبعد أخذ ورد بين القوالة لعبت الخمرة في رءوس الشباب، فكان الرقص على قرع الطبل وعزف القصب، وهموا أن «يدبكوا» فمنعوهم لأن البيت علية أرضها خشب. أما نحن الصغار فعمنا في النقولات: ملبس، وقضامي، وفستق العبيد شيخ النقل الدائم، وفزنا علاوة بتحف مقدسية: مسابح، وصلبان، وصور، وأيقونات من أورشليم المقدسة، فترنحت نفوسنا بنعمة الله، وامتلأت بطون الكبار لحما وخمرا.
كان عرس المعلم أميريا، دام أسبوعين فأجهز على كيسه، أنفق في شهر ما جمعه في سنوات، ولم يبال لأنه ما تعود أن يبالي؛ نشأ وحيدا مدللا في بيت كان غنيا فافتقر، أمه أنوف ولكنها لا تستحي بالعمل، تأكل طورا من المغزل وتارة من الرفش، مشهود لها بالترتيب والنظافة، فبيتها دائما مسنون الأرض لا يدخله الناس إلا حفاة لئلا تخدش نعالهم وجه الطين، فهي تحمره كل سبت وتدلكه. كانت خبازة عبقرية تسهر على الرغيف سهر أكثر نساء اليوم على وجوههن وأناملهن ... يهمها أن يخرج الخبز من عندها بدون لو، أما زوجها أبو طنوس فكان جمالا ولكنه جمال أبي أمين، دستوره: «أعطنا خبزنا كفاف يومنا.» جعل وكده تعليم ولده ليعتز ويستريح، فشبع فخرا ولم يأكل خبزا.
لم يكن المعلم غير بر بوالديه، ولكنه كان والرغيف فرسي رهان، لا يدركه حتى يقطع في الجري أنفاسه، حال علمه وتربيته الأولى دون رضاه بالخسيس من العيش، وأصيب بمرض الكرسي فسعى وراء المثل الأعلى، هاجر في طلبه إلى البرازيل، وكان آخر العهد به.
كان جميل الخط حلو الإنشاء، إذا ظفر والده منه بمكتوب أقرأه معلم الأولاد، فيعجب بتعابيره وينسخها ليتعلمها ويعلمها، يتمنى المسكين لو يوفق مرة في العمر إلى واحدة مثلها. لم يكن يؤلم أبا طنوس هجران ابنه مثلما يؤلمه سؤال الناس عن أخباره، وما يسألون إلا عن الفلوس، وشاع يوما في الضيعة أنه تناول حوالة فسألوه على أي بنك، فقال بكل برودة: على بنك «من علمني حرفا كنت له عبدا.»
تلك كلمة ابنه عند افتخاره بالكرسي، فكانت رمية من غير رام.
وأخيرا ورد المكتوب المضمون، فتجمهر الناس على تلك البشارة، فإذا بتلك الرسالة الحبلى تلد قصاصات من صحف المهجر كالمناظر والمنارة وأبي الهول، كلها تثني على المعلم ثناء عاطرا، وتعظم إقدامه على إنشاء مدرسة لأبناء الجالية بعدما كادوا أن يتأمركوا، فعلمهم لغتهم التي تربطهم بوطنهم، وفيها أيضا مختارات من شعره ونثره وصورته بين أكابر الجالية، فاستقامت قناة أبيه بعدما حناها الهرم، وكاد يسمن بعد أن اخترم جسمه الهم، فاقعنسس بين القوم متعزيا متغذيا، «الصيت الجيد خير من المال المجموع.» هكذا كان يقول إذا ذكر المال، ثم يخرج من عبه الكيس المخملي ليقدم إلى كل قارئ أوراق اعتماده، أي قصائد ولده ومقالاته وما قيل عنه، كان أحب شيء إلى قلبه أن يتلى على مسامعه شيء منها، فيترنح ترنح فاهم، ثم يردها إلى مستقرها.
وعند نشوب الحرب الكبرى، ورد من المعلم كتاب على إثر نعي أمه، يعد فيه أباه بمبلغ من المال متى غلا «الرايش»، ولكن الأحلام لم تصح، فالرايش لم يرتفع ... وأطبقت الحرب كماشتها على الشرق والغرب، فقصر أبو طنوس مع من قصروا من القرية عن إدراك المعاش، فباع أول المقتنى وآخر المبيع أي البيت. كان يجول في القرية صامتا كأبي الهول لا يشكو ولا يتذمر، جلس قبالتي يوما مطبقا شفتيه إطباقة صارمة، تأملته مليا فرأيت شفتيه تتحركان وصدره يخر كزمارة؛ علمت أنه يحدث نفسه، أما ماذا كان يفكر ... طبعا لم يكن يفكر باختراع البارود! هو عي يعمل بقول المثل: «خليها في القلب تجرح، ولا تخرج من الفم تفضح.» وبعد فترة رأيته يتهيأ لحركة ثم يعدل عنها ويغرق في أحلامه، وأخيرا دنا مني وابتسم ابتسامة مخيفة وقال: يا ترى، ابن خالتك نسينا بالمرة، أم بعث لنا شيئا وضاع؟ اقرأ تفرح، جرب تحزن، هذا الذي صار فينا.
فقلت له: أنت محتاج اليوم؟
قال: لا، معي بقوي من ثمن البيت ... ثم تنهد وقال: راحوا من خلف البقر واغتنوا، قبروا الفقر ونحن نشتهي العضة بالرغيف، أنا صرت على حفة قبري ولكن البنت! رطل الطحين بنصف عسملي، أكلنا خبزا «حاف»، ويا ليته قمح.
وفي غد ذلك اليوم استيقظنا على عويل البنية، مضى جدها لسبيله ولم يترك لها إلا ذاك الكيس المخملي، وجاءنا الجدري، فمن لم يمت بالجوع مات بغيره، فألحقت البنت بجدها، وانقطعت عنا أخبار المعلم حتى نعته إلينا صحف المهجر منذ أربعة أعوام، مات كأبيه ميتة كريم مضطر، فأجمعت صحف المهجر على تقديس جهاده القومي في تعليم مواطنيه لغتهم فما نسوا أمتهم، وشكرت جريدة أبي الهول رجلا - لا أتذكر اسمه - واساه في مرضه الأخير، وجهزه للرحلة الكبرى تجهيزا لائقا به.
لم يكن هذا الجندي المجهول كسلانا، ولكنه كان يعتقد أن الدينار شر جار، واعتقاله جريمة لا تغتفر، وبالاختصار لم يكن من أصحاب الجمع والمنع، فمات ميتة جاحظية، وهذا معنى قولنا: «أدركته حرفة الأدب.»
جبور بك
1
كان جبور ينتظر ويفتكر، فتداعت أسراب الذكريات حتى أمست كما قال النابغة: «عصائب طير تهتدي بعصائب.»
أصغى إلى أحاديث حوائج بيته البليغة، فذكرته السجادة النادرة بتلك الحصيرة المقطعة الموروثة عن جده ... وذكرته المرآة الكبرى يوم كان ينحني فوق أجران «الصفوة» ليفتل شاربيه فتلا مغارا، ولمس طوق معطفه المجلل بفرو السمور، فتذكر العباءة البلدية القصيرة الكمين ولقب «دحدوح».
وتحرك جبور على الصفة فماج كرشه وترجرج، وأبرقت سلسلة ساعته الغليظة المدلدلة على صديريته، فتذكر «الكمر» العتيق الذي أعطاه إياه أبو خليل حلوانا، فشد وسطه به سنين وألقاه عنه في فندق أنطون فارس بمرسيليا، حيث كان يحتفل بإلباس «أولاد العرب» الثياب الفرنجية.
وحكت جبور رجله فانطوى بعناء مزعج، وكاد ينبج بطنه، ولما تبلغ يده رجله، ذكره الجورب الحريري والحذاء اللماع بالمداس الذي يرى إخوته في أرجل معازة الضيعة وبقارتها.
وسمع جبور حس رجل فقال: هذا هو. وحبس أنفاسه يتنصت، فإذا بالحس يبتعد ثم يضمحل، وعاد جبور إلى أحلام يقظته الرائعة، فجره تفكيره بالقادم إلى مئات الليرات التي أعدها برطيلا، فهز برأسه وقال: «هاي ما شا الله هاي، حصلت يا جبور مدير ناحية جبيل فرخ قائمقام، غدا تضع رجلا على رجل في العربة؛ سق يا عربجي. وحد العربجي نفر عسكري يأخذ سلامك، ويخدمك، ويقول لك: هنيئا يا سيدي. يقول لك الناس «يا صاحب العزة»، إن لم يقولوا «سعادتك»، وبعد أن كنت «دحدوح» تصير جبور بك، وإذا أمحلت جبور أفندي.» فتنحنح وأحكم قعدته، ثم أخرج ساعته الذهبية الضخمة وقلب شفته وقال: الغائب عذره معه. والتفت إلى كتفيه لفتة غريبة، فبش ثم عبس؛ عبس إذ رأى كتفه اليسرى نازلة عن أختها، فتذكر الكشة الثقيلة التي رجحتها، وحاول إصلاح ما أفسده الدهر فما قدر، فاعتصم بحمد الله، وتناسى الماضي وقال: «كثر الله خيرك يا ربي، ربيت على معجن هذا وذاك، واليوم صار بيتي مفتوحا للرائح والجائي ... أهلا وسهلا، كلوا يا بشر ، ربك طعمك، كل واطعم.»
ودرى المسكين أنه تمادى في تحديث نفسه فضحك ثم قهقه، لوى رأسه صوب الشمال فبص القلم الذهبي، فقال: وهذه نعمة نشكر الله عليها، صرنا نمضي ونكتب بالهندي، الذكي لا يخاف عليه، يخلص حاله، من رآني يخمن أني تلميذ بولاق.
وجاءته الخادمة بالقهوة فأخذها بلا شعور، ولما اقتربت من الباب ناداها مشيرا بأصابعه الخمس، فبدت يده كالمذرى: من عندنا يا ناهيل؟ - جمهور يا معلمي، الضيعة عندك. قالت هذا وأشارت بيسراها إشارة قلة اكتراث، واستقبلت الباب، فقال: «احم.» فالتفتت، فأومأ إليها، فعادت. - قولي لهم معلمي مشغول جدا، عنده ناس غرباء، وإذا اهتموا، بالغي وزيدي، قولي لهم عنده ناس من قبل الحكومة ومعهم أوراق أوراق، اسقيهم قهوة، اعتذري عني، قدمي لهم سواكير.
وأشعل هو سيكارة من نوع إكسترا إكسترا، فاستطيبها على القهوة، تذكر كيف كان يشحذها من الناس، واحتار جبور كيف يعلل جمعه الثروة الضخمة وهو ذاك الرجل، بينما فلان الفلاني، وهو معلم مشهور، تركه في البرازيل وهو جوعان عريان. «سر، سر عظيم، سبحان الخالق!» هكذا قال. كان يسكن بيتا دون بيوت الضيعة جميعا، فصار بيته قصرا.
وهذا ممن؟ طرح هذا السؤال ثم أجاب عليه بصوت مفخم: من الله، نشكرك يا رب ونحمدك.
وتذكر أنه ينتظر فانبرى يتمشى، وطال الانتظار فسئم وخرج يتنزه، مر أمام بيت الجيران فوقع اسمه في أذنيه؛ سمع امرأة وولدها يتعالجان، فتقول المرأة: جبور رجل ما كان عليه من الخام ريحه، فصار أمير زمانه، بيته قصر، الخيل مربطة قدام بابه، والحكام تزوره، بنات الضيعة ماتت عليه ونقى أحسنهن، كان يتنقل من بيت إلى بيت وقت الغدا والعشا حتى يأكل اللقمة، وصار أغنى الضيعة والجوار. وأنت يا بغل، قاعد على سكين ظهرك تقشط أمك البشلك والمتليك، باب البحر مفتوح، تغرب يا بهيم، الله يقصف عمرك، ما أبلدك! ليتني خلفت جرو كلب وما خلفتك!
فضحك الشاب ضحكة سامة ثارت لها أمه وهاجت، ولكن ضحكته وقعت على جبور كجلمود صخر حطه السيل من عل، وقال الفتى لأمه ساخرا : ومن يعمل مثل جبور؟ عاش بين عبيد أميركا عيشة «نور» وجاء يتبغدد ويتفرعن على الضيعة، هذا مال رائح، مال مول، لا تنغري بالظواهر، رغوه رغوه يا أمي. فصاحت الأم: ليتني أقبرك بجاه السيدة! تفلسف يا جحش. وأتم الشاب كلامه: بعد سنة أو سنتين يعود جبور كما كان.
فصرخت الأم: وإذا صار جبور مثلنا اغتنينا نحن؟ يا حسرتي عليك! بعد يومين ثلاثة يصير جبور مدير جبيل، وتقف له الناس على الصفين. - لو صار متصرف جبل لبنان يظل عندي أقل من دحدوح، قصريها لا تطوليها.
فامتعض جبور تحت الشباك وكاد يزفر زفرة رنانة لو لم يتذكر الموقف، سمع لقبه القديم فكاد ينشق من الغيظ.
وضاق صدر الأم فأسرعت إلى الشباك ففتحته، فاضطرب جبور، ومشى مفكرا بما سمع، تنبه وحسب عن ظهر قلب ماذا صرف من مال أميركا، وبعد تعبيس دام هنيهة ضحك ضحكة استهزاء وقال: لعن الله الحسد، ما ترك بيتا عامرا، غدا يعرف طنوس أين صار جبور، غدا نكتفه ونفرك رقبته ويزور بيت خالته.
قال هذا وتمشى يتخطر كالأعيان، وأفاق من نجواه على صوت خادمته الراكضة وهي تصيح: يا معلمي، عندك ناس. فانفتل راجعا.
وبعد عبارات المجاملة والترحيب دخل جبور وزائره الموضوع، فأجاب السمسار: مديرية جبيل أمر بسيط، تصير قائمقام كسروان إذا كنت تريد، الواسطة تعمل عجائب، خمسمائة ليرة عثمانية تعمل أكثر من مدير.
فالتفت إليه جبور التفاتة استغراب وقال: السر بيننا، أنا لا أصدق، هذا ضحك على ذقني، مدير بالكد يعلق إمضاه.
فقال الوسيط محتدا: بلى، صدق يا سيدي. ثم ضحك وقال: تريد رئاسة القلم التركي محل ناصيف بك الريس؟ ادفع، يا خواجا جبور أنت فيلسوف، بالنسبة إلى فلان وفلان.
فقال جبور: قالوا ننتظر «حلة». - لا تصدقهم يا سيدي، الحلة عندك، حل عقدة كيسك تنحل ظهورهم.
فأطرق جبور ثم قال: الخمسمائة ليرة حاضرة. ثم حك رأسه وقال: نسيت أن أذكرك بواحدة، أخاف أن يحتجوا أن ابن عمي موظف.
فضحك السمسار بملء فكيه وقال: حيف عليك يا خواجا جبور، ما مت ، ما رأيت من مات؟ تأمل بعينيك عيال بأسرها موظفة، تغيرت الأيام ... الاستحقاق قبل كل شيء، أنت مستحق، أنت رجل ربيت في بلاد العالم، تعرف كيف تحكم، الغربة مدرسة عظيمة.
فزهي جبور وتنفش كالديك على مزبلته، وتذكر هجرته ورفع رأسه بأبهة الموظف الكبير وقال: «سي، سي سنيور.»
فضحك الرجل غصبا عنه وقال: هذا قليل عليك، أنت تستحق قائمقامية، نسيت أنك تحكي باللسان الأسبنيولي، الخير قدام إن شاء الله، هيئ المبلغ، بعد ثلاثة أيام تصدر البيلوردي - المرسوم.
والتفت إليه فرأى الشك في وجهه فقال: أريد أن أفهمك بالقلم العريض، فلوسك تصيرك رئيس مجلس الإدارة، أفندينا مظفر باشا ينظر إلى الأهلية، أنت مستأهل، أفهمت؟ ادفع ولا تخف، صدقني إذا قلت لك إن الوظيفة في أيامنا خير من سفرتين إلى أميركا، من انتخاب شيخين ثلاثة، وتعيين أربعة خمسة مخاتير ورئيس بلدية تحصل أكثر من المبلغ، وإذا كنت صاحب بخت وسياسة تحصل المبلغ من جناية واحدة ... الوظيفة بقرة درتها مثل الجرة، والحلاب القدير مثلك يمسطها.
حسب جبور كلام السمسار تعريضا بماضيه يوم كان يحلب قطيعا كاملا لقاء رغيفين وصحن طبيخ فانقبض، وتابع الوسيط حديثه فقال: إذن الدفع غدا، أهنئك سلفا يا جبور بك.
فانبسط جبور وقال: ولقب بك أيضا؟ - نعم إذا زدت المبلغ مئتين.
فقال جبور: أظن ذلك أليق. - بدون شك، ومع نيشان أحسن وأحسن.
ففكر جبور قليلا وقال: نؤجل النيشان لنعمل فرحة ثانية.
فقال الرجل: «طيب، أوريفوار.» فارتبك جبور، ولكنه تماسك وتذكر ما يقال فصاح: «آديوس.» وهز يد الوسيط هزة كادت تخلعها من الكتف.
وكانت ناهيل بمسمع من سيدها جبور، فاغتبطت حتى كادت تطلع من ثيابها، وتخيلت الناس يسألونها قضاء حاجاتهم، ويدسون في يدها الريالات المجيدية، وهي تأبى أولا ثم ترضى، فصاحت: «آهيك، يحرز دينك يا جبور بك!»
فزأرها البك الطازج قائلا لها: على مهل يا ناهيل، هس، لا تفسدي الطبخة، لا تقولي فول حتى يدخل المكيول.
فرقصت ناهيل ابتهاجا وقالت: صارت في العب. وزغردت: «آووها» ... فهف إليها جبور وسد بوزها بيده.
2
كانت مديرية جبيل - على عهد لبنان الدولي - أغلى المديريات مهرا ... لجودة مناخها وجود أهلها، يدر على مرعاها اللبن، ويسمن من يطول له في ضواحيها فيستكمل شحما ولحما ...
وكان المدير في ذلك العهد السعيد أطول باعا من المحافظ اليوم، يشغل مناصب شتى؛ فهو مستنطق، وقاض، ومدع عام، وهو قائد «الضابطية» - الدرك - يقول لضابط المركز اليوزباشي رتبة: رح فيروح، وتعال فيأتي. يأخذ الناس بالظنة إذا شاء، ويجتاحهم كالعاصفة إذا كان قوي الظهر، لا كبير عنده إلا الجمل ... يبث الضابطية في القرى للجباية، فيذبحون عنزة هذا وخروف ذاك ودجاجات تلك، وقد يذبحون البقر إذا كانت «الأوامر شديدة»، ويمسحون - كما يعبرون - بفروة المدير.
يتولى «عزته» التحقيق في الجرائم حتى الجنايات، وإذا أذنب «شيخ صلح» فهو المحقق، ثم يشرف على انتخاب الخلف، وإذا كرجت الليرات في الساحة ضرب «الصندوقة» بقضيبه السحري فيصير الأبيض أسود، والأخضر أحمر. وخير تعبير عن تلك السلطة الهوجاء قول العامة: كان يقضي ويمضي.
فلا بدع إذن إن تبرجت أسكلة جبيل - أورشليم العالم القديم - وازينت كالعروس يوم الزفة؛ ففي الساحة العمومية، وعند سيدة البوابة، وأمام مدخل القلعة عقدت أقواس نصر احتفاء بقراءة «البيلوردي» - المرسوم - لجبور بك الذي أصاب عصفورين بحجر واحد: البكوية والمديرية ...
هبط المدينة شيوخ القرى، والمختارون ومن يحلمون بمشيخة الضيعة أو المختارية ... كانت توجه الدعوات إلى الأعيان فيأتون من كل فج، وأكثرهم يهنئ عزة المدير بالمبلغ المرقوم ... احتياطا ... من يدري فربما احتاج إلى معونته لينكي جاره أو ابن عمه أو أخاه، فالمشيخة والمختارية والناطور والوقف والمشاع والمقابر والطرقات أجل وأعظم خطرا عندهم من الممر البولوني ...
ماجت جبيل بالخلائق، فضاقت الخانات على الخيل والبغال والحمير، لم يكن في ذلك العهد طرقات ولا سيارات، فجاء أكثر المدعوين مساء السبت، ولم يتأخر إلى صباح الأحد غير وفود القرى القريبة.
كان قلب جبور يضرب مائة وما فوق، تعروه لذكرى الموعد اهتزازة العصفور بلله القطر، ولا غرو فالوظيفة سيدة المعشوقات ... أخذت جبور رجفة سماها «تشة برد»، وكان ينهض كل دقيقة ليعرض «بكويته» الطريئة على المرآة، فيعادل في كل لحظة ميزان شاربيه، جاعلا القب على العاتق ... وأتت الساعة فمشى يختال في أبراده إلى القلعة، والأعيان حوله وحواليه. أخذت سلامه على الدرج شرذمة ضابطية المركز فارتعد، فضحك البعض ضحكات مستورة إلا واحدة أفلتت من فم مدير قديم، فاحمر وجه جبور بك ... لم يرد جبور التحية، فأراح الجنود بندقياتهم ضاحكين، وقال جندي عتيق اسمه رجب: راح السلام طعام القرد!
كانت بيارق القرى تتطاول في الهواء، والقوالة يتنافسون في الحداء والهزج و«القول»، وكلمة «يا بيكنا يا عزنا» كانت أحلى «القول» وقعا في قلب جبور، يتمنى لو ظلوا يرددونه، وجاء وفد يعطعط:
جبور متى يا ملك
من سطوتك رج الفلك
فازبأر جبور وقال: هذا قول! هذا طق حنك، سكتوهم.
وأطل المدير على الناس وعن يمينه ضابط المركز، ومن عن شماله قارئ «البيلوردي»، فقرأ ما كتب على الظرف بصوت بين بين: لحضرة صاحب الرفعة جبور بك متى مدير ناحية جبيل المحترم.
فامتعض جبور وقال له بنبرة: راجع، قو صوتك.
وأخرج الكاتب البيلوردي من الظرف فاحتدم التصفيق حين لاحت الطغراء الهمايونية، وضج الناس فصاح القارئ: اسمعوا يا بشر. ومد صوته في كلمة «بشر» مدا طرب له جبور واهتز، وقال واحد: اسكتوا. وقال ثان: وحوش. فقام عراك بين وفدين من ذوي الحزازات فأخمدته الضابطية إذ صرخ جبور: كيت وكيت من ... خذوهم إلى الحبس.
وساد الهدوء، فقرأ الكاتب بصوت جهوري كما يشتهي جبور: «رفعتلو بك محترم دام بقاه.»
فتطاول لها واشرأب، وغمزه ليعيدها فأعادها، وجر «محترم» جرة تمنى جبور لو أنها «للبك»، وما تلي التوقيع: «مظفر»، حتى هتفت الضابطية: «بادشاهم جوق ياشا.» فتزعزعت أركان جبور ولا سيما حين رد الجمع: الله ينصره!
وجاء دور الشعراء، فقالوا أبياتا لا بأس بها، فاغتبط جبور وبان الفرح في وجهه الأسمر وقال في قلبه: تقبر الليرات، ساعة مجد تسوي الدنيا وما فيها. ثم انتخى ودعا الناس إلى الأكل، فاستأنفوا الشراب والهزج. •••
وظلت أعصاب جبور متوترة، فما ذاق طعم النوم إلا قبل الصبح بقليل، فرأى حلما راعه، وكان مسك ختامه خوارا مثل خوار الثوار، هرولت ناهيل مذعورة فعثرت بالسجادة وتدحرجت، ثم نهضت وهي تقول: مديرية منحوسة، وبكويه أنحس، ما ذقنا حلاوتها بعد ... وظلت تحبو وتتلمس حتى وقفت عند رأس جبور، فصلبت على وجهه وحوطته باسم الصليب المقدس فعل الأم عند سرير ابنها ساعة الكابوس، وضوأت الغرفة فرأت العرق يتقطر من جلد جبور السمين، وانفتحت عينا البك على ناهيل، فقال لها: لا تخافي يا أختي، حلم بشع، الله يستر.
فصاحت ناهيل: لا تفزع يا بك، الله معنا.
فطرب جبور لسماع كلمة بك منها. أما حرصها جدا على أن تخاطبه دائما بيا بك، وعلمها كيف تجيب الزوار، فإذا قالوا مثلا: الخواجا جبور في البيت. فعليها أن تجيب: نعم، البك في البيت. أو: لا، جناب البك في المدينة.
وبعد تنهد وشهيق قال جبور: أبصرت في نومي أني على ظهر حصان مثل حصان مار جريس وأعظم. فقالت ناهيل على الفور: الخيل عز يا بك! - وأني في سهل مد العين والنظر، الحصان يشخر وينخر وأنا ألهث وأطحر حتى وصلنا إلى رأس جبل عال، فامتد قدامنا سهل جديد، ما بلغت آخره حتى اتصل بسهل آخر أطول منه، سهول أعرفها من قبل، ولكني كنت أتعجب من اتصال بعضها ببعض، وأخيرا انفتحت هوة قدامي وانشقت الأرض وبلعتني.
فوجمت ناهيل، ثم تذكرت أن الأحلام تعبر بالمقلوب، فقالت: عشت عمرا جديدا ...
وطلعت الشمس وانصرف جبور إلى سياسة الرعية ... ومرت شهور وما خلف الله عليه بشيء، فتذكر التجارة في البرازيل، رأى أن تحديد الأسعار مريح، فجعل لكل قضية سعرا؛ ناطور لا خلاف عليه: هدية لا بأس بها، وإذا كان خلاف فالسعر من خمس ليرات فصاعدا، والمختار من عشر إلى عشرين، والشيخ من خمسين إلى مائة، والتوقيف في حبس القلعة من خمس وما فوق، تبعا للمدعي والمدعى عليه، وإحضار وجيه تحت الحفظ من عشرين إلى ما يمكن تحصيله، أما «ملحوظات المدير» فيكون سعرها حسب أهمية الدعوى، وحضور المآتم: المدير وحده خمس ذهبات، وإذا كان معه ضابطية يواكبون النعش، فلكل نفر ذهب.
