120

واستطاع بعد حين أن يغمض عينيه في نوم عميق، لم يستيقظ منه إلا بعد أن أطلت الشمس عليه من بين صخور الكهف.

وكان أول خاطر سنح له: أن ذهب إلى أصحابه ليفضي إليهم برأي جديد بدا له بغتة، كأنما استقر عليه في أثناء نومه العميق.

فقد أوشك ذي القعدة أن يستهل، وسيذهب الناس من كل فج إلى سوق عكاظ يبيعون ما عندهم ويشترون ما عند غيرهم، ويشهدون الموسم الذي تستفيض فيه الأحاديث عما يجري في بلاد العرب جميعا، يحمل كل قوم منهم طرفا يعلمونه. وهناك يستطيع أصحابه أن يجمعوا أكداسا من الذهب لقاء ما عندهم من الغنائم المكدسة. وما كاد يفضي بهذا الرأي إلى أصحابه حتى وثبوا إليه في حماسة كأنهم كانوا يتمنونه.

وأخذوا يستعدون من ساعتهم للرحلة القريبة قبل أن تتفلت فرصة الموسم العظيم.

الفصل السادس عشر

قال الراوي:

بدأت الصبا تهب رفيقة من قبل نجد على النازلين في عكاظ على مقربة من مدينة الطائف، وتدفق الناس إليها من الآفاق القريبة والبعيدة ليشهدوا الموسم في ذي القعدة، قبل أن يذهبوا إلى مكة ليحجوا إلى الكعبة المقدسة. وكان موسم العام أشد زحمة مما عرف الناس من قبل؛ فإن قبائل العرب تسابقت إلى الحج منذ شاع فيها نبأ انتصار قريش على أبرهة الحبشي، وعدوا ذلك النصر آية دالة على قدرة هبل واللات والعزى ومناة. وكانت الخيام تمتد في صفوف متداخلة كأنها مدينة نبتت فجأة في الصحراء، بينها طرق متعرجة وميادين فسيحة، بعضها لمباريات الشبان في الرماية، وبعضها لمسابقات الخيل والرهان عليها، وبعضها لعرض السلع التي أتى بها الناس من أركان الأرض ليقضي كل حاجته من بيع أو مبادلة. وكان في سرة الخيام ميدان في وهدة من الأرض تحف بها من جوانبها صخور مدرجة، وفي وسطه ربوة تبرز عالية فوق الوهدة، كأن الطبيعة أعدتها لتكون مجتمعا عاما. فكانت الآلاف المتزاحمة تحيط بالوهدة الواسعة على الصخور المدرجة؛ ليستمعوا إلى أناشيد الشعراء إذ يتفاخرون ويتهاجون ويتنافسون في نشر مآثر قبائلهم، وهم وقوف فوق الربوة الوسطى، فإذا ما فرغ أحدهم من نشيده أطلق الحكم رأيه في قوله، فيقبله راضيا أو ساخطا، وخاشعا أو ثائرا. فكان ذلك الميدان لا يخلو من هزة تعقبها مشاحنة، قد تجر أحيانا إلى القتال بين العشائر أو المبارزة بين الأفراد.

فإذا ما انقضى النهار وهدأت الحركة في ساحات عكاظ، خرج طلاب المتعة إلى الأطراف البعيدة ليقضوا قطعا من الليل في الحانات أو أندية السمر، التي كانت تجمع أسباب اللهو من أطراف الشام واليمن والعراق. وكانت حانة النبطي مهبط المترفين من شيوخ القبائل وشبانها؛ إذ كان صاحبها رجلا مرحا لين العريكة، سريعا إلى إرضاء ضيوفه بكل ما يشاءون من لهو. وكان يختار لهم المعتقة من خمر الإسكندرية وأنطاكية، كما كان يختار لهم أجمل الراقصات وأبرع المغنيات، من فتيات العرب أو الروم أو أرمينية. وكان بين راقصات تلك الحانة في ذلك العام فتاة عربية عرضها النبطي أول مرة، فتناقل الناس أخبارها، وتحدثوا بأوصافها. قيل إنها من بنات حمير، سباها جيش أبرهة فباعها حبشي إلى تاجر من قريش طفلة صغيرة، وباعها القرشي لصاحب حانة في جزيرة فرسان عندما صارت شابة، ثم باعها صاحب حانة فرسان إلى صديقه النبطي الذي أعجب بحسنها ونغم صوتها وبراعة رقصها، فبذل في ثمنها مائة ناقة. وكانت الفتاة فيما يقولون ذات بدوات ونفرات، لا تعبأ بشيء إذا ثارت بها ثورة، فكانت تسوم صاحبها أعنف ما تنال حسناء قاسية من مطية ذليلة. ومع ذلك كان لا يغاضبها بكلمة، كأنه يتمتع بما يصيبه من عذابها. وهي فوق ذلك متقلبة بين المرح والطرب، وبين الفتور والسهوم. كانت تنفلت أحيانا من رقصها أو غنائها غاضبة لغير سبب ظاهر، فلا ترضى أن تعود وإن بالغ صاحب الحانة وزوارها في استرضائها. وكانت تغضب للكلمة التافهة تبدر من شاب عبثت به نشوة الخمر، أو من دفعة غير مقصودة من إحدى صويحباتها في الرقص، أو من صيحة ماجنة من خليع، أو من صيحة إعجاب في غير موضعها. بل كانت أحيانا تغيب من غير غضب إذا بدا لها أن تغيب، ولا يجرؤ صاحب الحانة على أن يلومها بكلمة. ولعل النبطي الماكر كان يرضى في نفسه عن بدواتها العجيبة؛ فقد كان يعلم أسرار النفوس، ويعرف أن رواد الحانة كانوا يزيدون بتلك البدوات حرصا على التردد عليها ليلة بعد أخرى.

على أن طليبة - وكان ذلك اسمها - كانت تسمح أحيانا وتقبل صافية الطبع على زوار الحانة، فتخطر بينهم مثل النسيم خفيفة متفننة مفاكهة متندرة، فتسحر ليلتهم وتشيع من حولها جوا صاخبا من المرح والنشوة.

ومضى صدر من موسم عكاظ ولم يبق منه إلا أيام، ينصرف الناس بعدها إلى مكة ليؤدوا مناسكهم فيها، ثم أقبلت قافلة من ناحية شاطئ البحر، تحمل تجارة لم ير الناس في عكاظ مثلها، فيها بضائع شتى من كتان مصر وأبراد اليمن وزبيب أيلة وخيل نجد، وفيها من الحلي وصنوف الأمتعة ما يتهافت عليه أهل الثراء والترف من شيوخ القبائل وسادة القرى. وكان صاحبها فتى سمحا في البيع، كريما واسع الرحاب لمن ينزل عليه، مهذبا في الحديث لا يحب اللجاجة في المساومة، فكان الناس يقصدونه في منزله للشراء، فيصيبون في ضيافته ما شاءوا من كرم الوفادة. وسرى ذكره بين النازلين في يوم وليلة، وصاروا يتحدثون عنه ويعجبون من يكون؛ إذ لم يعرفوا عنه إلا أنه معديكرب، وأنه في هيئته وطريقة حديثه يشبه أن يكون من أهل صنعاء.

Shafi da ba'a sani ba