ولكن حدث بعد رسالة البابا أن خانت نابولي القضية، ولم تكن البلاد في حال تستسيغ معه الحكم الدستوري، لا سيما حين يكون الملك مخادعا والشعب خاملا؛ فالوزارة كانت عاجزة والصحافة بدلا من أن تتصرف إلى تنوير الناس فقد انهمكت في أعمال غير مشرفة.
وأصيبت البلاد بهزات عنيفة حتى تجلى للدهماء أن الحرية لا تجلب الخير، أما القرويون فلم يكونوا ليهتموا بالدستور وإنما كان همهم أن يتقاسموا الأملاك العامة وأن يتملكوا الأرض التي كانوا يرنون بأبصارهم إليها من القديم، ولم يرحب المتطرفون بدستور يستند إلى تصويت ضيق ومجلس أعيان معين .
وقد عبر الوزير المستقيل «ساليستي» عن آرائهم حين طالب بأن يكون حق الاقتراح شاملا، وأن يكون مجلس الأعيان من المنتخبين، وأن تبادر نابولي إلى الاشتراك في الحرب ضد النمسة.
ثم اضطرت الوزارة أمام إلحاح الشعب إلى الاستقالة واستعد الملك للخضوع للعاصفة، فكلف ببه بتأليف الوزارة، بيد أن طلبات ببه كانت أشد من طلب ساليستي، فقرر الملك أن يكافح المتطرفين واختار لرئاسة الوزارة المؤرخ «كارلوتروبه»، ولم ير هذا بدا من التفاهم مع الراديكاليين، وترك البت في موضوع مجلس الأعيان والتعديلات في الدستور إلى المجلس النيابي، وجهر برأيه الصريح في الاشتراك في الحرب والانضمام إلى الحلف، وأرسل كتيبة إلى ميدان القتال في لمبارديه على أن يعقبها ببه بالقسم الكلي من الجيش.
ولم تستطع الوزارة أن تسيطر على الموقف أمام دسائس الملك والموظفين من جهة وأمام الجمهوريين والاشتراكيين من جهة أخرى، وكان الرجعيون على أهبة الصيد في الماء العكر لمناسبة توزيع الأرض ووعظ أحد الرهبان في ساليرنه محبذا الاشتراكية داعيا إليها، فرأى الملك أن الفرصة قد سنحت له.
ونعلم أنه قد فقد شجاعته في الثورة الإفرنسية ومن المحتمل أنه حين أذعن للواقع إنما أراد أن يستغل الحركة ويستجلب الأحرار لاسترداد صقلية وتقسيم إيطالية بينه وبين شارل ألبرت، ولكنه الآن بدأ يمثل دور الخائن فاغتبط حين رأى الفرصة قد سنحت لكي يعود الرجعيون إلى الحكم خوف الناس من الاشتراكية وظهور عجز الحكومة. وقد جعلت الرسالة التي وجهها البابا الإكليروس بجانبهم.
واستعد الضباط والقرويون لتدبير مؤامرة ضد الأحرار، وحين اقنتع الضباط بأن الأحرار يريدون إرسال الجيش إلى الشمال ليتخلصوا منهم أخذوا يتظاهرون ضد الحرب.
لقد جرت الانتخابات وظل القسم الأعظم من الشعب لا يأبه لها، ولم يشترك فيها إلا الخمس ممن لهم حق الاقتراع، وقد أعيد انتخاب الأحرار المعتدلين في كل محل، وسرعان ما بدت للنواب الشكوك حين طلب إليهم خطاب العرش أن يقسموا اليمين بأن لا يغيروا الدستور الحالي، فاعتبروا هذا التكليف نقضا لما تعهدت به الحكومة من إصلاحات اجتماعية ووعدت أن تعرضها عليهم ، وبعد أخذ ورد وافقت الحكومة والملك على حذف تلك الصيغة من النص رسميا، وظل الفريقان على تباين في الاتجاه والميول؛ حيث تعذر التفاهم بينهما.
وقد أخذ المهيجون في كلبريه وساليرنه والبعض من الحرس الأهلي؛ يستعدون للحرب الأهلية، فأقيمت الموانع والمتاريس، وأدرك أولو البصيرة من الأحرار وخامة العاقبة، فحاولوا إصلاح ذات البين، إلا أن الحرس الأهلي أطلق لنفسه العنان مما أدى إلى خوف الملك، فحشد أمام قصره اثني عشر ألفا من الجنود، فلم يبق للأحرار مندوحة عن القتال والنضال، وزحف حرس ساليرنه الأهلي نحو العاصمة ثم أطلقت أول رصاصة ونشبت معركة عنيفة بين الأهالي والجند استمرت من الصباح حتى المساء، وكان الجنود من السويسريين قد قتلوا كل من وجدوا أمامهم ونهبوا كل ما عثروا عليه، فالتهبت النيران وسالت الدماء غزيرة وكان الملك يحرض الجنود من شرفة قصره.
وبينما كان النواب مجتمعين يتخذون القرارات؛ طردهم الجنود من اجتماعهم، واجتمع رجال جمعية اللازاري والرهبان أمام القصر وهتفوا قائلين: «فلتسقط الأمة.» ومعنى ذلك أن جنوب إيطالية تتنكر للقضية القومية، فأرسل رسول إلى ببه يطلب إليه العودة وقد لحق به من بولونيه حين كان على وشك عبور نهر بو خلافا للأمر المعطى إليه.
Shafi da ba'a sani ba