وكانت آيته الذهبية: الفصاد على قدر الدم. وكان يضحك من مكاتيب التوصية ويسميها «عملة ورق»، ويقول: جواب الورق ورق مثله ...
وحدث حادث مستعجل والكاتب غائب، فأصدر أمره بخط يده فكتب: للفحص عن هذه المسألة ... فكتب «الفحص» بلا حاء والمسألة مسلة ...
وجاء دور الاستثمار والحلب، فبلغوا جبور أنه «مهزوز»، أوعزوا إليه بإعداد هدية إلى رئيس أحد الأقلام ليدعمه عند أفندينا، فاشترى خمسين رأسا من الغنم وساقها راع إلى بعبدا ... استغرب الرئيس تلك الهدية الثرثارة وردها غاضبا، فباعها جبور كما أشير عليه، وحمل ثمنها إلى الرئيس فرحب به، واستضحك عند القبض قائلا: هذي هدية لا «تمعق»، وطيب خاطر البك الطازج.
وجاءت نوبة حرم أفندينا فعولت على زيارة جبيل للتفرج على آثارها؛ لم تكن الزيارة لأنتيكة جبيل بل لدار المدير، فقد بلغت مسامع عصمتها أخبار ثروته وطرفه النفيسة، فانصرفت من عنده ومعها خاتمه الألماسي، و«المضاليون» - بلغة جبور - والقرط النادر الذي أعده لعروسه، وشبعت «الخانم» من اللآلئ، فحولت وجهها نحو السجاد العجمي فأخذت الكبرى، وطولها سبعة وعرضها خمسة.
حلم جبور بالثروة مع الجاه، فخاب خيبة مرة، جمعها حبة حبة، فكانت للجمل غبة، ونفد ماله فأبرق إلى شريكه في «الريو»، فأجابه: «الرايش» هابط ... التجارة واقفة ... ثورة.
وأطل السمسار بعد أيام يسأل جبور أن «يغطي»، فضرب يده إلى أزراره ... فضحك السمسار، ثم أفهمه بعد هدأة الضحك ما معنى التغطية في لغة المضاربات، فاعتذر وأراه التلغراف، فانصرف عنه متهددا.
ونام جبور على مضض فلم يصبح ... واستيقظت الأسكلة على صراخ ناهيل وتفجعها، وقال طنوس حين أذاع الجرس نعي جبور إلى الضيعة: أماه! يسلم رأسك، جاء خبر جبور؛ صدقت أنه مال رائح؟
فدقت أم طنوس يدا بيد، وبهتت هنيهة، ثم استأنفت شغلها ...
معاز الضيعة
رأسه كالبطيخة، وحول أنفه الأفطس بثور زرقاء كأنها طلائع الزنجار في ذلك الوجه النحاسي المفلطح، عينان ثعلبيتان فوق شاربين كئيبين، مفركح أفرم يلبس عباءة براقة ذات كمين دون الكوع، ليس يتخلى عن عصاه، أحيانا يعرضها كالرمح، وطورا يمدها فوق كتفيه تحني عليها الأصابع، ما رأيته يتعكز عليها إلا بعد وقعة الذئاب.
يصف قطيعه كالعسكر المدرب، إذا شردت عنزة يناديها باسمها فتعود إلى مستقرها، رام ماهر إن شاء أصاب القرن، وإن أراد أصاب الفخذ، ويصيب المقتل إن كان قرما إلى اللحم، فالويل للعاصية من حجر جليات، وإذا عصى الكراز فهناك المسئولية العظمى والحساب العسير، عصا زعرور تهتز في الهواء، وراع كأنه متر مكعب يهرول ليلقي على التيس دروسا مسلكية يستفيد منها كل فرد من أفراد الرعية، والتيوس تقبل الآداب.
ما ألذ وقع حوافر القطيع عائدا عند الغروب، فهو كحفيف أوراق الخريف الصفراء، وكتساقط المطر على السطوح في الليلة الخرساء. موكب صامت، القطيع بين مدبرين: الكراز أمامه والراعي خلفه، والكلب يروح ويجيء بينهما. في كتف الراعي سطله وهو مزنر بالجراب يشك في وسطه الناي، ورأس القصبتين المضمومتين باد من عبه. الموكب يمشي الهويناء، والزعيمان لا يتكلمان، لا صوت يسمع إلا رنين الجرس المعلق في عنق الكراز، وعلى الكراز مهابة تفيض على جنبات الدرب، فهو لا يلتفت البتة كأنه يحس طعم الزعامة تحت أضراسه، إذا حاول ربع أو سدس أن يماشيه ينكزه بقرنه العظيم، فيعرف مقامه. أما الأنثى فلا يخاشنها، ولا بأس عليها إن اخترقت خط العظمة.
من رأى الكراز يمشي بأبهة وجلال خاله يفكر بمشاكل خطيرة، كان صوت جرسه يعلن قدومه فأسرع إلى استقباله، ومتى غاب عني شغلني المعاز الظريف، يداعب سائليه عن الحليب واللبن وعينه على رعيته، لسانه مر وحديثه حامض، يعبث الأولاد بقطيعه ليغضب ويسب، ولكنه لا ينثر درره الغوالي ما لم يتحقق أن ليس هناك من يحتشم، كثيرا ما كنت أدعوه إلى السهرة فيجيء، وكنت أوسع عليه في الحديث ليتبسط في مواضيعه؛ مارست ذلك معه مدة، فصار يأتيني بلا دعوة، وسقطت كل كلفة ما بيننا.
عجبت لمعرفته قطيعه واحدا واحدا، فقال: لا تتعجب، أعرفهم مثلما تعرف تلاميذك، ولكل واحدة اسم، وفي عنزاتي المطيعة والعاصية والهادئة والورشة، عندي عنزة شقراء تتلصص مثل البشر، تغافلني وتغزو. السكاء آدمية جدا، بنت حلال لا تتعبني أبدا. وقال بصوت مسموع: الله يرضى عليها! ولكن الملحاء شيطانة، بنت حرام، لها حركات تشيب الرأس، إذا غفلت عيني عنها تهجم وتنتش، الله يقصف عمرها، هي وحدها سودت وجهي عند الضيعة.
فقلت له: اذبحها. فتهدلت شفته السفلى وقال كالمستهزئ: أذبحها! الحكي هين، كل سنة بطن، تخلف ثلاثة أربعة، اثنين ثلاثة، خلفها اليوم جدي، إن الله أعطاه العمر الكافي، كان أعظم فحل في المسكونة.
وجئنا ليلة على ذكر الجن فتبسم وقال: سمعت عنهم وما ظهر لي شيء منهم، قالوا إنهم اختفوا لما كثرت الأجراس في البلاد، ومع هذا أنا أصلب كثيرا.
ورأيته مرة يضرب الكراز ضربا عنيفا، فقلت له: ما عرفت يا مخايل؟ فأجاب بهزة كتف عنيفة مستغربا، فقلت: الشريعة الحاضرة تغرمك وتحبسك إذا ضربت الكراز كما ضربته اليوم.
فقهقه وجعل يضرب الأرض برجليه ويصفق على ركبتيه، وطفرت الدموع من عينيه، ولما هدأت ثورته قال: ومن يربي الكراز كلما خرب؟ نتشكي إلى المدير! بأية لغة نحاكيه حتى يفهم؟ ثم أغرب في الضحك وقال: كل خطرة يعصي علي الكراز أقيم عليه دعوى! ثم افتكر قليلا وقال: طيب يا سيدي، ومن يشتكي علي؟ الكراز!
قلت: الناطور. فغضب وصاح: الناطور! الناطور يضرب الأولاد ولا نشتكي عليه، شريعة عوجاء.
قال هذا وسكت ينتظر حديثا جديدا، فقلت له: تسمع ما يقول هذا الشاعر الفرنجي عن الراعي؟ فقال وقد هدأت فورته: هات خبرنا. فقلت: يصف الهواء المعطر الذي تتنشقه، وأشعة الشمس المطهرة التي تنسكب عليك حرارتها المحيية ... فقاطعني قائلا: حقا نار الشمس غنيمة، ما كان عندنا خبرها. قلت: والمناظر الجميلة التي تتمتع بها والأعشاب المفيدة التي تأكلها. فقال: قل له يجيء يرعى مع العنزات، عندنا ما يكفينا ويكفيه.
قلت: والقطيع المخلص الذي تسوسه، والكلب الأمين الذي تعاشره. فقال: يحسدنا على عشرة الكلاب، الجنون فنون!
وترجمت له القصيدة كلها بلغة يفهمها، وأسرعت لكيلا يقاطعني، فكان أحيانا يتعجب، وأحيانا يستهزئ، وأحيانا يصدق على قول الشاعر بإحناء الرأس، ولما انتهيت قال لي: ولكن الشاعر نسي زبل المراح وصنة المعزى.
فأجبته: لست أقول لك شيئا من عندي، هذا المكتوب أمامي. فقال: أنت صادق، ولكن هذا مثلك لا يعرف من حياتنا إلا دق القصب والغناء، لا يعرف أني أنام مرات وما عندي عشاء ليلة، أمس استعرنا عشرة أرغفة. لا يذكر كيف نهرب من وجه «العداد»، ولا ما يصيبنا أيام البرد والثلج، نسي المرض الذي يفني المعزى ونعلق الجرس على الكلب، تعجبكم حياة المعازة في الربيع، ولما يمعكنا المطر ولا نلاقي مغارة نلطي بها، يكون الشاعر قاعدا على النار يتدفأ.
وجاءني يوما بسؤال غريب، سألني إن كان سماع القداس في الراديو يغني عن حضوره في الكنيسة، فعجزت عن الجواب، فوجم ومغمغ: ما ترقينا شيئا. وبعد هنيهة قال: ما يقول كتابك اليوم؟ قلت: فيه حكاية حلوة، حكاية مرأة وأختها. فتربع وأنصت، فقلت: كان لمرأة أخت عزيزة عليها فمرضت وماتت، فركعت أختها قدام فراشها على جلد أسد تسأل ربنا بحرارة أن يحمي جميع من في تلك الغرفة، فسمع ربنا واستجاب. كان على «برنيطتها» عصفور محنط ففرفر وغنى، وكان على رقبتها فرو ثعلب فعاش وأخذ يدور في الغرفة ليهرب، وفتحت أختها الميتة عينيها وطلبت الأكل، ولكن الأسد لم يمهلها فعاش وأكل الجميع.
فأرخى فكه الأسفل تعجبا وقال: يا رب. ونهض، فقلت: ما لك؟ اقعد. فقال: عندي في البيت جلد ذئب وقشرة حية كبيرة، أخاف أن تصلي بنت عمي في ساعة رضا، فيقوموا ويأكلوا العنزات. وخرج من الباب وهو يضحك.
وجاء مرة وكان يلبس فروا، فقلت: فروك يذكرني بعاموس النبي. فقال: من يدري، ربما أصير نبي آخر زمان. فقلت له: أكثر الأنبياء قاموا من بين الرعيان. فضحك وقال: الله يجبر خاطرك، أمس كنت معازا واليوم صرت راعيا، كلنا رعيان، من كبيرنا إلى صغيرنا، منا من يرعى في البيوت، ومنا من يرعى في العب مثل البراغيث، ومنا من يرعى في الجبل الأقرع مثل المعزى.
فتفرست لأثبت إن كان يعني ما يقول، فما تبينت في وجهه دليلا.
وقلت له ذات يوم: في هذا الكتاب، وأشرت إلى مجلة أمامي، بعض سؤالات فهل تجاوب عليها؟ فقال: اسأل. قلت: ما ألذ ساعة في حياتك؟
فجاوب فورا: ساعة ترجع المعزى إلى البيت وبطونها مزكرة مثل عرانيس الذرة.
فقلت: وأبشع ساعة؟ ففكر قليلا وقال: ساعة أرجع وتكون حرمتي غائبة، والمعزى عطشانة، وبطني لازق بظهري من الجوع.
فقلت: وأصعب ساعة؟ فضحك وقال: ساعة أنسى الضبوة في البيت وتنسى أن تعطيني سيكارة.
وصعد دخان سيكارته حلقات حلقات، فانبسطت أسرته فقلت: من مع المعزى اليوم؟ فأجاب: الصبي. فقلت: تكثر الوحوش في الأيام الباردة. فأجاب: معه غدارة تفلق الصخر، وهو يصيب عين الدوري، شب يرضي خاطرك.
وفي يوم عم الثلج فيه كنت مستجيرا بالنار فإذا بمناد يصيح: يا مارون عبود. فردوا عليه، فأجاب: قولوا له يطل. فأسرعت إلى الباب فصاح بي من الجبل المقابل: «أيش رأيك بحياة المعاز اليوم؟ قل لشاعرك الفرنجي يعمل نشيدة جديدة.»
ودام الثلج في تلك السنة زهاء شهر، فتضايق أصحاب المواشي وخصوصا المعازة، عز المرعى وتكاثرت عليهم الوحوش، فكان بينها وبين معازنا وابنه معركة حامية، انقض ذئب ضار على المعزى وكاد أن يفترس الراعي، لو لم يغامر ابنه ويصرع الذئب برصاصة من غدارته.
وجاء الناس لنجدتهما، فراح فريق يبحث عن القطيع المذعور المشتت، وفريق حملوا المعاز الجريح، ولما استلقى على قفاه في زاوية بيته قال لي بصوت يرتجف: أتحسد المعازة بعد؟
فقلت: السلامة غنيمة.
فأجاب: الله يسلمك، وتلحف.
الناس
لقد أصبحت عبدا للناس منذ تصورت في البطن، وتقيدت بسلاسل مشيئتهم حين رفعت يدي أول مرة نحو السماء. ضايقني فضولهم منذ تحركت في ذلك الزندان، فتهافتوا على والدتي ساعة عرفوا أن عددهم سيزداد واحدا، هذا يدلي برأي طبي ورثه عن جد جده، وتلك تنثر نصائحها وإرشاداتها الصحية، وهكذا توطدت العلاقات بيني وبين أصحاب وصاحبات المروءة؛ أرسلوا إلي نجدة تلو نجدة، قبل تشريفي هذه الدنيا، ليحفظوا حياتي الغالية، فلا أذهب طرحا وتخسر الإنسانية واحدا، ليته لم يكن.
وبعد آلام استمرت ثلاثة أيام غير كاملة ولدت أخيرا ... ولو عرفت أن نساء القرية في انتظاري وأني سأعرض عليهن واحدة واحدة لهربت ، ولكن أين المفر؟ ما أرسلت أول صرخة حتى وقعت علي عيونهن، وامتدت إلي أيديهن؛ كل واحدة تحاول أن تستلم الحجر الأسود ... وكان معرض قصير الأمد عقبه النقد المر، هذه تروزني وتقلب شفتها السفلى، وتلك تنظر إلى التي حدها رافعة حاجبيها وجفنيها إلى العلا، وأخرى تغمز بعينيها، وواحدة تقرص جارتها قرصة خفية وتقول: يا حسرة! هاتيك تقول: دميم. وتلك تقول: مليح - وتجر الياء وتقطم الحاء - وأخرى تقول: بشع ولكن بشاعته حلوة ... وغيرها تقول جبرا لخاطر الوالدة المنكوبة: الولد يتغير ويتقلب، منتحلة لي العذر، كأني أنا أفرغت نفسي في القالب الذي لم يعجبها.
لم تقل «اسم الله حوله وحواليه، يخزي العين عنه» إلا واحدة فقط تعرفون من هي! هذه امتلأ فمها ضحكا وقلبها فرحا، وحشي صدرها رجاء وأملا. وكيف لا، أما صارت أما؟
وتعددت النذور إلى قديسين وقديسات وسيدات اختصاصيات، فلم ينفعني إلا سيدة «المكبوسين» فاستويت على قدمي. تحننت هذه «السيدة» على الوالدة فمشى ابنها «المكبوس» مشية الجواد المشكول، ولكنه رأى حوله سورا من الناس أطول من سور الصين، سورا لا يفر منه إلا ليصطدم بجدرانه، إن يظن أنه أفلت من بين حيطانه إذا هو فيه، فكأنه عين ضمير قاين.
الناس، وما أشد فضول الناس! هذا يزجرني، وتلك توبخني، وذلك يرشدني، فكيفما اتجهت أضايقهم ويضايقونني، كأني ابنهم جميعا وكأنهم كلهم أولياء علي.
وازداد تقيدي بالناس لما صرت أفهم عن أبي وأمي؛ إن تحركت قال الوالد للوالدة: يا مرأة، ربي ابنك مثل الناس. وإذا توحشت قالت هي: البس ثيابك مثل الناس. أسمع هذا فلا آخذ ولا أعطي، ويعلو صياحي وضجيجي فتصرخ بي: استح من الناس. وألتفت فلا أرى حولي أحدا غيرها، فأرفع عقيرتي هاتفا: وأين الناس يا أمي. فتقول لي: لا ترفع صوتك، أنا «طرشا»؟ احك مثل الناس. وإذا تراقصت في مشية مدفوعا بنزق الصبوة صاحت: امش مثل الناس يا صبي. وأخيرا تنتهرني فأركض وتركض خلفي، فتعجبها خفتي فتقف ضاحكة، فتصيح بها جارتنا العنيفة: عافاك يا أم مارون، اضحكي له اضحكي، ربيه مثل الناس.
أما الوالد - رحمة الله على ترابه - فكان له أداتان يسبكني بواسطتهما في قالب الناس: قضيب ولسان أمر من القضيب، إذا تحركت في مقعدي وقف حاجباه على سلاحهما استعدادا للطوارئ، ثم يصيح بي: اقعد مثل الناس. وإن ترنمت صباحا - وصوتي رخيم كما تعرفون - انتهرني قائلا: سبح ربك مثل الناس، بهيم أنت؟ وإن مددت يدي إلى الزاد قبلهم أو كبرت لقمتي، انتهرني بقوله: كل مثل الناس. وإذا ضحكت ضحكة ليست على الوزن والقافية المفروضين، قال لي: اضحك مثل الناس. وكثيرا ما كان ينهاني عن الضحك عملا بالمادة المشهورة من قانون آداب المجالس: «ضحك بلا عجب، من قلة الأدب.»
هكذا كانت كلمة «الناس» حملا ثقيلا على ظهري، وشريطا شائكا في طريقي أصطدم به أينما اتجهت، فنشأت عبدا للناس يسيطرون علي ويسيرونني كما تشاء أهواؤهم وعرفهم وتقاليدهم، كأني لا أعيش لنفسي بل لهم، كأني مرتبط بهم بناموس أشد من ناموس الجاذبية، لا يحول ولا يزول ولو مات أحد الأجرام كالقمر مثلا. كلما قلت أحطم هذه السلسلة التي يسمونها الناس، أجدني مقيدا بها من جديد، إنها لأغرب من أساطير ألف ليلة وليلة.
أجل إن كلمة الناس أثقل عبء يلقى على ظهور الناس، فمن منا لا يستجدي إعجابهم، وكم فينا من يحمل نفسه فوق طاقتها ليظهر بمظهر يرضيهم ويلفت أنظارهم إليه، فيقضي العمر وشبح الهم يماشيه كظله، يأكل معه في صحنه، وينام معه في فراشه. وكم من امرأة خربت بيتها لتكون على حد قولها: مثل الناس ولا بأس.
اسمعوها تخاطب زوجها: ماذا يقول عنا الناس إذا رأوا بنطلونك مرفوءا؟ اشتر غيره. وماذا يقول عنا البشر إذا جاء العيد وليس لابننا طقم جديد، ولبنتنا فسطان من أحدث طراز؟ وماذا يقول عنا الناس إذا لم نشتر كذا كذا، ولم نأكل كذا كذا، ولم نعمل
Soirée
و
Aprés-Midi ؟ وتظل تقول: الناس ... الناس ... حتى تدك البيت من الأساس.
غريبة كلمة الناس، ما أعظم سلطانها على العقول! لا أقول الناس بلاء الناس كما يقولون، ولكني أقول: الناس تسير الناس، وليس أحد منا حرا في ذاته، فمن يزعم أنه لا يبالي بهم يخدع نفسه، إنه أشدنا تهافتا عليهم، ومن حسب أنه معلمهم فهو أحد تلاميذ مدرستهم، إن شاءوا منحوه الشهادة بامتياز، وإلا عاد محترق الفؤاد يردد: ما أصعب مرضاة الناس!
إن كلمة «الناس» نطار منصوب في مقثأة الإنسانية ليرد عنها الثعالب، وهي الخفير الدائم على أبواب كهوف التقاليد، حالت وتحول دون رذائل كثيرة ما كنا نتأباها لولا أعين الناس، وأقصرنا نظرا من ظن أنه يتغلب على الناس بغير الناس، ففي كل عبقرية أثر من عبودية الناس، فأنا وأنت وهو جميعنا عبيد الناس ولا نحيا إلا بهم.
أما قال المسيح لتلاميذه: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ فرددوا له أقوالهم فيه، فسألهم: وأنتم من تقولون إني أنا هو؟ فأجابه بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي.
إن جواب التلميذ لمعلمه، وهو واحد من الناس، لفجر وردي انبثق منه عهد وعالم جديدان.
فهل ألوم أبي وأمي إذا كانت كلمة الناس نجمة القطب عندهما، يراعيانها في بحر الحياة خوفا من التيه والسقوط في اللجة؟
ففي خلوتنا الخرساء نسمع ضجيج الناس الصاخب، وفي عزلتنا نحس أنهم حولنا يتجولون في مخيلتنا جولان أشباح الغوغاء على الشاشة البيضاء. كانوا في انتظاري عند المهد، وسيجذفون قاربي ليبلغ ميناء اللحد، وإن حسبت يومذاك أني نجوت منهم لأني نمت عنهم، فشباكهم ستلحقني إلى بحر الظلمات.
كل امرئ رهن غربالهم، سوف ينصبون ميزانهم ساعة ينفضون يدهم من ترابي، ويا ويلي إن شلت في ذلك الميزان.
فإن كنت تخشى ألسنة الخلق، وتصدق أنها أقلام الحق، فاعمل بالمثل القائل: «كل ما تشتهيه نفسك، والبس ما يعجب الناس.» ومعنى هذا وقوف الدولاب وبقاء القديم على قدمه، ليس ذلك من نواميس الطبيعة؛ فالطبيعة تركض وتوصينا لنسرع معها، وإن وقفنا جرفنا تيارها، فلنركض.
إن الطبيعة تهدم اليوم ما بنته أمس، فلا يفزعك هذا الخراب، واعلم أن الحياة ترقص بين النوائح حول التابوت، أما نحن فلسنا نراها لأننا نحب الركود، نؤثر أن نعيش أمواتا على أن نحيد عن الدرب ليمشي أبناؤنا ولا يعثروا بنا.
أرأيت الولد في عبثه كيف يعمر ويخرب؟ إنه يقلد أمه الطبيعة، فهي لا ترفع عرشا حتى تدكه وتجعله شعلة لإحدى ثورات اليوم الثامن.
قد تقول: وما هو هذا اليوم الثامن؟ اسمع فأعرفك بهذا المخلوق الجديد العجيب.
في ستة أيام خلق ربك السموات والأرض، وفي اليوم السابع استراح الجبار وتنفس الصعداء ... أما اليوم الثامن فهو يومنا نحن، أعني يوم الناس، يوم صباحه الأزل ومساؤه الأبد، فلا يكون صباح ولا يكون مساء حتى تحبل الإرادة الإنسانية وتلد العجائب.
اليوم الثامن جبهة سرمدية، لا تهدأ جنودها ولا ينفد عتادها، تنقض صواعق الأيام السبعة فتقتل حمارا أو تشقق جدارا، وتهبط صواعق اليوم الثامن فيغمر الأرض طوفان الموت والخراب.
لم يسترح ربك إلا حين خلق ابنا على صورته ومثاله، أطلق يده فيما أعد له ميراثا، وخبأ له الكنوز في الماء والهواء، وبين الجمادات والأحياء ليأكل خبزه بعرق جبينه كما وصاه ... فانتزع هذا الابن الذكي تلك الكنوز من مخابئها، وسيظل يجد ما دام يجد.
قل سبحان ربك في ملكه، فهو من جعل كلمة «الناس» قوامة على الناس ... وذر المنطق ودع القياس؛ فالفرض ضروري لحل المعضلات واستخراج المجهولات ...
دايم دايم
ليلة «الغطاس» ليلة خصبة تحبل فيها العقول بالأحلام والأماني، فتلد العجائب والغرائب، وهنيئا لك يا فاعل الخير.
تربع الخوري نصر الله في تلك الليلة عن يمين الموقدة، وتقرفصت قبالته خوريته كأنها قفة ثياب.
الخوري معبس حيران، تارة يمشط لحيته الطويلة بأصابعه، وطورا يحكش النار وينفخها، فيتطاير الرماد في سماء العلية، ثم يستقر أجلى ما يكون على جبته، وقاووقه، والبلاس، فتصر الخورية فمها المتكرش فيصغر حتى يصير كالخاتم، تتذكر كم حفت ثياب الخوري ليظهر نظيفا يوم عيد الغطاس، فتتنهد وترقص على شفتيها كلمة ثم تتوارى، فتنفض ثيابها وكوفيتها بتأفف كأنه توبيخ لبق للمحترم العكش ولكنه لا يحس.
بماذا كان يفكر الخوري في تلك الساعة؟ أبنسله المقطوع فهو - علم الله - مؤمن بأنه ابن الكنيسة، وكل أبنائها ذرية واحدة لأب واحد هو المسيح، فسيان عنده أعقب أم لم يعقب؟ ثم ماذا يرتجي ابن الثمانين من مرأة تحبو إلى السبعين؟ ... لو كان علمانيا لترقب الموت فضاض المشاكل، ولكن الخورية كالصنوبرة إذا قطعت لا تفرخ ... فماذا يحير الخوري إذن؟ وما يشغل باله، وهو الحاكم المطلق وليس على الرعية إلا الطاعة؟ أنقول إنه مؤمن كالعوام من الناس بمرور «الفادي» على بيوت النصارى، ومن يعمل ساعة مروره عملا دام عليه، إن حسنا فحسنا، وإن سيئا فسيئا؟!
