69

وطلع عليه الصباح ولم تغمض عيناه، فعزم على أن يخرج مبكرا إلى نزهته؛ حتى لا يلقى أحدا من هؤلاء الذين كادوا يجعلون مقامه هناك حملا ثقيلا. ووجد الشيخ أبا عاصم حيث تركه مضطجعا في مجلسه كأنه لم يذق هو كذلك نوما. فتبسم له الشيخ قائلا: «لا أراك ذقت النوم في ليلتك.» فقال له سيف: أحب أن أرى مطلع الشمس في الوادي.

فهب الشيخ ولف عليه رداءه قائلا: كدت أسبقك إلى هناك.

وخرجا معا إلى الهضبة المقفرة التي في ظهر القصر، وكان الوادي ينحدر من هناك تحتها عميقا في أخدود قائم الجدران، يتعرج في ثنيات متوالية، وكان قاعه يبدو في النور الخافت في ألوان مختلفة، بين بياض الماء، وشهبة الرمل، وسواد النبات، كأنه ظهر حية تتلوى هاربة. وأشرفا بعد حين على طنف بارز من جانب الوادي فيه أطلال بالية، تصف بقاياها رسم معبد قديم لم تبق منه إلا أركان شاحبة، لوحتها الشمس وبرتها الأمطار ونخرتها الرمال السافية مع الرياح. وكانت بقايا البناء قطعا ضخمة ما تزال راسخة على أساسها، كأنها عماليق أدركتها الهزيمة وهي تتعثر في أعقاب معركة هائلة. كانت الأحجار تحمل آثار جراحها، والأعمدة المحطمة ملقاة على الرمال معفرة مثل أشلاء الصرعى. هنا قطعة من عمود مرمري، ما زالت صفحتها الصقيلة تلمع في شعاع الشمس المشرقة، وفتات الحصى متعلق بأصلها، وأعواد خضراء من الحشائش والأعشاب تنشب جذورها في شقوقها، وهناك لوحة من صخور داكنة أو وردية أو بيضاء، عليها نقوش وصور لا يدري أحد ماذا تصف من شئون الذين بنوها وعاشروها حينا ثم خلفوها. وفيما بين تلك قطع مهشمة من تماثيل، لم يبق من ملامحها إلا ما يبقى من هيكل جثة محنطة، من تلك التي كان الأعراب يعثرون عليها في المقابر، ويمزقون عنها لفائفها في طلب ما قد يكون عليها من الذهب أو الجوهر. كان منظرا حزينا جليلا، زاده روعة منظر الرمال المتموجة الصفراء، التي كانت تمتد إلى الأفق من وراء الحطام حتى الأفق الشرقي، لا يقطع صمتها صوت سوى طنين الحشر المتطاير، أو صدى صوت عصفور يزقزق من بعيد ثم يختفي سريعا، كأنه يسخر ممن يدب على الأرض بطيئا.

وذهب الشيخ إلى أقصى الطلل، فاعتمد على أصل عمود قائم، ينظر نحو ربوة تكللها قطع رقيقة من السحاب الأبيض، وشعاع شمس الصباح يقع عليها في ألوان ذهبية وردية، وتنفس نفسا عميقا عندما سمع صوت سيف يناديه: أشاعر على طلل؟

فقال الشيخ باسما: ومن ذا الذي يقف هنا ولا يشعر؟

فقال سيف: أي قوم ملئوا الأرض بهذه البقايا؟

فقال الشيخ: هذا ما كنت أقوله لنفسي. كانوا أجيالا من الملوك يا سيف، لكأنني أرى هذا البناء المتهدم عندما فرغ الصناع من صقله ونقشه، ووقف الملك الذي أحدثه ينظر إليه معجبا ويقول: «ها أنا ذا قد خلدت ذكري.»

فقال سيف: أتذكر اسم أحد من هؤلاء؟

فقال الشيخ: نسي اسمه كما تهدم بناؤه، ولكنه كان ملكا عظيما.

وماذا عليه أننا لا نعرف اليوم اسمه؟ وهبك سميته تبع أو مرثد أو وائل، فماذا كان اسمه يزيدك به علما؟ لقد كان ملكا عظيما وكفى.

Shafi da ba'a sani ba