كل هذا تخمين، أما الثابت فهو أن الخورية لم تر زوجها قط كما رأته الليلة، حاولت أن تنبهه فقامت إلى مغزلها هاتفة: يا يسوع! ثم جاءت به من عن يمين مخدتها وقعدت قائلة: يا مريم! ولكن بلا جدوى. الخوري في دنيا غير هذه الدنيا، فانكبت أخيرا على نفش الصوف وغزله، غير منفكة عن التأمل في خوريها المنتصب أمام وجهها كالوتد.
وبعد صمت طويل فتح الخوري فمه وقال: كم رطلا عجنت؟
فتنهدت الخورية وأجابت: أربعة أرطال.
فقال: قليل! الضيعة كلها عندك الليلة.
فقالت وهي تعد على أصابعها: القمح، والحمص، والتين، والجوز، واللوز، والزبيب.
فأجابها بهدوء مرح: عاداتك يا مبيضة الوجوه، احسبي حساب الضيعة كلها، أطعمي ولا تبعزقي.
فأجابته وقد هزها ثناؤه: ما عليك، عندنا خير كثير، وبركتك تغنينا عن كل شيء.
فحنا الخوري رأسه اتضاعا، وقال: أنا «خاطي» يا خورية.
فحسبت أن خطايا رجلها تتراءى له في هذه الليلة المباركة، فانغمت وسكتت.
وعاود الخوري الصمت فأخذ يعدل النار وينفخها، فيتطاير الشرار من أرومات التوت التي توقد خصيصا ليلة الغطاس، ومرت فترة لا نفخ فيها، كأنما كانت استعدادا لعاصفة أثارها الخوري في الموقدة، فأخرج الريح من البابين ... وذرى الرماد.
لم تطق الخورية فقالت بنبرة تخالطها ابتسامة مرة: وسخت الدنيا يا خوري، توق ثيابك.
فانبسط وجهه اعتذارا، وطلب السراج فنهضت على الأربع، فقال لها مداعبا: قصرت يا خورية. فاستضحكت، ومشت وهي تقول: نشكر الله، بين الخوري سنه الليلة.
وأجلست المسرجة عن يمينه وقعدت في مبركها تغزل، حول الخوري وجهه نحو الشرق وركع يصلي، ثم نظر شزرا فرآها تغزل فتنحنح، ثم أح الأحة المعهودة فحلت محل المغزل مسبحة «وردية» طول الحبل.
وأخذ الناس يتوافدون على بيت الخوري، فجلسوا صامتين، لم تكن تخرج كلمة إلا من أفواه الأطفال، فتحبسها الأمهات في تلك الأكمام، ولا يفلت منها إلا القليل، وإن أبطئوا عن إسكات طفل جأر الخوري وهمر، فيسد فم الصبي سدا هرمسيا.
وأطبق الخوري شحيمته وتحرك للقعود، فمسوه جمعيا بصوت واحد، وتكوموا حوله يقبلون يده - والمورد العذب كثير الزحام - فاصطدمت الرءوس بالرءوس كأكر البليار، لم يرتدوا حتى باسوها جميعا، ثم قعدوا سكوتا ينتظرون كلمته، فقال لهم: هذي ليلة شريفة ينتظرها الناس كل عام مرة، هي تذكار حلول الروح القدس على المخلص في نهر الأردن، طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله، كما قال مخلصنا وإلهنا له المجد، هل أنتم مستعدون يا أولادي المباركين؟
فأجابه الذين لا يفكرون بزلابية الخورية: نعم يا معلمي.
فقال الخوري بتواضع: هذا ما أتمناه لي ولكم يا إخوتي.
وجرأهم عليه تلطفه في الحديث، فذكروا له رجلا طرده من الكنيسة لأنه وشوش جاره فيها، فغفر له وأدخلوه.
وعاد الخوري إلى سهوته، وانطلقت ألسن الرعية في الحديث عن شئونهم القروية، فلم ينسوا شيئا منها، أما عيونهم فكانت في الغالب تتجه صوب المعجن والقدر، ولما أتت الساعة تحلحلت الخورية عن موضعها لتضع المعجنة على طرف المصطبة، فامتدت لرفعها عشرون يدا وشمرت الصبايا عن أذرعهن يقرصن العجين.
وعلا صراخ الزلابية في المقلى، وأخذ الصغار ينتشلون ما في أيدي الآباء والأمهات، وألهاهم انتظار النوبة عن الحديث - وعند البطون تضيع العقول - فظل منقطعا حتى قالت صبية وهي تمط قرن زلابية فوق المقلى: عجينك تخ يا عمتي.
فأجاب شاب في نفسه شيء من تلك البنية: إذا كان عجين الخورية لا يتخ، فعجين من يطلع؟
فأعجبت الكلمة الجمهور، وكان الإيمان بالعجيبة الأولى،
1
وامتلأ البيت غبطة ورائحة زيت.
استلذوا زلابية الخورية المقرفلة مغموسة بالدبس، فذكروا «الدايم» الذي يأكلون على ذكره، فقال واحد: هنيئا لمن يركع الليلة على السطح ليباركه المسيح بمروره.
فأجابه شاب: لا تفوتنا هذه النعمة إن شاء الله.
وصاح شيخ رعشن من الزاوية: يا نسوان، الليلة يتركون خلايا الطحين مفتحة ليباركها الرب. فتنبهت لذلك امرأة خليتها مسدودة، فصفقت كفا على كف، وهرولت إلى بيتها ثم عادت تلهث، خائفة على فوات شيء من زلابية العيد.
وعلى ذكر الخمير قالت امرأة إنها علقت عجينتها بالمشمشة، فأجابها الرعشن، راوية أخبار الدايم: لا يا أم يوسف، هذا غلط، المشمش يركع، علقيها بالتينة أو التوتة، التوت متكبر لا يسجد، والتينة حاقدة على المسيح ... لأنه لعنها.
فقال شاب: نسيت الخروبة يا جدي.
فقال: نعم، نعم، الخروبة تقول للرب: حبلى ومرضعة على كل كتف أربعة. فأعجبوا بفصاحته، وصدقت كلامه امرأة علقت عجينتها بالمشمشة عام أول، فتلوثت بالتراب ... فأسرعت أم يوسف لتنقل عجينتها إلى التينة.
وكان الزيت يغني، والعجين يرقص، والناس يأكلون ويتحدثون، والخوري غارق في بحرانه كأنه لا يرى ولا يسمع، والخورية تتعجب كيف لا يأكل قرنا من زلابية العيد مع أنه يموت عليها. وكان الامتشاط في التبان
2
بعد قلي الزلابية، فتطاير الشرار من رءوس بعض البنات، وتراكض الساهرون ليروا، والتفت الخوري التفاتة غير كاملة، ولم يتكلم.
وجاء دور القمح والحمص المسلوقين، فصبت الخورية في صحون الفخار الصفراء، وأعطت كل كومة صحنا، فأقبلوا عليها يغرفون، وقال شاب فمه محشو: مر الدايم في زي فقير على امرأة تسلق قمحا، فقالت له إنها تسلق بحصا - أي حصى - فدعا عليها، ولما كشفت قدرها امتلأ بيتها حجارة، ولو لم يصل الخوري على الباب طمت الحجارة الضيعة ...
فأجابه ثان: وبالعكس حصل لامرأة فقيرة، ولكنها بنت أوادم، فأكل أولادها من الحول إلى الحول. وتذكروا عجائب لا تحصى، أما الخورية فكانت تغمز حبقوق ليحدث الخوري، فقد شغل بالها سكوته الطويل.
فلبى حبقوق الذي هو على سن الخوري وسأله: ما قولك يا معلمي، البحر يحلو الليلة مثلما خبرونا؟
فلم يجب الخوري، وظل ناظرا إلى الباب الذي يفتحونه خصيصا ليدخل منه الدايم، ولا يدعو على البيت بالتسكير إلى الأبد.
فقال روحانا وهو ابن ستين وما فوق: مؤكد، عند نصف الليل تماما، أعرف كثيرين جربوا وشربوا فكان أحلى من الدبس.
ونكعت الخورية حبقوق ليسأل الخوري سؤالا آخر، لأنها اعتقدت أن الله ربط لسانه كما عقد لسان زكريا في الهيكل، فقال حبقوق بصوت عال: خوري نصر الله، أين أخبارك الحلوة؟ ما سمعنا منها شيئا الليلة.
فنظر إليه الخوري نصر الله نظرة مفلطحة ولم يتكلم؛ فراع الخورية منظره، وأيقنت أنها سترزق ولدا في الستين، وقد يكون عند الله يوحنا آخر، ولماذا لا فالإنجيل يقول: ليس عند الله أمر عسير، وهذا الخوري مربط اللسان وهو كاهن مثل زكريا، والخورية عاقر كأليصابات، ونقية طاهرة مثلها.
أما الجماعة فلم يدركوا شيئا مما يحدث، وأفاضوا في حديثهم عن «الدايم» لأن ساعة مروره قربت، فقال واحد: طلبت بنت كسيحة من سيدنا يسوع المسيح أن يعمل واحدة من يديها منجلا، والثانية فراعة (فأسا)، فقبل طلبتها، وخلصت من الذين يعذبونها.
وقال غيره: كان لواحد عمة اسمها خرستين غنية بخيلة لا يستنتج منها شيئا، فقالت له: اطلب لي طلبة من الدايم. فقال: يا دايم المجد والطهارة، صير عمتي مثل الكارة. فسأله شاب: صارت كارة؟ فأجابه بإيمان: وأية كارة! فمال ذاك إلى جاره وقال له: هينة عليك، اطلب الليلة من الدايم يعمل عمتك مثلما تريد، واسترح من دينها.
وبينا الشباب يكسرون الجوز واللوز، والشيوخ يضغضغون الزبيب والتين، فر الخوري إلى الباب بغتة، فماج الجمهور متعجبا من فرته الغريبة، وتبعه بعضهم، ثم عادوا معه يسألونه عما رأى، ولكنه لم يتكلم، فتحرك الجنين في بطن الخورية ...
وبعد سكوت غير قليل قال كبير القوم: قوموا يا جماعة، الثريا مالت. فودعوا كما سلموا.
وتعلق نظر الخورية بشفتي الخوري، وإذ لم يتكلم شعرت أن بطنها انتفخ كأنها في شهرها السابع، فمدت فراشها ونامت تتوقى الطرح والإسقاط ... ولكن الخوري بدد حلمها الشهي حين صاح بالناس من الباب: القداس نصف الليل.
فأخذت الخورية تتململ، وتفح في فراشها، سألها الخوري عن مصيبتها فما ردت جوابا، فتوهم أنها آسفة على ما أنفقت لأن حاشية الخوري رقيقة، فتركها وقعد يصلي صلاة «الستار والليل»، ثم اتكأ قرب الموقد فغفي، وسمع دقا على الباب، فاستيقظ مذعورا يرسم إشارة الصليب ويغمغم، وهب إلى قنديله يشعله، وتلفلف بجبته، وقبل أن يمشي إلى الهيكل نكز الخورية بعصاه، فقعدت تتمطى.
ولم يبتعد عن البيت بضع خطوات حتى أخذته أفكار غريبة، ورأى رؤى مخيفة، فمات فزعا ... وهم بالرجوع إلى البيت ولكنه تجلد، وأكثر من إشارات الصليب والصلاة، فاشتد عزمه وتبدد كل شيء ... وبلغ الكنيسة غير مصدق أنه فيها، وتعلق بحبل الجرس فدقه بعد عناء بضع ضربات، وصعد إلى الخورس وهو يرتل الأناشيد البيعية ليتشجع، أوقد السرج والشموع بيد ترتجف وجلد يقشعر، وكان كلما شجع نفسه ازداد خوفا ورعبا.
وانتقل أخيرا إلى زاوية الكنيسة الشمالية، وأخذ يقلب الكتب البيعية مفتشا عن رتبة الغطاس وقداسه لعله ينسى مخاوفه، فاستوى قدامه شاب غريب رأى فيه ملامح من يسوع، فصاح الخوري بالسريانية: «بار حايو داكاس بت ميته.» فمد الشاب يديه نحو الخوري مفتوحتين، فزاده إيمانا بأنه المسيح، فخر أمامه ساجدا، وأغمي عليه.
وأقبل الشمامسة الذين يلبون دعوة الجرس قبل الرعية، فرأوا الخوري نصر الله منبطحا على البلاط كالميت، فأسرع أحدهم إلى الماء ينضحه به، وأحرق آخر رقعة أدناها من منخريه، وقرع ثالث الجرس قرعا عنيفا، ثم دقه الضربات المعلومة بين الأهالي للاستغاثة، فانصبوا على الكنيسة كالسيل، وكانت الخورية آخر من جاء.
رأت زوجها صريعا فانحنت فوق رأسه تولول وتبربر: راح الخوري، يا ويلي! مات، مات خوري نصر الله، يخرب بيتك يا عزرايل، ومطت ياء عزرايل ولامه مطا طويلا جدا، انتهى بنتف شعرها، وقعدت تزحر وتطحر، وأخيرا أرسلت صوتا رعب السامعين: خرب بيتي يا ناس، يا حسرتي عليك يا خورية نصر الله.
ففتح الخوري عينيه، ولكنه لم يتكلم، فهدأت الخورية وعاودها - حالا - الإيمان بالحبل، وآمنت أكثر من ذي قبل؛ لأن ما أصاب الخوري أصاب زكريا تماما، وفي الهيكل، وعن يمينه أيضا ...
وأشار الخوري بجمع كفه إلى الناس، فتهللت الخورية وكادت ترقص ... وبعد قليل غمغم الخوري بعض كلمات ثم انفك لسانه، فخبر الشعب كيف رأى الدايم أول مرة في البيت، عندما فر إلى الباب، ثم كيف ظهر له في الهيكل وعاينه وجها لوجه، فسجدوا شاكرين الله إلا الخورية، فالرؤيا لم تعجبها لأنها كانت تحلم بأخرى، غير أنها سلمت وقنعت قائلة في قلبها: تقبر الأولاد، السلامة غنيمة.
وبعد قليل، نشط الخوري وشعر أن شبابه يتجدد كالنسر، فأقام قداسا صارخا رنانا بوجه يقطر منه الإيمان، واحتفل برتبة الغطاس احتفالا دام ساعة وأكثر، فكان يمغط الترانيم والتهاليل، وإن رأى من شماس فتورا أو تراخيا غمزه وانتخى، ثم ختم القداس بمرح يشبه رقص داود أمام التابوت.
وعند الضحى طاف في القرية يرش ماء الغطاس على البيوت، فاستقبلته الرعية بإجلال وفرح عظيمين؛ إن قعد قعدوا حواليه، وإن مشى مشوا خلفه، فعاد إلى بيته عصر النهار فارغا دلوه من الماء، ولكنه مليء بشالك وأنصاف بشالك وزهراويات وأرباع مجيدية، فقد أجزل الجميع عطاءه حتى الأرامل، وابن المذبح من المذبح يعيش.
وتناقلت الألسن خبر العجيبة العظمى، فجاء الزوار من أماكن بعيدة يلتمسون البركة والدعاء، ومن لم يجد الخوري اكتفى بمقابلة الخورية وسمع من فمها حكاية «الدايم»، وكثيرا ما كانت تهم بقص حكاية حبلها، فتبتسم ابتسامة قليلة ثم لا تقول شيئا.
حلت على أبينا الخوري نعمة «الدايم» فصار نافذ الكلمة عند الله، تنتظره الجماهير في المناحات ليفوزوا بلثم يده الطاهرة، وتحل بركته عليهم، وأمسى يصلي على الماء فيطرد الفار والجرذان والحيات، ثم عظم سلطانه الديني، فأضحى يبارك الأرض المجدبة فتستغني عن السماد ويركض نباتها طلوعا. •••
وبعد شهر جاء عيد مار مارون، فطلب الخوري نصر الله الكأس الذهبية فلم يجدها، فطر عقله، ولكنه تجلد وقدس قداسا وجيزا استغربته الرعية، وظنت الخوري مريضا، وجد في البحث سرا عن مرتكب الجريمة العظمى فلم يوفق.
ودرى أهل القرية بسرقة الكأس المخصص بها عيد أبي الطائفة، والميلاد، والفصح، فطولوا ألسنتهم كثيرا، حتى استخفوا بقديس الضيعة واتهموه بالعجز والشيخوخة؛ لأنه لم يخنق السارق قبل أن امتدت يده إلى «بيت الجسد».
وبلغ الخبر الكرسي البطريركي فرشق السارق «بالحرم الكبير» الذي يخرق العظام كما يخرق الزيت الصوف، وتلاه الكهنة في كنائس عديدة بيوم واحد، فبات المؤمنون يترقبون عودة الكأس ولكنها لم ترجع ...
وفي التاسع عشر من آذار - عيد مار يوسف - دخل الضيعة غريب راكب بغلة، فأطلوا من الأبواب على وقع حوافرها، وتبعه - كعادتهم - نفر منهم، ودخلوا وراءه بيت الخوري، فعلموا من حديثه أنه رسول الوكيل البطريركي - الخوري بطرس ضو - وأن الكأس قد وجدت، فزرعوا الخبر في القرية.
وما بدل الخوري ثيابه ولبس جبته الزرقاء حتى كانوا كلهم متجمعين حول مركوبه قدام الباب، ينتظرون سفره السعيد ليدعوا له بالتوفيق؛ عدوا وجدان الكأس إحدى عجائبه لأنه تغضب على السارق مرتين: بعد تلاوة الحرم الكبير، وفي ختام زياح القربان المقدس.
وبلغ المحترم جبيل فاستقبله الوكيل البطريركي باحترام جزيل يليق بصاحب الغبطة، وخبره أن الكأس محجوزة عند خليل الصائغ، وسارقها محبوس في القلعة، وذهبا معا ليريا الكأس والسارق.
ولما وقعت عين الخوري نصر الله على الحرامي، ارتجف واصفر، عرف به «الدايم»، فأحس في الحال أن قوة خرجت منه ...
جان أفندي
صاحبنا حنا شاب انسلخ من جميع معاني محيطه، فأصبح كاللفظة الجوفاء، هو ابن بناء قضى عمره يشن على الصخور حربا ضارية، لا تشفيا وانتقاما من تلك المخلوقات الخرساء، بل طلبا للرزق عن طريق التعمير والتجديد، فكم من بيت بان العيب فيه فجاءه أبو حنا بملطاسه - الشاقوف في لغة اليوم - وبيكه ودردبيكه فهدمه، وهذب حجارته ونظمها صفوفا يتمنى الطغاة أن تكون جيوشهم مرصوصة مثلها. إن أزميل بوحنا ومطرقته ثقفا الصخور المتمردة فلانت ملامسها الخشنة وبادت نخاريبها، فلذة بوحنا الكبرى أن ينصب على عمله نهارا ويعود إلى بيته مساء، فيصافح ولي عهده حنا بيده التي كنبت، ثم يصغي إلى حديثه الغريب فيقول: لم تعص علي الصخور الصماء ولكني عجزت عن هذا الولد الخراط الفشاط.
كان حنا منذ نطق لا يعثر بالصدق، وقد يكون كذب في المهد صبيا، فمن يعلم؟ كان يخرج مع لداته - على عادة الصغار في القرى - إلى البرية، ويعود إلى البيت وفي جعبته أخبار كلها خارجة عن نسق العادة، فكم من حية قتلها بضربة قضيبه، ثم أخذها بذنبها ليقايسها على قامته، فبقي منها على الأرض قدر شبرين، مع أن حنا شال يده اليمنى حتى كادت تنخلع! وكم من ثعلب ضربه بحجر فأصاب مقتله! وكم من عابر سبيل تعرض لرفاقه وابتهر عليهم حتى تصدى له هو، فلف ذنبه ومشى! وخاطره رفاقه يوما - كما زعم - على ربع مجيدي إن دخل مغارة الرصد، فما تلكأ عن ذلك، وفي أعمق أعماق المغارة وجد شيخا قاعدا يفتل شاربيه فطرده منها، ولكنه لم يقع على الكنز، فصاحت أمه: هذا الرصد يا مجنون، إياك ثم إياك أن تعمل هكذا مرة ثانية.
وأرى والده الربع المجيدي الذي كسبه، فكاد يصدقه لو لم تقل عمة حنا العانس: هذا الربع مسروق مني. وأدخله والده المدرسة لعله يستقيم، فلقط الحرف يوم دخلها، ولكنه خرج منها بعد سنين وقد ازدادت أخلاقه سوءا.
كان حنا ملسانا حتى الهذر، كان يتطاول على الناس وبقي كذلك من شب إلى دب، شك الدواة في زناره على نسق القارئ الكاتب من أهل ذلك الزمان، ولم تعد تطيب له الحياة القروية الهادئة، فغير زيه واستبدل الشروال بالغنباز لباس علماء عصره، ثم ارتقى بعد حين فلبس الطقم الفرنجي حين هاجر إلى المدينة، وظل يتتبع سير الأزياء فلبس صديرية حمراء ذات أزرار زجاجية مدورة براقة، شرع يكتب للناس «المعاريض» قدام السراي لقاء نصف بشلك وما دون، ثم علت درجته فصار عنده كرسي وطاولة، وأخيرا اكترى زاوية من دكان عطار تجاه السراي، فكثرت زبائنه وفاض عليه الخير، ففتح مكتبا فرشه فرشا حسنا؛ كراسي منجدة بعد تلك الخشبات التي لمعها الوسخ، وسخ زبائنه من حمالين وفحامين ومكارين.
ووردت الأخبار على الوالد، فكانت تأتيه مضخمة، فصار حنا عنده رجلا مقربا من الباشا، ورجال الحكومة يرتعدون إذا غضب، كلمته تفك المشانق كما يقولون، فيحمد الله على تلك النعمة.
وبعد حين ورد كتاب من حنا إلى والده، المكتوب متوج بسيدي الوالد العزيز، والظرف مكتوب عليه: «جناب الوجيه الأمثل الهمام الشيخ خليل عبدو.» الإنشاء جميل والخط أجمل وأجمل، والعاطفة تحرق العشب، ولكن أمرين حيرا العم بوحنا: أولا الشيخ خليل عبدو، فهو خليل عبدو «حاف» فمن أين جاءت المشيخة؟ وثانيا توقيع المكتوب «جان» والعهد باسم ابنه حنا وهو بوحنا، ظن أنها ضحكة، وأن في المكتوب سحرا؛ لأن الإمضاء «جان» فلا شك أن للجن يدا في الأمر، فهرع إلى الخوري الذي أقرأه المكتوب وعرض له ما تصور، فضحك الخوري وقال: اسمع يا عمي، حنا وبوحنا ويحيى ويونس وجان وأوهانس، هذه الكلمات كلها معناها حنا.
فقال الرجل: ولماذا نقى ابني جان، وما نقى يحيى مثلا؟
فأجابه الخوري: «موضة» يحيى بطلت، وجان اسم عصري جديد، فأنت صرت بحسب ناموس الارتقاء بوجان.
فهمهم الرجل: «بوجان، آخرة حلوة.» ثم قال للخوري: لا يا معلمي، خلوني بوحنا، أنا راض باسمي العتيق.
أما جان أفندي فكان يحيا حياة رخاء، أثث بيتا صغيرا صار يدعو إليه صغار رجال الحكومة فيستفيد من تلك الدعوات، وأمسى يكتب العريضة ويقتفي آثارها؛ يدخل على أصحابه صغار الموظفين ساعة يريد، يتعهد بملاحقة القضايا المحبوسة في خزائن المأمورين - لأمر ما - فيطلق سراحها، فورم كيسه، ثم رأى أنه لا بد له من المقامرة ليحتك بذوي الحل والربط، فأخذ يقامر ويربح، وبالاختصار طابت له الريح فذرى، وازداد غرورا.
وفي ذات يوم أخذ يحدث رفاقه في أحد الأندية عن مزارعيه في الضيعة، عن أخبار المواسم الطيبة التي وردت إليه من جناب الوالد الشيخ خليل، وعن الفيلا التي بناها له أبوه وفقا للخريطة المرسومة، وأراهم إياها فهي دائما في جيبه: صورة بيت مسنم مقبب كأنه قصر الحمراء، وتمنى على أصحابه أن يزوروه فيها فوعدوه خيرا، وكان صاحبنا يفتخر بالمرحوم جده عبدو ويزعم أنه من بقايا السلالة الغسانية، أما والده فعالم علامة، وأمه مثقفة، وأبوه أيضا رجل إداري مع أن هذا لا يتفق مع العلم العميق.
إنه يرعى أملاكهم الواسعة بعين يقظى، ويشفق كل الشفقة على «الشركاء» كما يريد جان، وروى لهم عن والده الشيخ أخبار رحمة وشفقة وعدل تذكر بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فتاق أصحابه إلى رؤية ذلك الأب الطريف وصاحوا جميعا: في الصيف، في الصيف.
وفيما هو يتدفق «كالنياغرا» إذا بالوالد العلامة الإداري الرحيم يقف بالباب، هو قادم من الضيعة، اضطرب جان أيما اضطراب، فمم يخاف يا ترى؟ إن والده غير بشع الصورة، هيكله فخم، وثيابه نظيفة جديدة، يعلق ساعة «ليبيه» ومفتاحها النحاسي مدلى على زناره الحريري المخطط، وسلسلتها فضة، وصديريته من المخمل الأسود الناعم، وكبرانه مطرز مزركش بخيوط من القصب الفضي، وشرواله من الصوف المارينوس الممتاز، وعلى جيبيه تطريز جميل معقوف من الجانبين، ولستيكه أيضا جميل الشكل جديد. إذن مم يستحي جان أفندي؟ إنه كان يحدث الناس أن والده من رجال الوقت، طقمه دائما من بابة نسيج وحده، أي كوبون.
وهجم الأب ليصافح ولده بعد هجران طويل، فإذا بحاجبي الولد قد قعدا ونونته انكمشت، أدرك الوالد ذلك فوقف مكانه وقال: «يا ذوات، منو منكم جان أفندي ابن الشيخ خليل عبدو؟» فأجابه ابنه: أنا هو، ماذا تريد يا عم؟
فأجابه: سيدنا الشيخ والدك كلفني بكلمة أقولها لك سرا. وانزويا في الغرفة ...
وجاء تموز فغلى الماء في الكوز، وتلاه آب اللهاب فعنت على بال جان الضيعة بعد غيبة طويلة لمشاهدة أمه العاجزة المشتاقة إليه، كان له استقبال، والكل يخاطبونه بيا أفندي، والكرماء الأسخياء بيا بك، أبوه معجب يضحك له إذا مشى، ويشعل له سيكارته كلما سحبها من جيبه، أمسى يصدق كل ما يرويه له من أخبار، كصداقته للمتصرف، فيقول مثلا: قلت لاوهانس، إذا كان الحديث مع الخاصة، وإذا ذكر دولته قدام العوام يقول: دولة أفندينا، ويعض على كلمة الباشا عضة مشومة فتخرج الباء كضربة الطبل، والشين كرشاش المضخة.
وخبر الضيعة عن ضيوف كرام سيزورونه، فباتت القرية تنتظرهم كل ساعة، وأخيرا صار الهزل جدا، ودنت حقا تلك الساعة الرهيبة.
أقبل الضيوف الكبار يسألون عن بيت جان أفندي، عن بيت الشيخ خليل عبدو، فدلوا على بيت حقير لا يصلح إصطبلا لخيولهم، وطلبوا جان فما وجدوه، أما والده «الشيخ» فحاول أن يتنكر فما قدر؛ لأن صورة ذلك الرسول اللبق لم تزل مرسومة في ذاكرتهم.
واستراح الزوار في ذلك البيت الحقير ممتعضين، أما جان أفندي فكان مستديرا منطويا على نفسه في قبو البقر، يضرب قلبه فوق المئة، يخاف أن يسألوا عن الجنائن المعلقة التي خبرهم عنها، وعن، وعن، فيعثروا عليه، ولكنهم اشمأزوا مما حدث، فانصرفوا ولم يسألوا عن شيء.
وخرج جان من مزربه ينفض القش اللاصق بطرفه المبلل ... وفيما هو يصلح ما أفسدته من هندامه تلك المفاجأة، جاءه خبيث يقول له: الحمد لله على السلامة.
فأجابه جان وقد أرشدته إلى المنفذ بديهته المعهودة: كيت وكيت من دينهم، الشبعان يفت للجوعان، نحن في انتظار الأوادم لا النصابين مثلهم ...
أم لطوف
بلغت جميلة الأربعين وحرنت هناك، تكر الأعوام وهي واقفة لا تتزحزح، فكلما سألتها عن عمرها انكسرت عينها وأجابت: حوالي الأربعين. من لا يعرفها يظنها أخت كنتها لا حماتها، لم تخط أقلام السنين في صفحة ذلك الوجه الوضاح خطا واحدا غليظا، فما هنالك غير خطوط دقيقة كأنها جوهر السيف، فأم لطوف كانت نادرة زمانها، جمال جذاب وقامة طويلة مستقيمة، لا سمينة ولا رقيقة، عينان لوزيتان تصدقان أخبار هاروت وماروت، ظلت تترقرق فيهما ماوية الفتوة حتى انطفأتا، من يدقق النظر ير أنها ذات أنف غير قليل، ولكن عظمته ضائعة في ذلك السهل الواسع.
كانت المرحومة جبارة عنيدة، حاكمة بأمرها، مسيطرة على زوجها وبني عمه، لا يعصى لها أمر، وتستشار في المعضلات، كلمة من فمها الصغير تلهب القرية، وهي إذا علق الشر تراشق بالحجارة وتضرب بالعصا، فلولا تكون في غير محيط القرية الضيق لكان لها شأن غير شأنها.
كانت كبنات جيلها تعصب رأسها بعصابة مشكوكة بها الجهاديات - دنانير ذهبية - فلا تكاد تفرق بين الذهب الإبريز وبين ذاك الجبين العريض، تضفر شعرها الطويل فيتدلى حتى خصرها ضفائر ضفائر، وفي رأس كل ضفيرة ثلاثة دنانير، وعلى رأسها كريشة حريرية تعقدها تحت ذقنها الحلوة، تمشي «الغندرة» كأنها بنت خمسة عشر، فاتت الستين وظلت نفسها خضراء، كانت تقول دائما: لا تأثير للعمر، الدنيا أنفس. كانت بسامة مشهورة بالكرم والجود، ما انشغل بالها قط إلا حين فكرت بزواج ابنها.
حاولت أن تصاهر البيوت الكبيرة فلم تنجح، ابنها شاب جميل، وعقله راجح، ولكن بنات الناس يخفن غطرسة أمه واستبدادها فأحجمن عن اقتحام بيتها.
لم تكن أم لطوف تكف لسانها عن بنات الناس، فكلما ذكر لها ابنها واحدة هزئت وزجرته بقولها: حسبتك تفهم، ولد قليل الذوق، «واطي»؛ هذي أبوها كذا، وتلك أمها كذا وكذا. وهكذا تقضت الأيام فبلغ لطوف الخامسة والثلاثين ولم يتزوج، وما حظيت أمه ببنت أوادم كما كانت تزعم.
لم تكن أم لطوف راغبة في تزويج ولدها، تأبى أن تصير حماة، ويقشعر بدنها حين تتصور أنها صارت جدة تنادى: «يا ستي.» كانت تغضب إذا كنيناها ولم نسمها، من قال لها: «يا جميلة.» أرته سنها وأهلت به فكأنها أحد الفائزين بلقب دكتور في الآداب والفلسفة ...
وأخيرا ضجر لطوف ومل، راعه المشيب القادم بطبل وزمر؛ فحمي صاحبنا في إحدى ليالي المرفع فجاء أمه بالبنت التي اختارها، فرحبت به بالنعل سفقا على وجهه وقفاه، ودخل الأب بينهما فزجرته بالعبارة المعدة له: «سد بوزك، اقعد بعيدا.» فيهز رأسه ويسكت، إنه رجل حقل تديره امرأته، وهو أطوع من الخاتم بالخنصر، ولخموله هذا نسب الناس ابنه إلى أمه.
أصرت أم لطوف على إرجاع العروس، ولكن ابنها قال لها: تزوجنا يا أمي، لا تتعبي، ما ربطه الله لا يفكه الإنسان.
فصرخت به: ليتك تتجنز بجاه الرب، صرت من الفلاسفة يا جحش! وأخذت تصفر وتخضر وتحمر وترجف كأنها مصابة بالبرداء، وأخيرا أغمي عليها، ودامت الغيبوبة واختفى النبض فدعي الخوري، واستيقظت بعد حين فرأت المحترم قابعا عند رأسها، فحاولت أن تأخذه بلحيته فانهزم وهو يسمع: إن وقعت عيني على عينه نتحاسب، يكلل ابني ولا يسأل عني، لا بد من حش لحيته.
وصفا على مر الأيام خاطر أم لطوف، ولكن عيشها تنغص، كانت كنتها تحاسنها فتزداد نفورا واشمئزازا، إن مشت انتقدتها، وإن تكلمت تغامزت عليها، وقلما كانت تذوق طعامها، كل هذا والكنة صابرة عليها تجاملها وتطايبها، فتطغى وتتجبر، وأخيرا اعتدل الميزان وحميت المعارك فكانت ضارية.
وهجم الهرم على أم لطوف فاندحرت أمامه، فارقها مرحها إذ فارقها السلطان، وقل الزحام على المورد الذي كان عذبا، فكانت ترد على الجماعة بقولها: كبرت جميلة، وحنة صبية.
واستعدت السيدة جميلة لهجوم معاكس علها تسترد شيئا من حصون جمالها، فحنت شعرها، وتبودرت وتحمرت وتخططت، كانت ترتاع كلما رأت ذلك الحسن يندحر ويجد في الهرب، فعزمت بغتة على زيارة بيروت، ما درى أحد بما تنويه حتى عادت بعد جمعة وقد بدلت بثيابها الهرقلية أزياء جديدة، ولم تنس الجزدان والشمسية، باعت شكتها وضفائرها واشترت أطرف الأنسجة وأغلاها، وعادت إلى الضيعة كأنها عروس، رمت الزنار وعصبت رأسها المحنى بمنديل وردي كأنها تنافس كنتها وتزهو عليها، ولكنها لم تلق التفاتا من الناس، فكانت تقتلها الضحكات الصفراء الممزوجة باستهزاء مر، فحارت بأمرها ولجت في الخصام.
نفرت من بيتها بل من كل بيت، وخالت الناس كلهم أخصامها، كانت تقعد تحت سنديانة تاريخية طالما قعدت تحتها حماتها من قبل ... فتحدث نفسها كأنها تحدث شخصا آخر، تتذكر أيام العز والمجد وتبكي، الناس عندها غدارون يظاهرون كنتها عليها لأنها صبية، وقد جفاها الجميع حتى الأحباب.
ودخلت علي يوما ومعها حفيدها، أجلسته حدها وقعدت، لا حيا الله ولا سلم الله، كانت ساهية كأنها لا تريد أن تقول شيئا أو أنها تجهل أين هي، فلم أتحرش بها لئلا تقلق الحارة، ولما طال الانتظار قلت لها باسما: يظهر أنك بالعة لسانك، الله معك.
فأجابت بفتور يخالطه نفور: لا الله معك ولا السلام عليك، كلكم علي، المولي ما له صاحب. قالت هذا وأخرجت من عبها كعكة باقية مما تحوجته من بيروت، ناولتها الولد وقالت: تعرف سبب محبتي لهذا الصبي؟
فهززت كتفي اليسرى نافيا، فقهقهت قهقهة بلهاء وقالت: لأنه غدا يأخذ بثأري، ربيت وما لقيت.
فقلت لها: تريدين الصحيح يا جميلة، الحق كله عليك، اتركي، راح دورك.
فهزت برأسها وقالت: أنا تعبانة، كنتي حمارة وابني جحش، أنا عمرت البيت وأنا صيرته بيتا، تجيء شقفة دابة، بنت غريبة تتحكم فيه، ولا تسأل عني، هذا ما أنزله الله بكتاب.
فقلت لها: الدنيا أدوار، راح دورك.
فقالت: لا تأكل إلا مثلما تريد، كلامها كله بلا طعمه، حديثها طق حنك، أثقل من المرسنك، لا تشاورني بشيء كأني كلبة، ما افتكرت بنت الحرام أني أنا صاحبة البيت.
فقلت لها: الدنيا أدوار، راح دورك يا جميلة.
فاحتدمت لسماعها: «راح دورك.» كانت قاعدة فوقفت واندفعت في حديثها، تارة تهجم علي فتضع أصابعها في وجهي، وأحيانا تتأخر كالهر، وأخيرا قالت: «ابني يحب امرأته أكثر من أمه، ولد ناكر الجميل، قال المثل: الدنيا أم، المثل كذاب، الدنيا مرأة.»
فقلت لها: لا توروري، راح دورك يا جميلة.
فصرخت كالمجنونة: وعن قريب يروح دورك. وانفتلت غضبانة وسفقت الباب خلفها، وسمعتها تقول: «من يقص من جلد غيره يوسع، كلهم في الهوى سوا، الناس مع الواقف.»
وصرخ الولد حين استحال عليه فتح الباب، فعادت وشفتاها ترقصان «التشارلستون»، ونتشته نتشا وقالت وهي تعض شفتها السفلى: «القرود تسحب روح أمك.»
فاستوقفتها لأقول لها: ابنك يموت يا أم لطوف، صار مثل المسلول. ولكنها لم تقف فرشقتها بما قلت رشقا، فهرولت وهي تقول: «البغل موته أستر له.»
وكان لطوف في جهد جهيد من حياته مع أمه وزوجته، كان دائما صامتا كالسمكة لا يبدي ولا يعيد، يروز مشكلته ولا يهتدي إلى أهون الشرين.
وكانت معركة فاصلة بين الحماة وكنتها، فصوب لطوف مسدسه إلى رأسه متهددا، فصرخت أمه وتعلقت بيده، فانطلق المسدس وبقر البطن الذي حمله تسعة أشهر، فانحلت عقدة الرواية هكذا: الأم في القبر، والابن مات في الحبس، وصارت المرأة تحت رجل آخر.
وجه غريب
أين هو المولود؛ فإننا رأينا نجمه في المشرق؟
متى، فصل 2
في ميلاد الأربعين يبلغ عدد ميلادي أربعة وخمسين، ما عدا الليل فإنه ليس بالحساب، كأن ذاتي ظفر مرضوض ينسلخ ليخلفه غيره؛ ففي كل عام أجدني رجلا آخر، وأنى التفت أرى أشلاء ذواتي مكومة حولي كأنها أسلاخ الحيات، أراها مبعثرة في غابة العمر فأرثي لها، ثم أحسبني أفلت من شراكها، فإذا أنا كالديك العاثر بمكب من الغزل، فيا من يخلصني من ذواتي!
أحب هذا الجليلي لأنه أحب الحياة، وكم تشجيني ذكرى ميلاده العجيبة، من ميلاد بين البقر والتيوس، إلى معلم يحل الناموس، إلى ذروة العبادة والطقوس، أزعم أن ترياقي في خرجه فأرى أعشاب المجدل مخلوطة بنبات سادوم، فيا ويل العالم من خمير الكتبة والفريسيين!
ختم المعلم قصة عمره ختاما فنيا رائعا، قصر حباله فما اضطربت ولا تذبذبت، أحسنت يا سيدي.
للأستاذ «ألين» مجموعة عنوانها «آراء في الدين» كتب فصولها في ربع قرن، وختامها «ميلاد السلام» المكتوب سنة 1935، ألين زميلنا ولا فخر، فالأساتذة جميعهم مريخيون، تسيطر عاطفتهم على إرادتهم، غرهم الثناء فصدقوا أنهم شركاء الله في تدبير الكون، يدعو ألين إلى السلام العالمي، ويحث على التملص من ضباب اللاهوت، يريد أن تكون هدية المجوس للطفل كتبا لا مدافع، ومدارس لا قلاعا وحصونا.
الفكرة سامية والخيال ناعم كريش النعام، أما الواقع فأخشن من المبرد والمنشار، يقول ألين: أطفال اليوم كأولاد العصر الحجري، فلا الراديو ولا السينما ولا المتراليوز تغير خلية من خلاياهم الزلالية، ولا ذرة من إحساسهم الرخص وفسفور تفكيرهم، والعيون التي تنفتح في الطابق الخامس كالتي انفتحت منذ ألوف السنين في أعماق الكهوف.
هذه حقيقة علمية لا غبار عليها، ولكنها حجة على «ألين»، على أن الإنسان لا يتغير، فمن وحش خام يقتل الفرد بأنيابه وأظافره، إلى رجل متمدن يقتل الألوف بعقله وعلمه. يريد الأستاذ ألين أن ينصت الأولاد إلى أمثال الناس كهومير وشكسبير وغوت وموليير وهيغو وغيرهم ليتعلموا أن الناس إخوة، والدنيا كلها وطنهم؛ فالسربون والهيكل والكنيسة والكنيس تعد أقيسة منطقية ليست أقل قتلا من المدافع، والمرشالون يقدمون سيوفا معللين الفتيان بالشرائط المقصبة؛ فليس من يرجى منه الخير غير المربين - المعلمين - المهددين من بيلاطس وقيافا لأنهم لا يعدون الحمل للمجزرة.
فيا أصدقاء الطفولة هلموا إلى شجرة الميلاد الخضراء، فلنغن حولها: ولد يسوع اليوم، وولد أمس، وسيولد غدا. إنه ينقذ العالم إن لم يقتله قيافا وبيلاطس قبل الثلاثين من عمره، ولكن قيافا وبيلاطس يحفان بالمهد، يتبجحان بأمجاد عزرائيل، مالئين العلب الحاكية بأناشيد الحرب ليقتلوهم قبل هذا العمر.
إيه يا ألين، أين عيناك؟ لقد أمست شجرة الميلاد ملهاة تعلق في أغصانها المسدسات والطيارات والقذائف، لا الشموع والخراف وملائكة الرحمة. البشرية تعبد ذاتها في شخص يسوع، والذات شر من حوت يونان، وأكثر رءوسا من تنين يوحنا، قد سقط فندق السامري على رأس بانيه، ومات السيد عطشا على بئر يعقوب ... لا تدع الناس إلى الهزل، فلنجد يا صاحبي. •••
ورفعت نظري عن الورقة المبسوطة أمامي، فوهلت إذ رأيت قبالتي رجلا جالسا كأنه الطيف، لم أشعر بدخوله، وعجبت من صبره علي، فتنهدت مبتسما كالمعتذر ولكنه ما بالى، هو مطرق دائما، عربي الزي من قمة رأسه إلى نعله ذات الشراك والسيور، ملتح عليه عباءة رفع ذيلها الأيسر إلى كتفه اليمنى، منكسر الطرف كمن أفاق من النوم، تذكرت أني رأيت وجهه ولكن اسمه لم يدر على لساني، فما تراه جاء يعمل في هذا الليل؟ ولماذا لا يتكلم؟
دقت أجراس عالية كلها بعيد الميلاد، الأجراس تدق وتطنطن، والرجل جامد، سكوت بليغ، ضغطت على الزر فما لباني البواب، فتحلحلت من مكاني ولكن ضيفي لم ينزل من قمة رصانته. أقول لك الصحيح اقشعر بدني وغرقت في الكرسي، راعني سكوته، وهو لو يتكلم لعرفت ما عنده، وأخيرا هتفت كمن ركبه كابوس: «الله يمسيك بالخير.»
فتزحزح خياله قيد شعرة، وكأني سمعته قال: «مرحبا يا عم.»
مرحبا يا عم! هذه غلاظة، أهكذا يقضي على أبهة كافحت لأجلها كفاح عنترة؟ ولكني تصبرت وقلت في نفسي: هو رجل لا شبح؛ إذن الأمر هين، سأعرفه من أنا، وأؤدبه غير هذا الأدب، ووزنته لأرى إذا كنت أقوى عليه فوجدتني كذلك، ولكن العصا النائمة في حضنه رجحت كفته، ووجدت في الكلام قوة وشجاعة فقلت: «من أين شرف جناب الشيخ؟»
فهز برأسه وقال: «ابني عندكم يا أخي؟»
فامتعضت وتصبرت وقلت: «لهجة السيد فلسطينية.»
فأجاب: «نعم يا بي.»
فظننته يقول: «يا بك.» فانشرحت وانبسطت وأجبت بلهجة المرتاح: «نعم يا سيدي، المحروس عندنا، اليوم جئتم حضرتكم من الناصرة؟ كيف حال تلاميذنا القدماء؟»
فقال: «يا ليت! طفت الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها وما وجدته.»
فأكدت له أنه عندنا وصحته جيدة، وهو من الأولين في صفه ...
فرفع بصره قليلا وشال حاجبه الأيسر وتضاحك قائلا: «ابني يتعلم! والأول في صفه!»
فكانت خيبتي مرة، وجرحني حديثه الناشف المتقطع: «ما عرفتني ولا عرفت ابني، حططتم من قدري جدا لتعظموا ابني وأمه، نسيتم فضل المربي.»
وصح عندي أن محدثي آت من العصفورية، فقلت له: «ما اسم ابنك يا عم؟ بحياتك حل هذه العقدة.»
وكأنه أدرك أني تضايقت فقال: «لا تؤاخذني، ثقلت عليك، كنا نضيع هذا الصبي ونجده يناظر العلماء ويجادلهم، أما هذه المرة فما لقيناه، لا في الهيكل ولا في العرس ولا في أي مكان آخر.»
فطفقت أردد من غير قصد: «يناظر العلماء ويجادلهم، أين سمعتها يا ربي؟»
وتطلعت صوبه كمن انفتحت له مغاليق الأسرار، فرأيت عصاه قد برعمت، وفاحت رائحة الزنبق ... تنم عن طهارة الرجل مرة ثانية.
ودخل يعقوب يحمل القهوة فشربتها مرددا: «واصنعوا هذه لذكري.»
موعظة القيامة
خرج الخوري يوحنا عبود من الاحتفال بدفن المسيح يوم الجمعة، وصدره يكاد ينشق من الحزن، وفي غضون وجهه بقية دمع لم تجف بعد، مشى يتعكز على عصا سنديانية معقوفة المقبض، يجر أذيال جبته الزرقاء وعلى رأسه قاووق الخوري الماروني العتيق الذي لم يرض به بديلا طول العمر.
كاهن شيخ خدم المذبح 65 عاما، تمثلت له مأساة سيده الشاب عند مغيب شمس العمر، حتى خال أنه يراها بعينه في أورشليم سنة 33 مسيحية، انفطر قلبه التياعا فكان يحسب كل زهرة تلقى على الصليب الدفين من أيدي المؤمنين حربة مسمومة، وأمست كل كلمة يسمعها من «السنكسار» عن آلام الابن الوحيد ومهانته تهيج شجونه، فكم صرف بأنيابه حنقا على قيافا ويوحنان، وكم آلمه تذبذب بيلاطس البنطي، ويا لفجيعته إذ رأى السيد - وحده - بين الكهنة ورؤساء الكهنة والكتبة وأذنابهم يبصقون بوجهه ويلطمونه، وتلاميذه تركوه وخذلوه، تمنى لو أنه كان في ذلك الزمان فينصره ويموت معه شهيدا، فيرث الملكوت بأقرب وسيلة وأضمنها.
هكذا كان الخوري عندما برح الهيكل، كان يسير في طريق بيته منكس الرأس، مكسور الخاطر كأنه قبر أحد بنيه، وسارت رعيته خلفه صامتين كأنهم عائدون من مأتم شاب في ميعة العمر، ولا غرابة فكلهم مسيحيون تغلغل اليقين في قلوبهم حتى الصميم.
بلغ الخوري بيته وليس وراءه غير بنيه ثلاثتهم، لأن الناس ارفضوا عنه شيئا فشيئا، فالوقت الظهر وكلهم صائمون، وبيت الخوري في رأس الضيعة. أفطر الخوري وأولاده، وودع الطبق إلى صباح الأحد، تلك كانت عادته في مثل ذاك اليوم كل عام، يطوي هذين اليومين زهدا وإماتة نفس ابتغاء النعمة والأجر.
تغدى وعاد إلى الكنيسة ليزور قبر الفادي ويتعظ بفاجعة ابن الإنسان ويتألم لآلامه، ويشبع مجاعته الروحية قبل الرحيل، متزودا لآخرته ما يشفع به عند الله. كان يصلي لأجل رعيته، ويحاسب نفسه قبل أن يأتي السارق، ويمحو بدموع التوبة كل لطخة في كتاب أعماله قبل عرضه على ربه في الدينونة الخاصة حين يقف بين يديه حافيا عريان، والموعد قريب، فالخوري يوحنا ابن ثمان وثمانين وإن كان بعد ذا همة.
صرف عصارى الجمعة في الكنيسة، طورا يصلي جاثيا، وتارة يقرأ متأملا في كتاب «مرشد الخاطئ»، وحينا في كتاب «مرشد الكاهن»، ويتبحر في شرح بلرمينوس للعقائد المسيحية، ثم ينتقل إلى منبر التوبة يسمع اعترافات المؤمنين والمؤمنات.
ولما غابت الشمس قرع الجرس حزنا، ولم لا، فالمسيح مات، ثم أسرج قنديلا وفتش عن صلاة المساء في «الحاش» وقلب صفحات السنكسار و«الريش قريان» والأناجيل والإفراميات حتى إذا عثر على الفصول الخاصة بتلك الليلة الرهيبة طوى الكتب ووضعها ناحية، وجاء دور السجدات فنيف عدد ركعاته على المائة.
ولما اجتمع الشعب قامت الصلاة، فمنح رعيته البركة في آخرها وأوصاهم جميعا أن ينقوا ضمائرهم، ويستعدوا لملاقاة الختن السماوي بمصابيح العذارى الحكيمات المملوءة بزيت التقوى المنبثق منها نور الإيمان وحرارة الندامة والرجاء وأشعة المحبة المسيحية الصادقة.
وعاد الناس إلى بيوتهم وظل الخوري يوحنا يصلي عند القبر، يطيب له الرنين ويلذ له النواح الروحي المرسل من صدر عامر بالإيمان، ومن نفس قانتة ألبسها الله ثوب ندامة لم يلبس داود إبان توبته أجمل منه وأبهى.
وكان يجثو بالقرب منه شقيقه الخوري موسى الضرير، يصلي ويسمع ما يقرأ عليه أخوه، وكان الخوري موسى رقيق القلب تفيض دموعه بغزارة لأقل كلمة تلامس شعوره الديني.
وقبل منتصف الليل أثلث الكهنة، انضم إليهم أخوهم بالمسيح الخوري يوحنا الحداد الذي قام برتبة دفن المسيح في مزرعة مجاورة لا خوري لها، هذا الكاهن طيب القلب اشتهر بالصراحة البريئة من الغمز واللمز، تزينه السلامة المسيحية النقية، فاشترك الآباء الثلاثة في صلاة الليل وحضرها نفر من الشيوخ المتهجدين، وبعد ختام الصلاة ولى الكهنة الثلاثة وجوههم نحو القبر وأخذوا يقومون ويخرون ساجدين إلى الأذقان أمام الضريح حتى بان التعب فيهم.
مشهد رائع: بضعة شيوخ أصغرهم ابن خمس وسبعين يقومون بهذه النافلة الدينية الشاقة، والكهنة الشباب يغطون في مضاجعهم الناعمة.
ثم ودعوا القبر بلثم الغطاء بعد أن ملئوا السرج زيتا. •••
كان نوم الخوري يوحنا عبود تلك الليلة متقطعا، ينتفض بين آونة وأخرى، واستيقظ فجر السبت على صياح الديك فتذكر جحود بطرس فتألم، وسار إلى الكنيسة مارا بأخويه الكاهنين، ومشوا معا إلى الهيكل بخطى الشيوخ ليقيموا صلاة الصبح والذبيحة الإلهية، وبعد إتمام واجباتهم الدينية خرجوا ثلاثتهم وجلسوا ضحى ذلك اليوم الضاحك تحت سنديانة الكنيسة، قرءوا فصلا من كتاب «الاقتداء بالمسيح» وتذاكروا بعد تلاوته شئون القرية.
فتنهد الخوري يوحنا عبود، وتأفف الخوري موسى، وتنحنح الخوري يوحنا صادق، وكان حديث ...
قال الخوري يوحنا عبود: خطيئتنا - نحن الكهنة - كبيرة جدا، ولولا ذلك ما تخلى ربنا عنا وعجزنا عن التوفيق بين أقاربنا، الخلاف خرب الضيعة، والشر الكبير قدامنا.
فقال الخوري موسى بنبرة: أوف، أوف، ضيعة شيطانها كبير.
فأجاب الخوري يوحنا صادق: يا معلمي خوري حنا، كل الحق علينا نحن الخوارنة، يا خوري موسى، شيطاننا نحن أكبر من شيطان الضيعة؛ لو كان فينا روح الله طردناه باسم الصليب، وانطفأ خبره.
فأطرق الخوري يوحنا عبود قليلا وأجاب: الحق معك يا أخي الخوري، ينقصنا كثير من التقوى، لو كنا كما يجب ما عجز المرسل البطريركي عن مصالحة أولاد رعيتنا.
فاحتد الخوري يوحنا صادق وقال: يا معلمي، الحكيم الغريب لا يعرف المرض البلدي، نحن وحدنا نعرف كيف نطبب مرضانا، صدقني قلت لك لا تهز برأسك.
فهز الخوري موسى رأسه كعادته أيضا وقال: مليح، هات يدك يا خوري حنا.
فلم تعجب الخوري يوحنا صادق لهجة الخوري موسى فردد: هات يدك يا خوري حنا، يا خوري موسى، يد واحدة لا تصفق، المسألة بسيطة جدا، اسمعوا: أنا أبو ثلاثة، وأنت يا خوري موسى أبو ثلاثة، ومعلمي خوري حنا أبو ثلاثة، وعم ثلاثة، وجد أربعة، وخال اثنين، «منو» بعيد عنك يا معلمي، ابني صهرك، وابن حنا بشارة صهرك، و«بو أسعد» صهري وابن عمك، من بقي؟ هذي الضيعة يا خوري موسى، لو تجردنا نحن الخوارنة عن الغايات، وحتمنا على أولادنا وأحفادنا وأقاربنا انفض المشكل وارتاحت عين كفاع.
فنظر الكهنة إلى بعضهم مبهوتين كمن حاول طويلا حل عقدة وإذا بها تنفرج بين يديه فجأة، لم يفوهوا بكلمة بعد هذا، ودخلوا الكنيسة ثلاثتهم وصلوا صلاة المساء ورتبة الغفران، ثم انصرفوا إلى بيوتهم، إلا الخوري يوحنا عبود فظل في ساحة الكنيسة يتمشى ذهابا وإيابا وله من نفسه رفيق يحدثه ويناجيه ... ودخل الهيكل بعد ذلك فخلع عن المذبح ثوب الحداد وزينه لاستقبال العريس الذي غلب الموت بالموت، ووهب الحياة لمن في القبور. •••
وقضى الخوري يوحنا عبود ليلة السبت في الكنيسة يعرف ويصلي منتظرا ساعة القيامة ليبتهج بالرب، وركع طويلا أمام القبر يسأل الفادي النعمة للضيعة وللمؤمنين بالمسيح جميعا، وكانت ليلة حزنه تنجلي كلما اقترب نصف الليل، كنت ترى وجهه يشرق رويدا رويدا كجبال لبنان عند دنو طلوع القمر.
وأزفت الساعة فهب الخوري يقرع الجرس كأنه ابن عشرين، وتوارد الناس على الهيكل بيوتا بيوتا، كبارا وصغارا، فامتلأ الهيكل بمصابيحهم وفاض نورا، وكلهم بألبسة العيد.
واشترك الكهنة الثلاثة في إقامة الذبيحة الإلهية بوجوه تفيض بشرا، كأن هناك قيامة حقيقة وظفرا واقعيا، ويا لغبطة الخوري عندما هتف بصوته الجهوري الذي ملأت اهتزازاته حنية المذبح خشوعا ورهبة:
المسيح حقا قام
فافرحوا أيها الأنام
ورد عليه الشعب:
مريم كفي البكا
المسيح حقا قام
وأقام الكهنة مخلصهم من قبره بحسب المراسيم البيعية المارونية، وطافوا بالصليب والزهور في الكنيسة ثلاثا، وفي أيدي الناس الشموع المضاءة، وبعد انتهاء الطواف وزعت الأزهار المباركة على الشعب، ثم استأنف الكهنة رتبة القداس الاحتفالي.
وشاء الخوري يوحنا عبود أن يلقي موعظة بمناسبة القيامة، فأطبق الإنجيل بعدما تلاه ووضعه في مكانه من عن يمين المذبح، والتفت إلى الشعب فجلسوا جميعا بين يديه وسكتت الكنيسة، فقال:
يا إخوتي المباركين!
القيامة رمز للحياة الجديدة، فسيدنا يسوع المسيح له المجد قال: إن حبة الحنطة إن لم تمت لا تعش، وكذلك نحن إذا ما متنا مع الفادي وقمنا بقيامته، فلا حياة لنا في ذواتنا، إن موت النفوس بالندامة مثل النار التي تنقي القلوب وتصيرها صافية نقية كالفضة الروباص.
ليست القيامة بالتخلص من الصوم والقطاعة والتقشف، وليست القيامة أكل بيض ولحم، بل القيامة أن تخرج من الصوم المقدس كأنك جديد روحا وجسما.
العيد أن يحاسب الرعاة كبارا وصغارا - من الشماس إلى البطرك - ضمائرهم على إهمالهم وتقصيرهم في سياسة الأوقاف والأيتام والقاصرين والقاصرات والأرامل، وأن يسعوا دائما وراء نمو الألفة المسيحية في الطائفة، وأن يسهروا على أعمالنا نحن الكهنة في الضياع، وينصفوا المظلومين منا ومنهم. أنا متأكد يا إخوتي أن أجسادكم نقاها الصوم والانقطاع عن «الزفر»، ولكن من يؤكد لي أن نفوسكم تجددت بالمسيح وتقوت بنعمته؟
إن الركب المتخلعة لا يشددها إلا الإيمان، ولا يتعلم التضحية والمحبة الحقيقة إلا من حضر آلام السيد المسيح وموته يوم الجمعة العظيمة، فهل استفدتم شيئا من صلب المسيح وموته؟ لم يمت المسيح يا أولادي ألفا وتسعمائة مرة، المسيح مات وقام مرة واحدة فقط، وهو جالس الآن عن يمين أبيه السماوي، نحن نحتفل بتذكار موته وقيامته كل سنة لئلا ننسى آخر درس علمنا إياه من على الصليب: «يا أبتاه، اغفر لهم.» أعرفتم لمن غفر؟ غفر لصالبيه، فهل غفرتم أنتم لمن أساء إليكم من أقربائكم؟ ألستم كما كنتم حزبين؟ فأين مسيحيتكم يا أولادي؟
إن الثياب الوسخة تقلع وتغسل كل جمعة، فلماذا لا تقلعون ثيابكم الوسخة؟ يكفي لبسها ثلاث أربع سنين، اقلعوها يا أولادي، أبدلوها بثوب القيامة الأبيض النقي.
إن القدر القذرة لا تشتهي النفس طعامها، بيضوا قدوركم لتقبل نفوسكم على الطعام الذي تطبخون، نحن حاضرون غب الطلب.
إن ما تقدمونه لله بأيد وسخة يسد أنفه إذا رآه، ويحول وجهه عنكم إذا تقدمتم إليه، فلماذا لا تغسلون أيديكم ووجوهكم لتقابلوا ربكم أطهارا أنقياء؟ إن الماء لا ثمن له، فاقتربوا من الماء الحي تتطهروا وتنظفوا، إن دمعة واحدة تمحو ألف خطية.
لا تتعجبوا يا إخوتي، إذا كلمتكم بهذا بلساني ولسان أخوي المشتركين بهذه «التقدمة» التي قدمناها لأجلكم، فنحن مسئولون عنكم كأناس يؤدون حسابكم كما قال بولس الرسول.
وإلا فما معنى الوزنات الخمس في الإنجيل الطاهر؟ أنتم الوزنات الخمس، فالمسيح لم يكن تاجرا، ونحن العبيد الذين ائتمنوا عليها، فإن ربحنا دخلنا فرح سيدنا، وإن دفنا فضته يقول لنا: أخرجوا العبد البطال إلى الظلمة البرانية حيث يكون البكاء وصريف الأسنان.
وإذا أحد أول وفسر لكم غير هذا التأويل والتفسير فهو دجال يكذب على المسيح وكنيسته، لا تصدقوا الذين يتفلسفون على ربهم ليحللوا الربا والتجارة لأنفسهم، فهؤلاء عبيد المال وربنا قال: «لا يمكنكم أن تعبدوا ربين الله والمال.» إن هؤلاء الناس آلهتهم بطونهم كما قال مار بولس، لا يهتمون إلا للغد، ناسين كلام ربهم ومخلصهم.
نحن رجال الدين متجرنا في النفوس، مخازننا كنائسنا، والأسواق والدكاكين محرمة علينا، نحن يجري علينا ما قال ربنا لآدم أبينا الأول: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» نحن لا يحل لنا الكسب من الأكياس بل من خيرات الأرض أمنا، فأنا أفلح وأزرع مثلكم، ومتى وضعت يدي على المحراث لا ألتفت ورائي، بل أنبسط إلى ما قدامي كما قال رسول الأمم، ومتى أويت إلى بيتي لا أفكر إلا بخيركم الروحي، ونحن وأنتم بألف خير ، نشكره تعالى.
أنتم التجارة التي حلت لنا، وواجباتنا أن نعمل ونعلم حتى ندخل ملكوت السماوات، فليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات، هكذا قال فادينا له المجد.
قال لنا الرب يسوع: أنتم نور العالم، فيا ويلنا إذا كان النور الذي فينا ظلاما، يا ويلنا إذا لم نكن مثلا صالحا لرعيتنا، فالابن يتبع أباه، والتلميذ معلمه، والمسيحي خوريه، والخوري مطرانه وبطركه، ومن لا يعمل بما يعلم لا تسمع كلمته، أما الحجة التي يلتجئ إليها المؤمنون إذا رأوا شكوكا في سيرتنا - نحن الكهنة والرؤساء - فيقولون: اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم. هذا خلط، المثل الصالح مطلوب منا قبل كل شيء آخر، فالمسيح قال: «الويل للعالم من الشكوك، والويل لمن تأتي على يده الشكوك.» ولو يرضى أن نكون كالكتبة والفريسيين والعشارين ما غير الناموس، وما قال لنا: «أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح فبماذا يملح؟»
لا تتبعوا القادة العميان الذين يعفون عن البرغشة ويبلعون الجمل ...
نحن السراج الذي لا يوضع تحت مكيال، بل على منارة ليشاهد الذين في البيت نوره، فيا ويلنا إذا كانت زجاجتنا مسودة بالخطايا والذنوب وسوء السيرة.
أنا أعظكم وأعلم أني خاطئ مثلكم، فالكمال لله يا أبنائي، ولكني أغسل نفسي دائما بعمودية الاعتراف والندامة والتوبة لأصلح مرآة لكم، وإلى الاعتراف والندامة والتوبة دعوتكم وأدعوكم ما عشت، فاقتربوا من مائدة الخلاص تشبعوا وتملئوا عيونكم من خيرات السماء والأرض، والقلب يضحك لكم.
من يعتقد منكم يا أولادي أن يدي ملوثة فلا يقبلها، هكذا يصلح الشعب رؤساءه، إن اليد الوسخة لا تستحق أن تلمس فكيف بالتقبيل، والراعي الذي يبغض غنمه يستحق لعنة الذئاب، نجنا يا رب. والأب الذي يكره أن يكون الفرح عند بنيه شيطان هو، رد عنا غضبك يا الله.
فأروني يا إخوتي الأحباء أن نعمة ربنا يسوع المسيح حلت فيكم، أصلحوا كل خلل بينكم لتقوموا مع المسيح وتستحقوا فرح القيامة، اتركوا النكايات والكيد لبعضكم، اغفروا للناس زلاتهم ليغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم؛ بهذا تعيشون بغناء عن أبواب الرؤساء والزعماء والمقربين من الحكومة الذين يحملونكم مكاتيبهم للحكام ليساعدوا هذا على ذاك، ويخربوا بيوتكم، السلام المسيحي يغنيكم عن البشر كلهم، كونوا مسيحيين.
وأنا الذي صرت على حافة قبري، ربما أغمض في هذا العام عيني لأفتحهما على عرش الديان الرهيب، فماذا أقول لك يا يسوعنا الحبيب إذا سألتني: كيف تركت رعيتك أهالي عين كفاع؟
هنالك لا كذب يا أولادي، أقول له تركتهم حزبين يلعب بينهم الغزال ... هذا من حزب بولس، وهذاك من حزب أفلو، وفي الحزبين أولادي وأبناء أخي وبنو أختي وأحفادي وأصهاري وأقربائي، يا خيبتي! أقول له: تركت البغض في القلوب يحرق الأخضر واليابس وما قدرت أن أصالحهم، يا خجلتي منك يا يسوع! أقول له: تركت الضيعة قائمة قاعدة، والشيطان معشش فيها، دق رزة واستبرك، يا ويلتي من تلك الساعة! فأستحلفكم يا أولادي بجراحات وآلام سيدنا يسوع أن لا تبعثوني إلى الدينونة بهذه الخيبة.
وأنتم يا إخوتي الشيوخ، ماذا تحملون إلى القبر؟ فكروا في هذه الكلمة وكونوا قدوة لأبنائكم، تذكروا كلمة الرب يسوع: «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فخل له رداءك أيضا.»
فإلى التسامح والغفران أيها الأبناء الأعزاء، إذا شئتم أن تقوموا مع المسيح وتتجددوا بروحه، اغفروا لي يا إخوتي جميع ما أخطأت به إليكم بالفكر والقول والفعل، شمسي صارت على الغياب، سامحوني وتذكروني في العام المقبل وصلوا لأجلي.
وأخيرا أسأل الله الذي جمعنا في هذه الدنيا ألا يفرقنا في الآخرة، بشفاعة القديس روحانا صاحب المقام، والقديسين العظيمين مار مارون ومار يوحنا مارون، والرسولين الطاهرين بطرس وبولس، فلتحل عليكم نعمة الثالوث الأقدس الأب والابن والروح القدس، آمين والسلام لجميعكم.
واستأنف الكهنة الذبيحة الإلهية، فصاح الشمامسة منشدين نشيد القيامة: سلاما سلاما للقريبين مع البعيدين ... إلخ.
وبعد أن بخر الكاهن الشعب غسل يديه، ولم يستطع أن يضبط لسانه، فالتفت إلى الشعب ثانية وقال: أكثركم يرى الخوري يغسل يديه في القداس ولا يعرف معنى ذلك، هذا يا أولادي، إشارة إلى عمل بيلاطس البنطي عندما سلم المسيح إلى قيافا وزمرته، غسل ذلك الظالم يديه وقال: «أنا بريء من دم هذا الصديق.»
أنا يا إخوتي لا أقول ذلك، بل أقول بالعكس، أقول ما قاله النبي داود: «امح يا رب ذنوبهم وخطاياهم، انضحهم بالزوفى فيطهروا، اغسلهم فيبيضوا أكثر من الثلج، قلبا نقيا اخلق فيهم يا الله، وروحا مستقيما جدد في داخلهم.»
وولى وجهه صوب المذبح ومضى في عمله، فصاح الشماس عند أخذ «السلام» من يد الكاهن: ليعط كل واحد قريبه السلام بمحبة وأمانة ترضي الله، هلم بالسلام يا أبانا الكاهن النقي.
فعلت الضجة في الكنيسة، فظن الكهنة أن قد علق الشر، التفتوا فوقعت أعينهم على مشهد لم يسبق له نظير في التاريخ الكنسي، أهل القرية يتصافحون ويتسالمون في صحن الهيكل، كل يفتش عن خصمه ليعطيه السلام ويصافحه ويقبله.
فرفع الكاهنان أيديهما وباركا الشعب.
واضطرب الخوري موسى لأنه أعمى لا يرى ما وقع، فصاح به الخوري يوحنا صادق: بارك يا خوري موسى، دعسنا الشيطان.
لص جواد
المستر ه. ك. تاجر كبير في نيويورك، أتم الله نعمته عليه فراجت تجارته، يغص مخزنه كل يوم بالناس؛ هذا ينتقي، وهذا يدفع ما عليه، وذاك يساوم ولكن على غير ما ألفناه نحن في البيع والشراء، وتلك تخرج لأنها لم تجد ما يواتيها ويناسبها، فلا يتعلق بأذيالها أحد ليبيعوها ما ليست في حاجة إليه.
فتيان وفتيات، سيدات وسادة، غلمان وشيوخ يزدحمون في ذلك البيت العظيم، يكادون يتدافعون بالمناكب لولا ما تواضع عليه القوم في تلك الديار، وما عرفوا به من الكياسة والتؤدة في آداب الاجتماع، فلا تكاد تسمع ضوضاء في المخزن، فحديثهم كله وشوشة وهمس أشبه بوشوشة الحلي في معصم الحسناء المتأنقة، وهكذا قل عن عمال المخزن، فإنهم في شغل دائم، والابتسامة على أفواههم، لا يتذمرون ولا يجهرون بسآمة ولا ملل، هذا يرزم البضائع ويسلمها، وذاك يعرضها ويعين أثمانها، والقائم على الصندوق يقبض ويدفع، وهكذا دواليك.
المخزن غاص بالمشترين، والمستر ه. ك. على كرسيه يستعرض شئون تجارته، ويراقب عماله غير متعمد، تارة يقبل على مدير العمل يناقشه في بعض النظريات، وطورا يجالس عميلا كبيرا يجلسه إلى جانبه هنيهة، حتى إذا فرغ من كل هذا تناول صحف النهار ونشرها أمامه يطالعها، وإذا أقبل عليه مشتر - غلطا - صرفه بلطف وكياسة إلى من يعنيه أمره.
هذه الحركة في مخازن المستر ه. ك. تتجدد ما تجدد النهار، وصاحبها ينعم وثروته تنمو.
استسمنه اللصوص فنقبوا مخزنه الذي وصفنا، وافتتحوا معقل ثروته الحصين، ذلك الصندوق الحديدي المصفح، ولا تسل كيف؛ ففي اللصوص في تلك البلاد إخصائيون حذقوا مهنتهم حتى أصبحت فنا قائما برأسه، هم دولة في قلب دولة، وقد عجزت عن مطاردتهم حكومة البلاد فقعدت ويدها مغلولة إلى عنقها، ولنا بفاجعة الطيار لندبرغ بابنه، وبما نقرأه عن خطفهم كبار الأغنياء وتغريم شركة ضمان الحياة بفديتهم - أسطع برهان.
درى المستر ه. ك. بالسرقة فتأثر تأثر راع سرقت له نعجة من مئات، فهز رأسه، وانشقت شفتاه حتى لا يدري الناظر إليه أيبتسم أم يهزأ، وكأنه قال في نفسه: «وما تنقد الطيور من بيدر كالهرم، فكل ما وقع عليه اللصوص دخل ثلاثة أيام، فقط ...»
وأذاعت صحف ذلك النهار في نيويورك خبر السرقة، فهز عارفو متانة البيت التجارية رءوسهم قائلين: مبلغ 50 ألف دولار، لا شيء.
وتطاول شبح الأزمة الراعب وتضخم، فارتعدت البيوت التجارية في الولايات المتحدة، وتناثرت الأوراق والأسهم المالية في الأسواق كأوراق الخريف الصفراء تحت أذيال العاصفة، فهلعت القلوب، ثم أخذت البيوت التجارية والمالية تتداعى واحدا بعد واحد كما يحدث ساعة الزلزلة، ولم يثبت أمام هذا الإعصار المخيف إلا الطويل العمر.
ومن هؤلاء الأفذاذ الذين صمدوا للأزمة المستر ه. ك. فإنه ظل متمتعا بالثقة حتى عام أول، ثم ظهرت الصدوع، فأخذ يسد كل عورة تبدو بما عنده من مال احتياطي، حتى عجز هذا العام فكان من المفلسين، فأوى إلى بيته قانطا.
ارتمى ذات يوم على كرسي في شرفة مسكنه المطل على الطريق، وقد أسبل دموعه ومرت في مخيلته ذكريات الماضي، فساوره الأسف وكاد يخنقه الغم، يفكر كيف ينقذ عائلته، ويود أن تبتلعه الأرض حين يرى أصحابه، ويتفتت قلبه إذا فكر بزوجته وبنيه أو أبصر أولاد الناس فرحين مرحين، كيف لا والعيد مقبل، ولعيد الميلاد في أميركا شأن عظيم، ونفقات ذات بال: هدايا للأطفال، وألبسة للبنين والبنيات، وحسنات للفقراء، وتبرعات للعيال المستورة، ومآكل فاخرة أهمها الديوك الحبشية، وزيارات ومعايدات ...
تلك ساعة أشد هولا من يوم العرض، مرت عليه، وبينا كان مطرقا كمن ألقي على منكبيه أثقل الأحمال، إذا بكلبه يتمسح به بعدما جفاه الناس وجفاهم، وما كان أشد ألمه إذ رأى هزال كلبه الأمين، وكيف لا يهزل وبنوه أصبحوا ينازعونه زاده، بعد أن كانوا يجودون عليه بألذ المآكل وأشهاها. لم يطق المستر ه. ك. هذا الموقف فأسرع إلى غرفته ليخفي آلامه المبرحة، فنام ولم يستيقظ حتى المساء، وعند الغروب عاد إلى الشرفة فسطعت الكهرباء فصيرت الليل نهارا، فلم ير صاحبنا في اختلاف النهار والليل شيئا جديدا، ماذا يعنيه من شئون الليل، فذاك عهد مضى وراح.
أجل، لم يعد يهتم إلا لقوت الغد، وقد جفاه الأصحاب والخلان، وعند فراغ الكيس يستوحش الحر.
فكر طويلا بصديق يقرضه بضعة دولارات يستعين بها على حاجات الغد، فإذا بنفسه تقول له: هيهات! فهب من شرفته كمن أهين ولا يستطيع دفع الإهانة، فتوجه شطر غرفته، فما كاد يتوسط البهو حتى قرع الباب فتعوذ، ولا أدري ماذا تمتم.
فأسرعت ابنته وفتحت الباب، فإذا بموزع البريد ينتصب أمامه كالمارد ويدفع إليه مكتوبا قائلا: «مضمون يا سيدي.» وناوله السجل.
فوقع بيد مرتجفة، وهو يظن الكتاب إنذارا من أحد الدائنين، ففضه بحنق قائلا: أيلحقونني إلى القبر؟ غدا إن شاء الله.
وانشق الكتاب عن توءمين: عاطفة نبيلة، وإكسير الحياة.
كتاب من لص حاسب ذمته، وأرضى ضميره الحي، وأثلج صدر البشرية، رأى الواجب يدعوه فلبى - والفتوة سجية - فنفح التاجر الذي سرقه من أعوام بألفي ليرة إنكليزية، فجاءت بوقتها.
أما المستر ه. ك. فما أظنه قال شيئا، بل صمت كزكريا بعد خروجه من الهيكل.
أما أولاده وزوجته فكانوا يرقصون فرحا، مؤمنين أشد الإيمان بحكاية «بابا نويل » ...
أم نخول
... قبل هاتيك الحرب
سمعت باسم أم نخول وأنا ابن خمس، فكنت أكبر ويكبر معي، إذا دبرت امرأة تدبيرا فيه صلاح لعيلتها نوهوا باسمها قائلين: «عاشت أم نخول.» وإن عز شيء في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا: «هذي أم نخول ثانية.» وإن مرت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمسون قدام الأبواب، تنحنحوا وتغامزوا قائلين: «إحم ... أم نخول.» وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأبانا والسلام؛ فالمرحوم - على قلة تقديره للمرأة - كان يلقبها أخت الرجال فيحفظ أمي ولا يبالي، بل يصب النفط على النار فيقول: «آه على امرأة مثلها!»
ورأيت بيتها وأنا ابن سبع، كنت مع والدتي في طريقنا إلى البترون، فأومأت بأصبعها إلى بيت معلق على صدر جبل وقالت: «هذاك بيت أم نخول.» فمشيت ولكن نظري ظل عالقا بذاك البيت فقلت: «وأين هي أم نخول؟» فضحكت أمي وقالت: «من يعلم؟ أشغالها كثيرة.» فقلت: «حجارة بيتها بيضاء.» فقالت: «عجل يا صبي، امش، هذا كلس.»
لم يخرج كر السنين ذاك الاسم من رأسي، بل قامت إلى جانبه صورة بيتها، وسمعت عنها أحاديث أغرتني بزيارتها، ولكني تهيبت العقاب القائمة دونه. وأخيرا، ولا أدري كيف ... رأيتني على مقربة من بيتها، وكلبها «غبار» يستقبلني استقبالا صارخا كان له النهر والأودية والكهوف كمضخمات الصوت، لو كان «غبار» وحده لاتقيته، ولكن أسرته الكريمة معه، وكانت أشد احتفاء بي منه، تسمرت في مكاني أنتظر العون فإذا براع صغير يصيح من ورائي في الجبل المناوح، ويسألني أين أقصد، فأجبته وركني - خشية الكلب - أزور، فصاح الولد على البيت فردت عليه أنثى بصوت يسمعه من هم على الشط، وما عتمت أن انتصبت بالباب، فقال لها: «ردي الكلاب.» فأجابته: «ما عليك، انتبه لعنزاتك.» ثم نادت قائد الكلاب باسمه، ففهم عنها ولف الذنب الذي كان لرأسه إكليلا، وعاد وجيشه.
وجدتني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة، لا ضخمة ولا هزيلة، لا جميلة ولا قبيحة، لا صبية ولا عجوز، تعصب جبهتها بقدة سوداء، وتلف رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم، تلبس فسطانا منتفخا على كتفيها كأن هناك رمانتين، قماش كثير من الزنار ونازلا، فكأنها خابية من خوابي بيت شباب.
وقبل أن أبلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل، بعضها مؤزر بشباك ترد عنها الطير فلا تفسد ثمارها، وعلى رءوس الغصون الشامخة جماجم غنم ومعزى، وقشور بيض مرفوعة على قصب مغروز في الأرض، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه، كأنها سمات أوسمة منحتها أم نخول أشجارها المتفوقة في الحمل، تمائم وتعاويذ تتقي بها عيون الحساد فلا تصيب مزروعاتها. أما الأوابد فلها دواء آخر: هنا نطار على هيئة رجل، وهناك لعين بشكل امرأة، أشكال وألوان تقشعر لرؤيتها جلود البشر، فكيف لا تفزع ابن آوي والعصافير! خلتني وأنا مار بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن، وكلهم فظ غليظ القلب.
وحدجني «غبار» بعينه المحمرة، وكشر عن أنيابه البيضاء، وتحسحس كمن يريد الوثوب فقالت له: «غبار، سد بوزك، هذا ضيف.» فتبدلت ملامحه في الحال، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني، فقالت لي: «لا تخف، أهلا وسهلا.»
وغابت ثم آبت وفي يدها كأس، فشربت شرابا استطيبته جدا حتى قلت: «طيب شرابكم.» فقالت: «الليمون بلدي، والسكر بلدي، والماء من رأس العين، وأنت عطشان.»
فضحكت ضحكة فيها تعجب وحيرة، وقلت: «وكيف يكون السكر البلدي؟» فقالت: «نحن نعقده من قصب المص، السكر غال والعصير يمد أكثر وهو ألذ.»
فقلت في نفسي: «هذه إحدى عجائبها، إنها هي.» واستولت أم نخول على المبادرة فأجبتها: «شاب من الجيرة سمعت باسمك، جئت أتعرف بك.»
فقالت بتعجب صادق: «باسمي أنا؟» - «نعم، باسمك أنت.» فسكتت وشاع الابتسام في وجهها قبل أن تقول: «طيب يا حبيبي، شباب كثير في الجيرة، فمن أنت منهم؟» فقلت لها: «فلان ابن فلان.» فتنهدت ورحبت.
ودخلت علينا صبية لا تعلم أني هناك، فارتدت مذعورة فقالت لها أمها: «منا وفينا.» فتقدمت وسلمت علي تسليم من تستلم حيط الكنيسة، وخرجت بعد أن تلقت أمر أمها بإيماءة لم أفهم معناها إلا عند الظهر.
أما أم نخول فقالت : «ترانا اليوم مهموكين بتقميع اللوز وتشميسه، وغدا لم التين وقطاف العنب، وبعده الزيتون وعصره، الحياة كلها شغل.»
فقلت: «بيتكم منفرد، ألا تضجرون وحدكم؟» فضحكت لأول مرة ضحكة عامرة وقالت: «ما عندنا وقت حتى نضجر.» فقلت: «أنت مستأهلة هذا الصيت يا ست أم النخول.» فجادت بربع ابتسامة وقالت: «ستك العضرا يا روحي، كلمة ست صارت رخيصة في زمانكم.»
وانقطع الحديث، فخلت أني أسأت إليها، ولكنها قالت: «فكري قال لي إنك مأمور حكومة، فأخذت حذري منك.» فقلت لها: «والحكومة تفزع!» فأجابت: «لا، ولكن ضرائبها تخوفنا، الحكومة ملح الأرض ولولاها ما كنا نعيش في لحف هذا الجبل، سمعنا عن الباشا الجديد أنه حط ضرائب على البقر والحمير والدجاج، أخبار لا تصدق.» - لا تخافي يا عمتي، احكي لي عن أحوالكم، عن المواسم عندكم.
فقالت: «أية مواسم تريد؟» وأخذت تعد على أصابعها: «الحرير وسط، والدخان مليح، واللوز عال، والتين ممتاز، والعنب كسر المساميك، والزيتون أكثر مما كنا ننتظر؛ سنة خير، المرعى بحر والمواشي شبعانة، والأسعار لا هي شرف ولا هي طرف.»
فقلت: «وأنت كيف؟» فأجابت: «مثل الناس، ولا باس.» فقلت: «قالوا لي عندك تسعة أولاد.» فأجابت: «وأنت الصادق، عندي عشرة، أربع بنيات وستة صبيان لألله.» - إذن عيلتكم دزينة.
فأجابت: «وعمي وحماتي.» قلت: «إذن بيتكم دير.» فهزت برأسها وقالت: «وأي دير!»
فقلت: «وكيف تعيشون؟» فقالت: «من الأرض، في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل، انظر البيت خال، واحد مع المعزى، والثاني مع البقر، والثالث يكاري، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ، والبقية لأشغال البيت، وأنا للحياكة والخياطة والترقيع.»
قلت: «ترتاحون في أيام الشتاء.» فابتسمت وقالت: «ومن أين لنا الراحة! أنا والبنات نغزل ونسدي للحياكة في أيام الشتاء، والرجال للزرع والقلع، من لا يزرع لا يشبع.»
قلت: «وكل هذا من أين؟» فأجابت بنبرة: «من أين؟ من الأرض يا حبيبي، من الأرض، الله يبارك فيها.» قلت: «والخيطان من أين؟» فأجابت: «من صوف الغنم والشرانق، والقطن من البترون، لو كان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي البرية.»
ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت: «هذا جهاز البنات.» ثم أرتني نولها باسمة، وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن، وبراني السمن والعسل، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس، وبتيات العرق، وأخيرا أرتني صيرة المعزى، وقبو البقر، ودلتني على قن الدجاج والأرانب.
قلت: «وهل أملاككم واسعة؟» فقالت: «بين بين، ولكن الشغل متواصل، والزبل كثير، وشريك الماء لا يغلب، عندنا مائة رأس معزى وما فوق، عدا الغنم، وراءها السنة أكثر من خمسين جديا، وعندنا ستة رءوس بقر، وعندنا يا سيدي الأكرم دابة مثل البغلة، خلفها جحش يسوى نوم العينين، حلو حلو أكثر مما تتصور.» والتفتت نحو الأرض وقالت: «هذي الأرض نقبها أبو نخول العتيق، عاش فوق المائة، ما دخن ولا شرب أبدا، كان أغلب شغله في ضوء القمر، كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون، نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه، الفواكه لا تنقطع، عندنا من كل شيء حتى الأدوية من أعشابنا، الكينا قنطاريون، والمساهل دبس خروب، قال الله لا تكذب؛ لا نشتري إلا حبة الرز، الأحد مخصص للملح وصيد السمك.»
فقلت: «والسكافة يا أم نخول؟» فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود، فقلت: «والعلم؟» فهزت كتفيها وقالت باستهزاء: «تقبر العلم، جارنا علم ابنه وعرفنا النتيجة، تعلم أولادي القراءة والكتابة والحساب وهذا كاف، المدرسة مجانا من كيس الوقف.»
ونوديت من خلف الستار فلبت، وفيما هي راجعة دق جرس الظهر فوقفت «تبشر» حيث كانت، ولما أنهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت: «تفضل، الغدا حاضر.» فاعتذرت منها، فعزمت علي وقالت لي: «بيننا وبينكم خبز وملح، لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن أختي.»
وتغدينا دجاجا وأرانب وبيضا ولبنا وأكثر خضرة الوقت، وكان الحلو عسلا وقريشة وفواكه متنوعة، أما شرابنا فنبيذ عتيق.
وانصرفت قرب العصر أردد قول المثل اللبناني: «فلاح مكفي ملك مخفي.» ورأيت أبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة، فذكرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الوراق التي قال فيها ابن الرومي:
كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترن إن قرعت أرجاء بغداذ ... بعد هاتيك الحرب
خوى عرش الملكة المخفية فزرت القرية المعلقة مرة ثانية، بهت إذ وجدتني قدام باب هامد كان بالأمس نباضا كقلب العصفور المروع، البيت بلا سكان كجسم بلا دم، والوقوف عنده وعند المقبرة سواء بسواء، كان الجاهليون على حق إذ بكوا على الطلول، فخراب البيوت كموت الأحياء، كان بيت أم نخول دنيا عامرة مؤنسة فإذا به اليوم كهيكل مهجور، لا كلاب تعزف فتنفخ روحا محييا في ذاك المحيط الأعزل، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونها البريئة الحلوة، لا ثور يخور ولا جدي يمعو، ولا حمار ينهق ولا هرة تموء، سكون راعب ناء بكلكله على ذلك البيت كأنه ليل امرئ القيس.
الشجيرات الغضة الشباب نحلت واصفرت فهي قائمة حوالي البيت كالمسلولين يتفرجون حول المصح، والعرائش سقطت عن أرائكها فهي مبعثرة هنا وهناك كأشلاء المحاربين بعد المعركة، الأرض بور منذ سنوات فسيطر الشوك على مملكة أم نخول، فبدت كالحسناء في الأطمار.
دققت الباب دقة يائس فما رد علي أحد، ودفعته فانفتح فخلتني أمام باب قبر، البيت الذي كان لماعا مصقولا كترائب أم الرباب، أمسى منكوتا كأنه وكر قنفذ تنبعث منه روائح العفن وقد فارقه صفاء القرية النقي.
في أرضه الزبالة وعلى حيطانه ستائر من نسج العنكبوت، والرتيلاء تروح في سقفه وتجيء كأنها أم نخول حين كانت تسدي، لم أسمع حس أحد في ذلك البيت القاتم الأعماق، الخالي إلا من الذكريات الصامتة، فصحت محدثا نفسي: «وأين هي أم نخول؟» فإذا بصوت يقول: «من؟» فالتفت حيث نجم الصوت فرأيت في الزاوية الغربية الشمالية لحافا يتحرك، وامرأة تصلب على وجهها ثم تقول: «تفضل، أهلا وسهلا.»
وبعد تسليم شرحه طويل جلست قبالتها على كرسي يصوصي تحتي ويقوقي كلما تحركت، فأحكمت جلستي معتمدا على ركبتي أكثر من اعتمادي على تلك الخشبات المفككة، وقلت لها: «عرفت من أنا يا أم نخول؟»
فتفرست بي بحدقتين منفتحتين وقالت: «أمهلني.» وطالت المهلة فقلت ممهدا طريق المعرفة: وأين «غبار» يستقبلني ذاك الاستقبال الراعب؟ فضحكت وأجابت بحسرة زادتها ابتسامتها الفاترة وضوحا: «مسكين غبار ! راح مع من راحوا.» وأطرقت تعصر صدغيها بيسراها، أردت أن أكفيها مئونة الجهد وأعرفها بي، فأومأت بجمع يدها أن أمهل، فقلت لها: «لا تكلفي نفسك يا خالتي، يستحيل أن تعرفيني، الدنيا تغيرت، ونحن تغيرنا معها، فكيف تعرفينني؟»
فأجابت: «عرفتك، عرفتك، أنت جئتنا منذ عشرين سنة، نعم نعم، أنت كبرت ونحن شخنا، لا تحسب أنا نسيناك، زيارتك تاريخ للضيعة، كيف حال الوالد؟»
فقلت: «وهبك الله عمره.»
فأجابت: «والقائل: من خلف ما مات.»
والتفت فعلق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها، وهو رف عليه بضع صور وصليب، كسوته من حياكة أم نخول وكشكشه شغل صنارتها، ودخلت بنية في يمينها إبريق فراعني تطرف الدهر في جوره على هذه المرأة النفيسة.
وعقب الشرب سكوت كصمت المعزين في الخطب المدلهم، قالت: «هنيئا.» وتنهدت وأطرقت كأنها تتذكر الماضي، وأجبت: «هناك الله.» ورحت أفتش عن كلمة لا تثير ذكرى، فما حضرتني واحدة، ولكن أم نخول استولت على الكلام فقالت: «تأمل، أين كنا، وكيف صرنا.» وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم وجنتيها، تمرمرت قليلا ثم قالت: «انفخت الدف وتفرق العشاق، راح جمهور البيت الذي سميته ديرا، ما بقي إلا قريد العش - تعني أصغر أولادها - دب الفنا فينا، ما بقي عندنا شيء يدب على الأربع. بلى، عندنا دابة يكاري عليها الصبي لأنه قليل الجلد كثير الحكي، إذا قلت له حس الدابة ضحك واستهزأ، وتمغط ربع ساعة قبل الوقوف.»
فقلت: «وأين بقية العيلة يا أم نخول؟» فأجابت: «الكبار في ديار البلى، والصغار تاهوا في البلاد.» وشرعت تتوله وتبكي، وبعد دقائق قالت: «قصتنا قصة طويلة، راحوا كلهم وبقيت وحدي مثل البومة العميا، آخرة شنيعة، لا تقل خرفت أم نخول، عشنا مدة الحرب بألف خير، الناس باعوا ما فوقهم وما تحتهم ونحن اشترينا، وبعد الحرب دار الدولاب بالمقلوب، بعض الناس قال حسد، وبعضهم قال إصابة عين.» وسكتت، فاغتنمت الفرصة وقلت: «وأنت أيش قلت؟» فقالت: «أمهل يجئك الخبر.» وأخذت منديلا كان عند مخدتها ومسحت به دموعها، ثم أحكمت جلستها وقالت : «انتهيت الحرب وتغير كل شيء، أولادنا كانوا طوع والدهم فصاروا يردون الكلمة كلمتين، أعجبتهم عيشة المدن، كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نطعمه لقمة، فترك الضيعة بعد الحرب ورجع إليها كأنه خواجا، لا يحكي إلا عن المغنيات والرقاصات - حاشا قدرك - فأفسد واحدا من أولادنا وأخذه معه، أما البقية فقضوا الأيام متكرهين ومتذمرين، ذاقوا طعم ركوب السيارات فاستخفوا بالدواب، استنكفوا من رعاية المعزى وكرهوا البقر، صاروا متزنترين، فبعنا الطروش - الحيوانات الداجنة - أنفقوا كل ما جمعته أم نخول، والقلة تورث النقار، فصار بيتنا مثل جهنم الحمراء، حديثهم الدائم: فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا، وفلان أفقر أهل الضيعة وثيابه جوخ وحرير شغل البلاد - تعني أوربا - ونحن نلبس من حياكتك! - الله الله من الأيام، فضلوا الشيت والمقصور على الحرير لأنه حياكتي - ابن فلان مستريح أكثر منا لا يمشي ربع ساعة ونحن نقتل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر، قنطار الحطب عندنا بربع ليرة، وعند غيرنا بليرتين، إجاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقط تحت أمه، الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نختار كيف نصرف حاصلاتنا. راحت الأيام التي عرفوا فيها قيمة الزبل، كان عندنا ولد يحب الأرض، أخذه عزرايل، مات موتة بشعة، أبعدها الله عن كل محب، كان يحطب لوليمة أحد التهنئة فهيأ حمل حطب وحزمه بالحبل، وبدلا من أن يحمله خطر له فكر كان سبب موته، دفر الحمل برجله من فوق صخر علوه عشر قامات، فعلق الحبل برجله وسقط مع الحمل إلى الوادي، وصار أحد التهنئة مناحة، البنت التي سقتك هي بنته.»
وطفقت تنوح وتبكي زهاء ربع ساعة، فحاولت أن أحول مجرى الحديث فصاحت: «لا تقاطعني، أنا ألتذ بالبكاء كما يلتذ غيري بالغناء والرقص. وأبو نخول، يا حزني عليه، عضته حية فحملناه إلى جسر المدفون لنعالجه في بيروت فمات في بعشتا، مات بعد ابنه بتسعة أشهر، ليته مات قبله! كان استراح من مصيبته فيه، آخر ولد ترك الضيعة منذ شهرين، قدمنا وأخرنا فما نفع الحكي، خبروني أنه يخدم في لوكندة، تأمل ضعف العقل، كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيرا للناس، وهكذا تم فينا قول المثل: راح الرزق مع أصحابه.» - ومن أين تأكلون اليوم يا أم نخول؟ - من ظهر الدابة، أجلك الله. كنا نشبع جبيل والبترون من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر، ما بقي من العمر أكثر مما مضى، ولكن يقول المثل: «تموت الدجاجة وعينها بفراخها»، عز علي خراب بيتي قدام عيني.
وأخذت تتفجع ولا تدري من تلوم، ثم هدأت ثورتها بغتة وشرعت تبدي نظرات عمرانية اقتصادية، لو عمل بها الناس لصارت كل قرية جنة، ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة، أيام كان بيتها يضيق عن غلة أرضها، فعلقت تعدد عقاراتها قطعة قطعة، وتتفجع على مواسمها واحدا واحدا، وتصفق على ركبتيها توجعا والتياعا، فنهضت إذ ذاك فقالت بانكسار: «اقعد.» فاعتذرت، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت: «كل مصائبي هينة عند خروجك من عندنا بلا أكل، آخ من الأيام.» ثم تنهدت وقالت: «ما لك جود إلا من الموجود، لا توآخذنا.» وما بلغت الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه بكاء: «رد الباب خلفك.»
وبلغت التينة التي رأيت تحتها أبا نخول بين أولاده فإذا هي معصفرة الإزار، بعد أن كانت كعذارى دوار، فخطرت في بالي كلمة قالها جبران: «مصيبة الأمم في من لا يستنبت بذرة، ولا يرفع حجرا، ولا يحوك ثوبا.»
وانتصبت قبالتها كلمة قالتها أم نخول في بحثها العمراني: «ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها، ومن أين يأكل الحكام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلما خرب بيتنا؟»
وفي صباح اليوم التالي دق جرس القرية المعلقة حزنا على ربة الحقل، ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمن سبقوها إلى ظل السنديانة العظمى.
صلاة نائب
استيقظ النائب ضحى الإثنين، فانتصب كالنبي بعد هبوط الوحي، والبستاني على أثر ركود العاصفة، أحب أن يذكر الله في تلك الساعة، وكيف لا يذكر ربه وقد صار نائب أمة يكتب كتابها لمن شاء، وإن لم يستطع ما فعل الفرزدق ... أجل أراد النائب أن يصلي - والنواب كالناس يصلون في الإزم - فلم يقل: اللهم ... حتى قرع ناقوس التليفون، فتناول اللاقطة وأجاب: نعم، نعم، أنا. - صبحك بالخير. - أبو نجيب، الله يسعد صباحك. - كيف الحال؟ - هاه، عال! - يا سيدي، القضية التي عرضناها لك ... - أية قضية؟ - نسيتها؟ - لا لا لا، تذكرت، بهذين اليومين إن شاء الله ... - بحياة جنابك، نحن متكلون عليك. - على الله يا شيخ ... وغير هذا؟ - رضاك وتوفيقك. - الله يحفظك، مع السلامة.
وعاد النائب ليصلي، فلم يقل اللهم أعطنا خبزنا ... حتى دخلت خادمته ملهوفة تعلن مقدم أحد الأعيان، فتلملم وخف لاستقباله، فإذا به يجر وراءه وفدا، فحيوا النائب الجديد وحياهم وهنئوه فشكر لهم، وأديرت عليهم كئوس الشراب فانتدبوا لها بعضهم؛ لأن الخادمة لا تعرف التقاليد، فأخذت الكأس تروح وتجيء بضع دقائق بين: «أستغفر الله.» و«تفضل أنت.» و«هذا لا يصير.» أما النقل فتناولوه محافظين على الكياسة جهدهم، والتفت قيدومهم ليغمز الخطيب فيتكلم، فإذا به لا يراه، فتغمغم وخرج في طلبه، وما عتم أن استرضاه وعاد به وأوقفه في وسط القاعة خطيبا، فأدى خطابه أداء صالحا، وتبرنس النائب بأطول منه ... كما قال بديع الزمان، فصفق الوفد وأجاب النائب واعدا بتحقيق الأماني والوعود ...
وقدمت القهوة فترشفوها، وبعد أن قال كل واحد منهم ما جاء على لسانه لئلا يرمى بالعي، انصرفوا وشيعهم النائب إلى البوابة، وعلى ثغره ابتسامة مسخرة.
وعاد النائب يصلي فلم يقل: ساعدني يا رب على خدمة البلاد ولو عشت بالتقتير ... حتى انتفض لأن التليفون يدعوه، فانفتل عن صلاته متأففا، ظن أن أحد أنصاره يدعوه ليذاكره بحاجة - وصاحب الحاجة أرعن - فإذا به غير من ظن، فاستوى مهابة كأنه في حضرة المتكلم ناسيا أنه يخاطبه تلفونيا وقال: نعم ولدكم ... يا سيدنا ... مستعد يا سيدنا ... نعم سيدنا ... تأمر ... الآن ... أمر غبطتكم ... نعم. وختم الحديث بالتماس البركة الرسولية، فمنحها من صميم الفؤاد.
واستعجل النائب خادمته بوقف سيارة مقفلة نظيفة، وأصلح ثيابه وخرج، فما بلغ البوابة حتى أرجعته ابنته إلى التليفون. - نعم. من، من؟ - أنا.
فزرر رداءه احتراما وقال: عفوا، فخامة الرئيس ... محسوب فخامتكم ... نعم، أمر فخامتكم. وظل يهز رأسه ويهمر بنعم، نعم، نعم ... إلى أن ختم كلامه بقوله: حاضر يا مولانا.
وما ألقى اللاقطة حتى كان في الشارع، فأطل وفد أطول وأعرض من الوفد الذي شيعه منذ هنيهة، وبعد السلام والمصافحة لبعضهم اعتذر لزعيمهم أن فخامة الرئيس وغبطة البطريرك يستعجلان حضوره إلى ناديهما، وأنه سيعود بعد قليل، ودعاهم جميعا ليتغدوا عنده، ثم ودعهم قائلا: البيت بيتكم ... ومضى.
واستحال البيت إلى حانة شرب وقصف، والنائب يطوي الطريق إلى القصرين.
وعاد إلى البيت وقد أدركه الليل، فسأل عن الجماعة فقيل له: تغدوا وراحوا.
فأوى إلى غرفته تعبا منهوكا، ولم يخلع معطفه حتى قرع الباب وانشق عن زميل كريم قال: يا هو، كيف حال الوفود عندكم؟ - العاطفة طيبة، والثقة كبيرة. - والخطب؟ ... والمطالب؟ - هي هي، كل الدنيا مثل بيتك. - أنت عندك من هذه البضاعة، أما أنا ... الله وكيلك مونشير، لا أعرف الألف من «المئذنة». - تمرن، أنت قادم على جلسات حامية الوطيس. - وطيس ... أيش الوطيس؟ - يعني جلسات حامية. - أوه، الآن فهمت، بحياتك قل لي ... والنتيجة؟ - لا تحمل السلم بالعرض. - ماذا قال لك فخامة الرئيس؟ - كما قال لك. - والبطرك؟ - كما قال لك. - وسيادته؟ - أيضا. - والرئيس وال ...، وال ... - كذلك. - وما العمل؟ - ... - إذن قم. - إلى أين؟ - ألست مدعوا؟ - بلى، بلى، كنت نسيت.
وشبكا أيديهما وخرجا. •••
ورجع النائب إلى بيته مجهودا بعدما هدأت العين والرجل، فإذا بأحد «المحترمين» في الانتظار، فحيا بالاحترام وتجلد وجلس، وأخذ المحترم يدل عليه في حديثه، ويريه كيف جاهد وجمهوره ورعيته يومي الانتخاب، وكان النائب يسمع بخشوع، وبعد القهوة تحلحل المحترم للانصراف، فقال له النائب: ابق الليلة عندنا. فاعتذر له، وفي طريقهما إلى الباب ساق المحترم الحديث فقال: لا تنس شعبة طريق ... فهذه حياة الدير. - نعم، ولكن ما رأي قدسكم لو شقت من الجهة الجنوبية فتمر بقرى ومزارع فينتفع أهلها المساكين ... والطريق كما فهمت صارت على باب الدير تقريبا، وهؤلاء محرومون. - نريدها على باب الدير تماما، فالزوار - نشكر الله على هذه النعمة - مثل الجراد، كلهم يتذمرون من مشي خمس دقائق . قال هذا ماشطا لحيته المقنفشة بأصابعه وضحكت سنه.
فهز النائب رأسه مذعنا، وجر المحترم حديثه إلى ثلاث أربع قضايا فقال: لا تنس المختار فهذا من غير حزبنا، والناطور كفوا يده لأنه حشد لكم في الانتخابات، فاسع جهدك لتبرئته، أما مسألة البلدية فإلى وقتها و... و... وكان النائب الصادق يحرك رأسه كالحرذون، وظل يفعل كذلك حتى توارى المحترم.
وخلا النائب في مخدعه وتجرد وقعد في فراشه، فذكر الصلاة التي لم يتمها فقال مع بشار: «الذي يقبلها تفاريق لا يرفضها جملة.» وأخذ رأسه بيديه وصلى:
الشكوى لغيرك مذلة يا الله، فلتبق في القلب تجرح ولا تخرج من الفم فتفضح، انظر إلينا يا كريم.
استكثروا راتبنا فاقتضبوه حتى مسخوه، فلا ينطوي الشهر وينشر كشف النفقة حتى ترانا مكثورا علينا.
الشعب يصرخ اصلبوه، ونحن نردد: اقتسموا سلطتنا بينهم، وعلى راتبنا اقترعوا.
أيكون راتب النائب أقل من راتب كاتب البلدية يا الله؟ وعلى هذه الغضاضة أغضينا وقلنا خير من «اللاش».
في هذه السنين الضيقة، وإذا لم نكن نحن للوطن فمن له؟
فنظرة يا رب من أعالي سمواتك تنبت الحنان في قلب العميد، والتفاتة من عليائك تمدد سلطتنا المقرفصة، فنبيض وجهنا ونحقق ولو شيئا من آمال منتخبينا.
رد عنا يا الله الوجوه المقرفة الملحاح التي تتبعنا كظلنا، وتزعج مجالسنا أين كنا، يقولون إننا لا شيء، ويطلبون منا كل شيء.
ارحمنا اللهم، ووقنا عسرات السياسة يوم انتخاب الرئاسة.
اللهم لا تدخل عبيدك النواب في التجارب ... ونجهم من حل المجلس، وخلصهم من ألسنة الجرائد.
آمين!
وما انتهى حتى أغفى، وظل يغط في نومه حتى الصباح.
واستيقظ ضحى الأربعاء فإذا بالقصاب بالباب، فقال: العمى أقبل الضوء يا خليل، يا فتاح يا عليم ...
فأجاب خليل بسذاجة: حمي النهار يا بك.
فتأفف النائب بين الجد والهزل وقال: آخر الشهر يا خليل، آخر الشهر.
ثم ضحك ضحكة مكروب - وشر البلايا ما يضحك - وقال: شباط 28 يوما يا خليل. فقال القصاب: وما عليه لو كان أربعين، أنت في العب يا سيدنا. وضحك ضحكة بلهاء وانصرف.
وزال الكابوس عن النائب، فاغتسل وامتشط وهندم قوامه وخرج يتوكأ على عصاه، فهو على موعد مع مدير إحدى الشركات ...
وعظة وديك
كانت الحرب التي مضت حربا مفترسة، غرزت أنيابها في القرية اللبنانية فأثخنتها الجراح، فهاتيك البيوت المتهدمة أفواه من جماد تشهد أن البشر أشد فتكا من إخوانهم في اللحم والعظم.
كنت عام المجاعة - 1917 - في قرية من جرود كسروان أقوم بعمل حكومي، فدهمنا الميلاد فيها، وكان لي في تلك القرية صديق جمعتني وإياه مدرسة الحكمة سنتين، ثم تفارقنا وانقطع الحبل، صار صديقي حارثا في كرم الرب، وتهت أنا كما أراني حتى الساعة، كان صاحبي متمسكا بدينه لا يقبل فيه الجدل، شعاره: «من تمنطق فقد ترندق، الإيمان وكفى.» وإن أحرجته تجمعت أصابعه وصارت يده دبوسا أقطع من برهان ذي حدين ...
بلغ صديقي نبأ قدومي «السعيد» فأرقل إرقال الجمال المصاعب، وأقبل علي بلحيته الوارفة فقال رفيق آخر: احزر من هو؟ فأنكرت منه كل ما كنت أعرف، ولم تنحل المعضلة الكبرى إلا حين تكلم وابتسم.
حبسنا الثلج في تلك الضيعة أياما، فكان صاحبي في أثنائها يتصرف بي كما يتصرف في عقار ورثه عن جد جده: ارحم فلانا فأرحمه، وفلانة أرملة مقطوعة لا تجعل عليها ضريبة وارمة فنأخذ من الجمل أذنه. - مارون، غدا عيد الميلاد، أتسمع وعظتي؟ - وعظتك أنت، أنت تعظ؟ - نعم، ووعظا يرضيك. - حسبتني نسيتك يا زيدان. - أنت مغشوش، تندم إذا لم تحضر. - غيابي وأندم خير من هلاكي بالبردين ...
والتفت فإذا بأصابعه تتجمع فأخذت حذري، فضحك وقال: يا سبحان الله، ما زلت كما كنت. تسمع ما يرضيك إن حضرت، كنيستي ليست كاتدرائية ولكنها خشوعية قديمة من عهد الفينيقيين، فيها رهبة ونور ضئيل، تلهم أشياء أشياء.
قلت: إذا يتضاعف هم القديس هيرونيموس في كنيستك. ورأيته لم يدرك ما عنيت فضحكت وقلت: الكنيسة معتمة ... فأجاب وهو يزعزعني بيديه كأنه يقلع توتة: والقسيس أعمى، احضر يا مارون، واحك ما تريد.
ودقت أجراس القرى تسبح الله نصف الليل، وقرع جرس كنيسة صاحبي فتغلغلت في فراشي وقلت في نفسي: أعتذر له بغرقي في النوم، ولكن صاحبي لم يحل عن عهدي به فجاء بنفسه، وفتح الباب وهو يقول: المجد لله. فقلت: وعلى الأرض السلام.
فقال: «قم، بلا طق حنك، لا سلام ولا رجا صالح لك، أنا عاجنك وخابزك.»
وساقني أمامه.
حقا إن كنيسته - كما قال - تلقي الرعب في القلوب نهارا، فكيف بها في تلك الليلة القاتمة الأعماق، والثلج على سروات الأشجار كما قال الفرزدق، لم يضئ بها غير فانوس، ويا ليته جاحظ الفتيلة كمصباح راهب امرئ القيس! ولكنه كقنديل بخلاء الجاحظ ... حاول أحد الشمامسة أن يوقد بضع شمعات فزجره الخوري إبراهيم مكتفيا بشمعتين عسليتين، ورفل في ثياب التقديس المزركشة وأسرع في تلاوة قداسه، فبلغ الإنجيل برفة عين، فقلت في نفسي: عافاك يا خوري إبراهيم، هذا قداس! والتفت صاحبي صوب الشعب منكسر الطرف، وبعدما فرك يديه قال:
يا إخوتي المباركين!
عيد الميلاد هو عيد ولادة البشر كل عام، كما قال الرب يسوع لنيقوديمس: الحق الحق أقول لك، إن لم يولد الإنسان ثانية، فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله.
فأجاب نيقوديمس: وكيف يمكن هذا؟ فأجابه الرب يسوع: أنت معلم إسرائيل وتجهل هذه؟ أتعلمون ماذا أراد المعلم؟ إن المعلم يريد أن نولد بالروح، أن نولد بالرجاء، أن نولد بالمحبة، أي أن نولد كل عام بتعاليمه، ولو تحققت هذه الولادة لما كانت هذه الحرب العالمية.
إن هيرودس وبيلاطس وقيافا يبرزون كل عام إلى الميدان ليحولوا دون هذا الميلاد كما أرادوا قتله في ذلك الزمان، يريدون إطفاء سراج الإنجيل الذي خلق عالما جديدا، لا أدري ما أقول عن الهيرودسيين والبيلاطسيين أعداء السلام المسيحي الذي ولد في مثل هذا اليوم، الذي لا حياة للدنيا بدونه.
لا أحدثكم عن يسوع الإله، بل عن يسوع ابن الإنسان، فأقول لكم إن عيد ميلاده هو عيد ميلاد حقا، ولحكمة فائقة جعلته أمنا الكنيسة المقدسة في هذا اليوم. إن الطبيعة التي قال لها كوني فكانت تولد اليوم، أليس الشتاء كالميلاد، والربيع مثل الشباب، والصيف كالكهولة، والخريف مثل الشيخوخة؟ أليست الشمس تولد اليوم من جديد فتصعد إلى أعالي القبة، وكذلك النهار فهو ينمو مع السيد، ومعنى هذا ميلاد النور والحق والحياة.
ثم التفت نحوي وقال كالمتوجع: آه من البشر! كل شيء يتجدد مع الميلاد إلا الإنسان، الإنسان لا يريد أن يولد مع المعلم، لا يريد أن يفهم معنى الميلاد الحقيقي، إن الحيوانات كانت أرأف بالطفل من البشر، الحيوانات أعطته كل ما تملك، ومن كل قلبها، أعطته جزءا من نفسها، أي حرارة تدفئه، بينا ملوك العالم أي المجوس أعطوه من فضلاتهم، مرا وذهبا ولبانا. نعم، إن سجود هؤلاء الملوك السحرة له هو اعتراف بعهد جديد، عهد حرية بني الإنسان، عهد تغلب الحق على الشعوذة، ولكن ما حاجة يسوع إلى ذهبهم وهو القائل: يا بني أعطني قلبك. إن زعماء البشر أعطوه المال الذي أبغضه وداسه، ولم يعطه من قلبه ونفسه إلا البهائم، فكانوا خيرا منا. الحيوان يكتفي بقتل حيوان، أما الإنسان فيقتل إخوانه جملة ولا يكتفي، ألا ترون هذا بأعينكم، أما ندفن كل جمعة أربعة خمسة؟
يا إخوتي، تعلمون لماذا سمى يوحنا الحبيب الطفل يسوع كلمة الله، إن في ذلك سرا عظيما، فالكلمة هي سر السلام، سر المسرة، سر الرجاء الصالح، ألا يقول المثل: من وطأ كلمة وطأ جبلا؟ ولو نبئت كلمة الله في قلب هيرودوس وبيلاطس لما كان الشر الذي نلقى غبه اليوم.
إن الطفل الذي نحتفل بعيد ميلاده اليوم هو الدائرة التي تضم في قلبها الإنسانية كلها، وإن خرجت الإنسانية منها أكل بعضها بعضا كالوحوش الضارية، والبرهان ما ترون وتسمعون، فكما يخلق البرق والرعد الكمأة في الصحراء كذلك تخلق فينا كلمة الله المحبة، وحيث تكون المحبة يكون الإيمان، وحيث يكون الإيمان كان الرجاء والسلام.
إن النجم الذي هدى المجوس إلى المغارة هو رمز الإنجيل الذي قاد العالم إلى ميناء السلام والاطمئنان، ويا ليت هذا النجم يطلع كل عام في سماء الإنسانية ليهديها إلى القناعة، فمغارة الميلاد استحالت قلعة محصنة بالرشاشات والمدافع والقنابل، وشجرته أمست كتلك الشجرة الهندية التي يقولون إنها تأكل البشر، وكل هذا من ظلم هيرودوس، وطمع بيلاطس، وجشع يوحانا، وأنانية قيافا، وفتور إيماننا نحن.
فيا ليت الملوك يولدون مع المسيح لتستريح الإنسانية المعذبة الجائعة العارية. إن النفوس التي اشتراها المسيح صارت عندهم أرخص من الزبل.
أيها الأحباء:
إن الميلاد يجب أن يتجدد في كل مكان، في البيوت وفي المدارس وفي الحكومات، وبدون ذلك لا تتقدم البشرية.
سمعنا أن المتحاربين يقفون القتال في مثل هذا اليوم إكراما للميلاد، ولو كانوا يولدون معه لألقوا سلاحهم تحت قدميه.
فاجعل يا ربنا وإلهنا ميلادك ميلادا حقيقيا، وأنهض الإنسانية من سقطتها، إنك أرحم الراحمين، آمين.
وانتقلنا بعد القداس إلى بيت أبينا الخوري، وفيما نحن نأكل ديك الميلاد ونشرب عليه خمرة لم يذق مثلها الأخطل، قال الخوري إبراهيم: كيف وجدتني؟
فأجبته: المحبة تخلق كل شيء حتى البلاغة، عيد مبارك.
وجه مقيت
ما رأت عيني مثله رجلا، لو تراه يمشي على الرصيف وفي يده عصا يتوكأ عليها بعظمة وجبروت لحسبته حاويا أو ساحرا من بقايا زمن عبادة العجل والأفعى، شعر مثنى ومرسل كما قال امرؤ القيس، وعينان ساهيتان تحلمان باللاشيء، وجد على الأرض منذ ثلاثين عاما فخالها أوسع مدى من دهر أبي العلاء، أسمر مربوع على كرسي خده خال أشعر تحسبه شاربا، مغتر بجماله يظن أنه فلقة قمر لو بدا لحامل في طور الوحام لجاءت ببدر لم يحلم بمثله الشعراء، يؤمن بملكوت الأدب ويرجو الخلود فيه، فهو في عين نفسه إحدى فلتات الزمان، بل شاعر العرب المسكوني.
عرفته مساء يوم معرفة وجه، فما أصبح حتى شن علي غارة عتادها حقيبة في شهرها التاسع، فيها شعر وفيها نثر، مقالات وقصص، قصائد طوال وقصار، وبالجملة فيها ما في قبوي المعد لسقط المتاع.
صاحبنا مبتلى بملاريا الأدب، ومتى نفضته البرداء يشتد هذيانه فيه. يأنس بأشياء من العلم الحديث فيخيل إليه أنه وجد حجر الفلسفة، إن رأى معازا أو بقارا أو فلاحا ابتسم له وحياه تحية صب مشتاق، حتى إذا استأنس به انهال عليه بأسواط منظومه ومنثوره، يطمع في أن تعم شهرته جميع الطبقات، فأعار الأرض اهتماما اقتداء بفرجيل، ثم وصف المعارك كهومير ليسد برأس قلمه ثغرة في جدار الأدب العربي.
تقرأ على مسامعه قصيدة لأعظم شاعر، فيفتر عن أسنان مصفرة ولثة مزرقة، ويقول بكل وقاحة: «منو المتنبي؟ ومنو شكسبير؟ أليسا بشرا مثلنا؟» يفتح كشكوله ويخرج منه أفاعي رقطاء ورقشاء دونها حيات أدهى الحواة، فتسمع وأنفك راغم، وإن تثاءبت يحدجك بعين زرقاء لو رآها ابن الرومي للزم بيته شهرا كاملا، عليك عند سماع درره اليتيمة أن تهز برأسك كالضب، وترجع كالحمام، وتنثر زهور الاستحسان عند كل نظرة يلقيها عليك، وعند كل شدة يعض عليها ... ولا تحسب أنك اتقيت شره إن فعلت فصاحبنا مغفل، يخالك طربت حقا فيتمادى حتى يؤنسك ساعات ... لا يدرك أن أحدا مشغول لأنه بطال، أدركته حرفة الأدب فلا عمل له غير النظم والنثر وكب هذا «الزفت» على رأس من يتشبث به، مؤمن بأنه من عباقرة الشرق العربي، ويرجو أن تنصفه الذرية التي تربى تربية حديثة، أما معاصروه فجلهم حساد، ومعظمهم غلاظ الأكباد.
لا يستقر إن جلس فكأنه قاعد على خازوق، فهو يتفنن في جلسته كأنه أمام مصور، وكثيرا ما يدعم ذقنه بإبهامه ويثني السبابة على شفتيه، فيغطي بها السفلى ويسند العليا.
دعاني يوما إلى زيارته وألح علي وأغراني بقوله: تعلم أن كل بلد معروف بلون من الطعام والحلويات، وأنا عندي لون ما ذقت مثله أبدا، ولا أبصرته في نومك، إن زرتني أذقتك إياه وعلمتك صنعه، فتأكله وتبيض به وجهك أحيانا، فقلت في نفسي هذا صياد ماهر يضع في صنارته ذبانة ليصطاد دلفينا ... وارتخت نفسي إذ سمعت بأكلة جديدة، ثم حسبت أنه سيحبسني عنده حتى الغداء، وأنه سيعد لي من مطهماته خيولا تجول في كل ميدان، فجئته بعد الميعاد بساعتين، تذكرت الأكلة الجديدة التي لم أحلم بها، وحياتي كلها أحلام من هذا الضرب، فهان علي سماع سفاسفه ثلاث ساعات.
كان جالسا إلى طاولته جلسة فنية، وقد نشر عليها أوراقا تخال سطورها دروب النمل على الرمل، أو أعشاش البق في زوايا بيت لم تعرف حيطانه المكانس، انقبض صدري وأحسست بما تحس به النفوس قبل الخطر والنكبات، ولكنني تجلدت وقلت: هما ساعتان ويليهما الغداء. فهب أني في حبس الدم، فما يكون مقدار ويل ساعتين ثلاث في سبيل أكلة نتلذذ بها ونضيفها إلى معجم المطبخ.
وكان رد التحية توبيخا لطيفا على تضييعي ساعتين أخسر بهما مشاهدة أسراب من عذارى الخلود، عنفني كأني غريمه، فاعتذرت بما ألفناه من أكاذيب المعاذير، زعمت له أنني التقيت بأديب آخر استوقفني ليسمعني آية فنية جديدة، فتأفف وتمتم: ما أشد غرور الأدباء! ما أسمجهم! يفلقون الناس بترهاتهم. ثم استعجل حرصا على الوقت وفتح دفترا من قطع شحيم كنيستنا، فرمقت ذلك الدفتر بمؤخرة عيني، فأدركت أنه لا يزيد عن كف، فقلت في نفسي: اللطمة بكف هينة، وقانا الله شر الكفين.
شرع يقرأ ويشرح فقلت له: لا تضيعني، اقرأ وعجل والمناقشة بعدئذ. ومضى هو في نثر درره، وسحت أنا في دنيا اللاوعي، فكنت كالأطرش في الزفة.
ودقت الساعة الثانية وصاحبي لم ينته من قراءة تحليل نفسي من قصة فتاة هجرها صاحبها وأحب غيرها، قال صاحبي: إنها كانت تفكر في مصيرها وخيبة آمالها. أما أنا فكنت أفكر بالأكلة العبقرية التي وعدني بها، لم أسمع قعقعة صحون ولا وسوسة ملاعق، ولم أشم غير رائحة أدبه ... فأدركت أني وقعت في الشرك، وتذكرت المثل القائل: إن الشقي وافد البراجم.
وانتهت القراءة، فجاء دور التعليق، فأخذ يدلني على مواضع الحسن، فيئست من حديث كليل ابن الفارض، وأخذت أتحين الفرصة للفرار وهو يسد علي الدروب، ولا يدع لي مجالا، وشاء القدر فسعل وانقطع سيل كلامه الجارف فوقفت، فأخذ يسعل ويؤمئ إلي: أن اقعد. فحييت وانصرفت لا أسمع نداء ولا ألتفت ورائي.
وبعد عامين قرع صاحبنا باب غرفتي، وكان بطني ماشيا في ذلك النهار، فدخل علي الساعة الثامنة وأخذ ينزع من كنانته الحجاجية سهما إثر سهم ويصوبها إلي، زاعما أنها فتح جديد في الأدب العربي، وأنه قرأها على أئمة العواصم فقرظوها وأثنوا عليها، وأراني خط كل واحد منهم، وفي نيته أن يظفر بشيء مني، فقلت له وقد شقني: الأدب ذوق يا صاحبي، فلو كنت شيخ أدباء العالم، وهكذا ذوقك، فإنك أفتك من طير أبابيل الرامية بحجارة من سجيل، قم عني يا أخي؛ فجسمي مهدود لا يحتمل مسهلين ... كيت وكيت من الأدب والأدباء، متى كان الأدب حقنة؟ ... ليتك تحلل نفسيتي بدلا من تحليل نفسية تلك المستورة بطلة روايتك، ليتك تدرك هذا فتكتب أروع فصل تحليلي. غفر الله لبورجه وستندال ودوستويفسكي، للطاعون مصل واق أما أنت فهيهات أن يقيني منك واق، ولو هاجرت إلى مدينة النحاس والواق واق. ارحمني يا صاحبي، وخف ربك، فعندي أولاد عيال علي.
فاخضوضر واحمومر، كما عبر أصحابنا الرمزيون، ولكنه كان أدهى مني فشن علي هجوما معاكسا، وسألني كأنه لم يسمع ما قلت: ما قولك في الكلمة؟ فأجبته جبرا لخاطره المكسور وإصلاحا لما أفسده الغيظ وارتفاع الضغط من أدبي معه فقلت: الكلمة! الكلمة بنت سفر التكوين العجيبة وهي أعظم أسرار الله، إن صدرت عن نفس خيرة كانت نعمة وبركة، وإن قذفها قلب أسود كانت لهبا أزرق يلتهم الناس كالهشيم.
الكلمة يا صاحبي، أبدعت كل شيء كان، صارت الكلمة فعلا فكان الكون، أما قال الله للكائنات كوني فكانت؟ ... ألم يقل يسوع للرياح اهدئي اسكتي، فهدأت وسكتت، ومشى على الماء؟ الكلمة وشاح الرسالة والنبوة، ودرع القواد وعدة الساسة وضالة الأديب مثلك، بها اقتاد النوابغ البشرية وبها خلدوا، فأسأل الله أن يقول كلمته، ويكتب اسمك في سفر الخلود.
واستأذنت بالخروج لاستنشاق الهواء وإفراغ ما في صدري وبطني، كنت لا أدري في تلك الساعة أهو عندي أم أنا عنده، وعدت فإذا به يخرج حية من عبه وأنشدنيها فور دخولي، فقلت: لا حول ولا ... آخر الدواء الكي. وإذا بصاحبي يستطرد من واحدة إلى أخرى، فعلمت أنه لا يحس إلا بالمساس، فقلت له: وماذا تبتغي مني بعد هذا الاضطهاد والتنكيل؟
قال: أريد رأيك.
فقلت: لا رأي لمن لا يطاع، أقسم لي بشرفك أنك تطيعني، إن هذه الرزم التي شنفت بسواها آذان أئمة العواصم، كما يعبر الكذابون، لا تصلح إلا لذلك الموضع وذاك الغرض ... فتش يا عزيزي عن رزقك، فالله يرزق من يشاء - الضمير يعود إلى المسترزق - ولئن قطع غيري لسانك بثنائه عليك فأنا أصدقك الخبر وسبني ما شئت. أنت تعتمد على عبارات معلوكة معروكة، وعلى صور أبدعها الإنسان الأولي، وتراها كما يراها غيرك ملاك البلاغة العربية، أما أنا فأحاربها، وأحفر الخنادق كل يوم لأقبرها فيها أفواجا، ليس لي رأي في المومياءات، بل أتقزز ممن ينبشون قبورها، وأكاد أتقيأ إذا نظرت إليها.
وبعد شهور حمل إلي البريد كتابا ضخما التأم بين دفتيه شمل تلك الوريقات المشئومة، وفي طليعتها مقدمة فضفاضة كفساتين راقصات النور، كتبها أديب موقر فحشاها ألفاظا ورواسم مألوفة جعل بها المؤلف من قادة الفكر وأصحاب الفتح المبين، فأوهمنا أنا ما سرينا في ظهور جدودنا إلا لنرى هذا الأديب الكبير، كما زعم المتنبي لكافور.
فقلت للذين حولي في تلك الساعة: ما أكثر الدجالين! إن زجاجة عرق من عيار ثلاثين أقل إسكارا من لقب الأديب الكبير، ويا ويل الأدب والأدباء من أشباه ابن القارح!
مهاجرة
1
فرنسيس ابن بيت توارث مشيخة الصلح منذ نشأة المتصرفية، أحب «هدلا» فزاحمه عليها الكثيرون من شباب القرية، فغلبهم ولم يثبت له في الميدان غير شبان غرباء من أبناء وجوه البلاد، فوجدوا لهم أنصارا من المقهورين الحانقين، فانشقت الضيعة حزبين، أخذ أبو هدلا حذره فكان يزرب خيول «الساهرين» عند بنته في القبو، ويشك المفتاح في زناره مظهرا نصفه، كأن لسان حاله يقول لأنصار فرنسيس: المفتاح تحت زنادي، فلا تحلموا بجز أذناب الخيل ونواصيها ... يفرغ بيته صباحا ويمتلئ مساء، فللسهرة عند البنات شروط: منها المجيء بعد المغرب، والرواح قبل الفجر، وعدم النوم في الضيعة لأنه جبن وفزع ...
إذا جاء فرنسيس ملأ أنصار مزاحميه البيت، وكبسوا عليه حتى الفجر، وإن جاء راغب آخر أقبل رجال فرنسيس بالعصي والنبابيت، وخناجر بعضهم الجزينية مشكوكة في الزنانير من وراء، وفي الناحية المقابلة من الخصر تعلق أكياس التتن المخملية المطرزة: هدايا الحبيبات إلى الأحباب.
كهرب جمال «هدلا» جو القرية، وصارت حديث الناس في بيوتهم، وفي حقولهم، وعلى العين، وقدام باب الكنيسة صباح الآحاد والأعياد، فهذه واحدة صادرة عن النبع وجرتها على كتفها، تستوقفها جارتها الواردة لتقول لها: أمس كان عندها شب مثل القمر، سبحان الخالق يا امرأة، صورة بورق.
فتضاحكت أم فنيانس وقالت: بس يا أم ضومط، نسيت قول المثل: «زوان بلدك ولا القمح الصليبي.» صحيح أن فرنسيس أسمر ولكن له هيبة السباع ...
فقاطعتها قائلة: قولي أسود ولا تخافي. فلم تعر مقاطعتها اهتماما وقالت: نعم، هو ضخم الجثة، ولكنه أنعم من الحرير. فصرخت بها أم ضومط: بس، بس، عين الحب عمياء. فتحركت أم فنيانس مظهرة الغضب، فتمسكت أم ضومط بفستانها وقالت لها: ما سمعت قول المثل: «الذي لا يتغرب لا ينال غنائم.» فرنسيس ابن أكبر بيت ولكنه مكثور عليهم.
فضحكت أم فنيانس قائلة: ومن يدريك، ربما كان الذي حكيت عنه مثل قول المثل: «الذي في الصندوق على القفا ملزوق.» ... لا تهوروا البنت، حرام عليكم يا بشر. ما لكم دين!
فاحتدت أم ضومط وقالت: شب في السوق ولا مال في الصندوق.
وامتد الحديث وطال، والجرة ترشح، فغار الماء، ومشى إلى حيث لا تحتمل أم فنيانس فوحوحت وقالت: الطبخة استوت، الميعاد بعد يومين، خميس السكارى. وما مشت خطوات حتى صاحت بأم ضومط: قولي الله يستر. فأجابتها أم ضومط: السالم لأهله. •••
وأخيرا أخذ فرنسيس «هدلا» بعد معركة حمراء أصبحوا يؤرخون بها في الضبعة فيقولون: «خلق فلان سنة شر هدلا ... وجاء سيدنا المطران إلى الضيعة بعد شر هدلا بسنة» مثلا، أما العريس الأحمر، فتنعم بزواجه وأمسى يزيد عدد أبناء آدم واحدا كل عام، ومات أبوه فاستدان ألف ذهب، وصار شيخا، فاجتمع له أمران عظيمان في القرية: زوجة «عيوقة»، والمشيخة.
وخرق في بيته يسهر على كنزه الذي لا يفنى، كان يخبر في النهار مرات كيف كعم الضيعة وأخذ هدلا، فصار يقص عليهم أيضا كيف دعس الرقاب وصار شيخا، وظل ينفق المال ولا يبالي حتى ركبه الدين، وبانت القلة في البيت فعبس في وجه أهله وزواره، وكان فرنسيس يتشبث بأطواق عابري السبيل ليعشيهم ويغديهم، فسموه مخزق الثياب، فصار يحسب ألف حساب لرغيف يكسره في وجه ضيف ما منه مهرب، وعلا عياطه في البيت، فردد خصومه قول المثل: «القلة تورث النقار.»
ورأت هدلا برودة من زوجها فتساءلت إن كان هنالك حب جديد، فكان الجواب: لا. فرجلها لا يتردد على بيت أحد، من البيت إلى الكنيسة، ومن الكنيسة إلى البيت، حقوق المشيخة محفوظة ... والتفتت حواليها فما رأت غير نسوان آدميات، وسمعت ما قال الرب يسوع يوم الأحد: «الويل للعالم من الشكوك، والويل لمن تأتي على يده.» فصلت بحرارة طول القداس، ورددت بصوت عال سمعته حماتها: يا ربي، لا تجربني. فقلبت شفتها وهزت كتفيها.
وسرى ميكروب القلة إلى الأولاد، فهدءوا وصمتوا، وصارت هدلا تكاد تشمئز حين تنادى: يا شيخة!
ودخل البيت يوما دائن ملحاح، فتجهم وجه فرنسيس؛ كان يغضب لأقل حركة يأتيها بنوه، حتى صفع أصغرهم على هفوة فانطبعت أصابعه الخمس في خده الطري، فاحتجت هدلا على فظاظة ابن عمها بدمعتين قفزتا من وكرهما الفتان وكرجتا على صحن المرمر، أما فرنسيس فما درى بما فعل لأن وجه غريمه سد عليه الأفق، كعراض السماء في الليلة السوداء.
أمسك فرنسيس قلبه بيده، يخاف أن يشق غريمه حديث الدين أمام زوجته والأولاد، فكان يسد الأبواب بلباقة، ولكن الدائن جبار عنيد أن بان له خور في مديونه، وكان واثقا من مناعة الموقف، وحوم الزائر الكريم في آفاق المطالبة، وقبل أن يقع نهض فرنسيس وقال له بنفور: «تفضل إلى الأوضة، هناك نحكي بحرية أكثر.» فأجابه هذا بفتور: هذا سر عن الشيخة والمحروسين؟
فأهوت يد فرنسيس إلى زند غريمه، فأحس هذا كأن كماشة أطبقت على ذراعه، واقشعر فرنسيس وقال: هذا أمر لا يعني غيري. وأشار برأسه صوب الغرفة قائلا: قم، تفضل.
فنهض الدائن متثاقلا، وانشق شدقه عن ربع ابتسامة نفذت إلى صدر فرنسيس كرصاصة مسدسه المشهور في البلاد ... وكان بين الرجلين حديث طويل التقطت منه هدلا بضع عبارات أدركت منها أن القصة قصة دين استدانه زوجها بعد معركة الزواج، واستنتجت أيضا أن أكثر زوارهم الذين كان يذبح لهم فرنسيس مواشيه هم دائنوه، وأن فتور الحب ناتج عن ضيق اليد، وأمعنت في الملاوصة فسمعت كلمة أميركا تتردد، ولكنها لم تفهم ما يعنيان فتركتهما وذهبت تعد الغداء؛ لم يبق في البيت معزى، ولا غنم، ولا ديوك، ولا أرانب، فذبحت الدجاجة البياضة العزيزة ... يقول المثل: «أطعم الفم تستح العين.» فما يسد بوز الدائن - مؤقتا - غير هذا.
وكان الحديث على المائدة طريا ناعما، وكانت الوجوه طلقة، وكان الدائن ينظر هدلا كمن عنده سر يتردد في إذاعته، رأى أدلة النجاح الباهر في المهجر متجمعة في ذلك الوجه الحلو، فحلم بالاستيفاء نقدا وعدا، ليرات إنكليزية تكرج على حروفها ... وكان زوجها جالسا قبالته يبتسم ابتسامة أخرق حتى إذا عاودته الفكرة قطب وعبس، ثم يذكر أنه في موقف لا يجوز فيه التعبيس، فينطلق وجهه كجواد يقف لحظة ثم يجري، فقالت هدلا لزوجها: في وجهكم حكي. فمغمغ الدائن كلامه وقال: لا، الأمر بسيط.
فأجابت هدلا: بلى، قولوا ما عندكم بسيطا كان أو مركبا. فأجاب الدائن كالمتلعثم: «أنت ... عارفة أنت ... زوجك ...» وسكت، فاتسعت حدقتا هدلا منتظرة الحكم فقال الرجل: مغلوب. ومغطها، فأطرقت هدلا، فقال: أبديت له رأيا لا أعرف إذا كنت توافقيننا عليه.
انتفضت هدلا انتفاضة مستغرب، وكيف لا تستغرب كلمة «مغلوب» فهي معتقدة أنها تزوجت ابن روكفلر، وازدحمت في رأسها خواطر أعجز عن تحليلها، ودق قلبها دقات أخافتها، فالتفتت إلى الرجل تسأله بسكوتها الإفصاح عما يريد، فقال لها: لا يخلصكم غير أميركا.
فأطرقت المرأة وقالت بصوت ضعيف: أميركا! إذن صرنا مثل غيرنا.
فقال الدائن: نعم أميركا، فلان كان مثلكم وخلصته أميركا، وفلان عمر القصور من مال أميركا، وفلان اشترى الضياع، وفلان لولا مال أميركا ما صار مدير ناحية وتغدى عنده الباشا ...
فقاطعته المرأة قائلة: وفلانة راح زوجها إلى أميركا وانقطع خبره، وفلان باع بيته المرهون لأن زوجته ما ردت له «الناولون»، وأمس جاء خبر فلان وفلان من أميركا.
وطال الحديث بين هدلا والرجل، وزوجها مطرق كأنه أخرس أطرش، فهزته كالمداعبة: ما قولتك أنت؟ فتنهد وقال: حيران والله، الفرقة صعبة، لا الصبر هين ولا كيد العدا هين.
فصاحت هدلا: قو قلبك، نشحذ ونعيش، رجلي ورجلك، أنتم الرجال لا يركن لكم ...
فضحك فرنسيس وقال: روحي أنت. فاصفر وجه هدلا كالزعفران.
وبعد أسابيع كتب صك الرهن وقبض فرنسيس مبلغا كبيرا جهز «الشيخة» الراحلة، وبقي له قسم ينفق منه إلى أن يفرجها المولى، ويرد المال من خلف البحر.
الباخرة تتهيأ وقد لمت مراسيها، وهدلا تقبض بيسراها على درابزين الباخرة، وتلوح بيمناها تلويحات تزداد شدة وعنفا كلما ازدادت السفينة صفيرا، وزوجها وأولادها على المرفأ يلوحون بالمناديل مثلها، وتحركت الباخرة فصرخت هدلا وهوت، فتلقاها ابن الجيران المسافر أيضا، فارتمت فوق صدره وهوى رأسها على كتفه مستندا إلى خده، وثنى الشاب يديه على خصرها فكانتا له كنطاق.
شاهد ذلك الشيخ فرنسيس، فكادت الغيرة تأكل قلبه، انتظر ختام المشهد العنيف فإذا به يمتد ويتطور ويلح في استفزازه ... تمنى لو تحول السفينة عنه وجهها فيستريح، ولكن السفينة ليست من أبناء ضيعته لتغضي من مهابته، فهي تجري على عينيه وتريه بوضوح كل الحركات الهستيرية المثيرة للشعور.
ولما طال تقلص هدلا وتمددها بين ذراعي ذلك العتل، زفر الشيخ فرنسيس زفرة تحرق العشب وقال: اقبض يا فرنسيس، هذي أول دفعة من مال أمريكا ...
2
الفراق مر وأمر منه شماتة الأعداء، رأى فرنسيس الشماتة على جميع وجوه القرية حتى كاد يراها ممزوجة بشيء من الازدراء في عيون أخلص أصحابه، فأمسى يحسب كل ابتسامة هزءا به، رأى في بنيه - وخصوصا بنته - ذلا وانكسارا، فتعاظم اضطرابه، فطفق يفوه في مجلسه بكلمات متقطعة تفلت من محابسها عفوا، وشاء أخلص خلصائه أن يهون عليه فراق زوجته، وحاول فرنسيس أن يتجمل فخانته دموعه.
وتحلحل الناس عن مقاعدهم إيذانا بالانصراف، فما استمهلهم ولا استبقاهم، ولما خلا ببيته شرع يطوف فيه كالمجنون، ينادي بنته فيهتف باسم أمها، ويدرك خطأه فيعبر عن غيظه بصريف أسنانه، كانت مصيبته أشد لو لم تكن بنته تستطيع قضاء حاجات البيت البسيطة.
وهال فرنسيس موقفه الصعب، فنام على غيظ عازما على أن يبرق إلى هدلا لترجع، وفي الصباح رأى جارته سلطانة منهمكة في تهيئة القهوة والفطور بعدما نظمت ما تشوش من أثاث البيت، فأعجبته منها هذه المروءة فشجعها بالشكر الجزيل، فنظرت إليه بعينين فاترتين مهدتا الطريق لهدلا، فمزق فرنسيس البرقية ...
أما هدلا فكانت مضطربة ساهمة، روعها البحر وآلمها فراق زوجها وأولادها، فما جفت دموعها، لم يرق لها شيء مما حولها من شخوص وأشياء، هل يا ترى نرجع إلى الأوطان، ونرى سنديانة الكنيسة وندبك حولها ليلة العيد؟ قالت هذا عفوا وبصوت مسموع، فوضع الجار المتهيئ للملمات ذراعه الجبارة على كتفيها وكادت تطوق عنقها، فأحست برعشة غير مألوفة وأبدت حركة تملص، ولكنها لم تتملص بل أجهشت إليه، وظل الجار يحاسنها ويطايبها حتى لانت وأفرخ روعها.
كانت هدلا تحسب بيروت سيدة مدن العالم، فإذا بها تتضاءل في نظرها أمام مدينة مرسيليا، ولفتت نظرها طيور غريبة متجهة صوب الشط، فقالت بسذاجة: ترى هذه الطيور مهاجرة مثلنا، وهل الصغيرة منها أولاد لها؟ وكادت تبكي فامتدت ذراع الجار ولكنها ارتدت هذه المرة، وبعد أيام قضتها هدلا في مرسيليا انفكت بضع عقد من جبينها المقطب، فأصبح منظرها طريا لينا مألوفا، فحامت حولها العيون، أرسلت كتابا حاد العواطف، ولكن خط الجار العكش وبيانه المبتذل قلل من روعتها، ولولا بيت «عتابا» أرادت هدلا أن يختم به الكتاب، لكانت الرسالة جوفاء.
ما أخذ فرنسيس المكتوب حتى صرخ: «هذا خطه!» دبت الغيرة إلى قلبه فاحمر وجهه وازرق، وأخذ يتخيل الغرفة التي اختلت بها زوجته بالجار حتى كتبا هذا الكتاب، كان يقف عند كل عبارة ويقول: كيف تناظرا عندما كتبا إلي هذه الجملة؟ وظل يردد مثل هذه العبارات حتى نهاية الكتاب، وأخيرا ألقاه على الطارحة إلى جانبه وقال: «من يسكر لا يعد الأقداح.» ثم صرخ بجارته: «هاتي قهوة مرة، مرة حاذقة يا سلطانة.» وبينا هو يحسو القهوة كالمفكر ويدخن النارجيلة مع المصطبحين عنده، سمع هتاف صبيان فأصغى، وتعالى الهتاف: «يا يسوع شد طلوع، شيخ الضيعة مات الجوع.»
فزفر زفرة وأظهر أنه لا يسمع شيئا، وأخذ يرفع صوته ليخفي الأغنية عنهم، وأخيرا سكت الصبيان فهدأت أعصاب الشيخ بعد قليل، وتنفس كمصاب بضيق الصدر وقد زالت عنه الأزمة.
يقول المثل اللبناني: «من تزوج بالدين باع أولاده بالفائدة.» الفائدة ترهب الفلاح والرهن أعظم نكبة تحل به، فصاحبنا فرنسيس ينظر إلى جارته نظرة حامية، ولكن تذكر البيت المرهون يبردها، يخاف أن يكتب أولاد الحلال إلى زوجته، كما هي العادة في القرى، فتبرد حرارته، ولا يتمنى على الله إلا توفيق هدلا إلى مبلغ يفك الرهن، فالبيت كما يقول الفلاح اللبناني: «أول المقتنى وآخر المبيع.» كان على فرنسيس أن يرهن كل ما يملك ما عدا البيت، ولكن ما بات فات، وعلى هدلا المعول.
إنها في ميناء نويرك، شدهت لرؤية التمثال العظيم وراعتها ناطحات السحاب، وظلت تضرب في الولايات المتحدة حتى استقرت في مدينة سنسناتي، وبعد لبث أشهر فيها ذهبت عنها سيماء القرية، جمال عربي، شعر كالفحم، وعين سوداء مكحلة تذبح ذبحا، وابتسامة فيها كل ما خلق ربنا من جاذبية، تهبط آيات جمالها على القاسية قلوبهم فتلين وتنفتح لها أبواب الخزائن.
عشقها لأول نظرة فتى من أغنى أغنياء بلاد الدولار، فنصب شراكه في دربها فوقعت الحمامة في الشبكة وتركت «الجار» في بلواه ... كانت الشبكة مرصعة بالذهب والألماس، فرفلت بالحرير والديباج، وسكنت بيتا مفعما بالرياش الثمينة والرسوم الفنية المغرية المثيرة، صار ذلك العش الأدونيسي هيكل عشتروت لبنان، يتركه الشاب صباحا ليأوي إليه مساء، حيث يتهجد ويسجد لدميته، فانتقلت هدلا من دار زعامة الضيعة إلى دار زعامة شامخة تشد بنيانها ملايين الدولارات، وفكرت ليلة بزوجها وبنيها، فبكرت إلى البنك فكانت حوالتها عشرين ألف ريال: عشرة آلاف لفك الرهن، وخمسة آلاف دوطة لبنتها، وخمسة آلاف لمصروف الشيخ فرنسيس وتعليم الأولاد.
وقبض فرانسيس المبلغ وهو لا يشك أبدا بطهارة ذيل بنت عمه، وكان دائما يقول للناس: ما نظرت عيني امرأة أحرص من بنت عمي هدلا. والتف الناس حوله بعدما جفوه، وعاد الشيخ شيخا، ولم يسمع في القرية بعد ذلك: يا يسوع شد طلوع ...
وطال الأمد فأنفق الشيخ المال - حتى ما اختصت به بنته - على التي حلت محل زوجته بعد هجرتها، وانتظر الحوالة الثانية فإذا بحرب سنة 1914 تعلن، وانسدت أبواب البحر على لبنان، واشتد الضيق ثم كانت المجاعة التي ذهبت بثلث السكان، فبيع باب البيت برغيف خبز شعير، ودونم الأرض بأقة طحين، وأكل الناس الفئران والجراذين والحمير الميتة، وكنت ترى البائسين على طرق العربات صفوفا كالتي تخيلها الفرزدق حول سماط جنوده، صفوفا حول روث الخيل ينقون منه الحب الذي لم يهضم، أما الشيخ فرنسيس فانصرف إلى عقاراته الواسعة يستغلها ويفي من ريعها ما بقي من ديون، كل ليرة ذهبية بليرة ورقا أو أقل.
وانفتح باب جديد، فتسرب مال المهجر عن طريق المطبعة الأميركية، فأصبح اسم المستر دانا والمعلم أسعد خير الله على كل لسان، ثم انفتح باب آخر عن يد القومندان ترابو، كان يرسل الذهبات عينا فيستبدلها عماله بالورق هربا ... من المسئولية، فمات أصحاب المال جوعا، واغتنى السماسرة إلى ولد الولد.
وأخيرا ورد إلى فرنسيس مبلغ ألف ريال عن يد المطبعة الأميركية، فما فرح به كثيرا، أغنته غلة عقاراته عن هدلا وحوالاتها، فكان يقول: نشكر الله كل ساعة، زيادة الخير خير، وانقطع الحبل بين الزوجين، كل يعمل في حقله ... ثم سكنت الحرب، فورد كتاب من أحد أبناء القرية في المهجر يروي خبر اقتران هدلا رسميا برجل أميركي، فألحت سلطانة بدورها على الشيخ فرنسيس أن يتزوجها أيضا رسميا، أفهمها أن ذلك مستحيل، وأن وضح زواج هدلا كعين الشمس، فجفته، ولم يطق صبرا، فنزل أخيرا على إرادتها، وكانت المؤامرة التي ورد على أثرها كتاب إلى فرنسيس من المهجر ينبئه بموت زوجته ويعزيه أحر التعزية، فتسلح فرنسيس بالرسالة وأقام جنازا حافلا جدا، وبعد أشهر التمس إجازة زواج من أسقفه، فتم إكليله باحتفال لم يقل أبهة عن العرس الأول مع أنه أرمل. أما بنوه فبكوا أمهم ثم نسوها، ولكنهم لم ينسوا بؤسهم ، البنت عنست لأن سمعة أمها ساءت، ولأن أباها أكل دوطتها، فأمست كالخادمة لخالتها سلطانة، وأما إخوتها فهجروا الضيعة بعد اعتداء البكر على أبيه، ورزق فرنسيس غلاما من سلطانة أحبه جدا.
وبعد سنتين شاع - على أثر وصول البريد - خبر مآله: أن هدلا ستعود من «البلاد» في أول أيلول، فاضطرب فرنسيس وارتاعت سلطانة؛ استشارت معلم ذمتها فوجم أيضا ولكنه صدقها الفتوى، فقالت: بأي حق؟ فأجابها الخوري: هذا هو اللاهوت يا بنتي، ما في اليد حيلة، السماء والأرض تزولان وحرف من الناموس لا يزول، الزوجة الأولى أحق برجلها.
فقالت المرأة: والأولاد؟ فتنهد الكاهن وقال: على الله يا بنتي. فنبشت المرأة شعرها وتفجعت ما شاءت، ولكن اللاهوت ظل لاهوتا، ورجعت إلى بيتها كالمجنونة.
ورفعت هدلا الدعوى على زوجها، فاستغرب ذلك راعي الأبرشية وقال لها: يا بنتي، أنت مت، لا تموتوا وترجعوا إلي.
وأثبتت أنها لم تمت، فسمع الديوان دعواها وحكم ببطلان زواج فرنسيس الثاني، وقضى بعودة زوجته الأولى إليه، ولكن القدر فكاك المشاكل، فقضت المسكينة نحبها تحت سقف بيت آخر غير بيتها، فأسرع فرنسيس إلى حيث ماتت واعترف أنه خاضع لأحكام الديوان الأسقفي، بعدما تمرد ورشق بالحرم الكبير.
قعد للعزاء بلا حياء، فعظم الناس أجره وشكر هو سعيهم، ولما دنت ساعة الميراث عثروا على حوالة قيمتها عشرة آلاف ليرة إنكليزية أبرق لها وجه فرنسيس، إلا أنه ما عتم أن اسود عندما قرءوا على قفاها: «وعنا دفع المبلغ إلى ولدينا جميل وأنيس وبنتنا ليلى، والقيمة وصلتنا نقدا.»
نفخ نفخ
منذ ألف وتسعمائة وأربع وأربعين سنة وقعت حوادث قصة الليلة، أما مكانها فبيت لحم وضواحيها، وكان رعيان يحرسون مواشيهم، ويتحدثون عن شئون وطنهم المقهور، مسهم القر فخصرت أيديهم وأرجلهم، فأوقدوا نارا قدام خيمتهم المنصوبة بين بيت جالا وبيت لحم، ثم عادوا إلى حديث ملكهم المندثر لما استدفئوا، فعللوا النفس «بانتصار الأسد من سبط يهوذا».
العهد عهد هيرودوس، فتذكروا سخرة فرعون ورق سبي بابل، فطفقوا يتمطقون بما في النبوءات من آمال وأماني معسولة عن عودة ملك إسرائيل ، فقال أحدهم واسمه ناتان مترنما: «وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغيرة في الأمم؛ لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل.»
فقال منسى ضاحكا: أنبياء بسطاء يرجمون في الغيب، ويرشقون في الهواء حجارة طائشة تحار فيها الذرية.
أح، أح، دب للنار بالحطب يا يمين، الليلة باردة جدا، مكتوب علينا الرق لأننا عصينا يهوه، ويهوه رب ثارات، وثارات لا يغفر ولا يرحم.
قال هذا وأخذ يوحوح ويقضقض، ثم أخفى رأسه في لبادة كما تختفي البزاقة في حلزونها، فاستدفأ وأخذ ينعس ويهوم، فصاح به ناتان: أوع يا منسى، يا تعس شعب يغفي رجاله حين يتحدثون عن حريتهم، وعن مصيرهم.
أما يمين فاستضحك وانطوى ينفخ النار من صدر كأنه الكور، والنار تدخن ولا تشتعل، فاصفرت لحيته المبيضة وكساها الرماد طبقة رقيقة، فأضحك منظره رفيقيه.
وبينا هم في حال كالتي يكون فيها المرء بين الغافي والواعي، إذا برجل طلع عليهم بغتة فانشقت أعينهم، ثم انفتحت عليه متفرسة، فإذا بنور عجيب ملأ الوادي وفاض على رءوس القلل، وارتخى الفك الأسفل فانشق الفم نصف شقة، وأصبحت وجوه الرعيان كالزعفران، فقال لهم ملاك الرب: لا تخافوا، ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة: تجدون طفلا مقمطا مضطجعا في مذود.
كان الرعيان الثلاثة يسمعون مشدوهين، لا يفهمون ما يقال لهم لأن عقلهم كان موزعا، كانوا يفكرون بالنور الذي لم يبصروا مثله من قبل، وبالرجل المنتصب أمامهم، وما اطمأنوا إلى المشهد العجيب حتى تلاه أعجب، دهمتهم طغمات منظورة وغير منظورة من الجند السماوي، ظهروا مع الملاك وأنشدوا جميعا النشيد الوطني الدولي:
المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة.
وأسدل الستار وانتهى الترتيل والتهليل، ورجع سفراء السماء ورسلها أدراجهم، وظل الرعاة مبهوتين مما رأوا وسمعوا، وبعد دقائق معدودات انحلت عقدة لسان ناتان فقال لرفاقه: يا هو، بيت لحم على رمية حجر منا، فهيوا بنا إليها لننظر ما خبرنا به هؤلاء.
فضحك منسى ولكنه مشى، وسار يمين وراءهما متهدجا، وما كان أشد تعجب منسى حين أبصر ثوره وحماره قد سبقاه إلى الخان المعلوم، فالتفت ناتان إلى منسى التفاتة كاد يأكله بها وكأنه يقول له: تأمل يا قليل الإيمان، حمارك سبقك، لقد صحت بنا كلمة أشعيا القائل: «عرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم ...»
وقص ناتان حكاية ما رأوا وسمعوا على يوسف النجار، وكان يعرفه من الناصرة وقد عمل له نيرا ممتازا، فتعجب كل الذين سمعوا مما قاله الرعاة، أما أم يسوع فكانت صامتة تسمع الكلام متفكرة في قلبها، وكان نظر منسى لا يتحول عن ثوره وحماره، وقد لحظ أنهما يأتيان عملا كأنهما مندوبان له أو موحى به إليهما.
الثور عن يمين، والحمار عن شمال، وفمواهما في المعلف ينفخان دائما ليدفئا الصبي المقرور، كان على وجه الحيوانين سيماء تفكير عميق، فقال الحمار للثور: ما تقول يا سيد، أصحيح أن عهد هذا الطفل على الأرض عهد سلام ورجاء ومحبة كما سمعنا من الطيور البشرية الخضراء؟ من عادة الطيور أن تنبئنا بأشياء أشياء، ولكن هذه الطيور غريبة، ما رأينا مثلها ولا اختبرناها بعد، فما قولتك؟ في الناس المسرة، هذا أمر مفهوم، ولكن أنا وأنت لا يهمنا أمر الناس، يهمنا أمرنا قبل أمر الآخرين ... يهمنا أن يكون على الأرض سلام صحيح، فأستريح أنا من الأحمال الثقيلة، ولذع المسلات في كتفي ورقبتي، ومن ضرب العصي على كفلي، وتستريح أنت من أثقال النير الذي يحز رقبتك، ومن لذعات المساس الذي صير جلدك كالغربال.
وكان الثور دائبا على التنفيخ والحمار يتدفق في خطابه الاجتماعي ... يتساءل عن خيرات العهد الجديد المرجوة، عهد المولود الذي بشرت به جنود السماء والملائكة ... وتعب الحمار من خطابه الطويل كأذنيه، فقال للثور: لماذا لا تقول كلمة؟ فصاح به الثور: نفخ نفخ، الصبي بردان، أنت لا يهمك إلا بطنك وجلدك، سيعود مجد إسرائيل، أما سمعت بأذنيك الصغيرتين: وبالناس المسرة؟
فأقبل الحمار ينفخ بحماسة، فملأ التبن منخريه، فعطس عطسة مشئومة، وعوع منها الصبي .
فأخذ الثور ينفخ تنفيخا ناعما، فغفا الطفل الإلهي، ولم يطق الحمار سكوتا فقال للثور: أنت، يا أخي في العبودية، أخذت حصتك في زمن مضى ... عبدوك وقدسوك وطلبوا شفاعتك فنالوا بإيمانهم خيرا جزيلا على يدك، ولكن أنا المسكين للشط واللط في كل عهد ... فضحك الثور وقال للحمار: وكيف كان عهدي عليك؟
فقال الحمار: أقول لك الصحيح؟
فأجاب الثور: نعم. - وبكل حرية؟ - نعم. - أمني، احلف أنك لا تنطحني. - حلفت.
فقال الحمار: كان عهدك أشنع العهود وأبشعها، ضرب وقتل وقلة أكل.
فسدد الثور نحوه قرنه اليمين، ثم ذكر الوعد فارعوى وقال: نفخ نفخ، الصبي بردان.
فقال الحمار: وأنا بطني فرغان ... ثم يا صديقي الحميم، ما عرفت أن تنفيخك لهذا الملك الصغير تنازل عن حقوقك الشرعية الإلهية؟
انتبه، حافظ على خط الرجعة ... لا تكن مندفعا، فقد يكون عهده أسوأ العهود علي وعليك.
فسدد العجل قرنه وتهيأ للنطاح، فتراجع الحمار قليلا، ولما رأى الثور قد عدل رجع ينفخ.
وظل في نفسه شيء يدفعه إلى الكلام، فعاد يقول: أتظن أن شيئا يتغير في البشر ونرتاح من عبوديتهم؟ أخاف أن ننتقل من سيئ إلى أسوأ، أنت ذقت طعم السيادة طويلا، ولكن أنا المسكين، أنا في كل عهد عبد العصا والمسلة ... جعلني شعراء الناس الذين عبدوك مثلا للذلة والهوان ...
فصاح به العجل: اسكت يا بهلول، اشكر ربك، أنت تموت حتف أنفك على الأقل، لا لحمك يؤكل ولا جلدك يسكف، أما أنا فأنتظر الساطور كل ساعة، ولا أدري متى تأتي ساعتي، لا تحلم بالأماني الكبار، بعدك عنها أوفق.
والتهى الفيلسوفان بالحوار والجدل، فرجف الصبي في المهد، فعج العجل قائلا: نفخ نفخ، الصبي بردان، فلندفئه لعله يغير ما بنا، قد كرهنا قيصر المسوس الهرم، ولكن الناس ناس في كل الدهور، أنا للحراثة والأكل، وأنت للركوب والنقل، نفخ نفخ، الصبي بردان.
Shafi da ba'a sani ba