لقد كان مينا بريه من أهل صافويه، وكان وطنيا ينتمي سنة 1848 إلى الأحرار المتحمسين، ولكنه أصبح بعد أن انسلخت الإيالة من المحافظين في السياسة الداخلية حتى كاد أن يكون رجعيا، والتف حوله الباقون من حزب اليمين السابق ممن كانوا يدعون للتفاهم مع البابوية ولا يرغبون في الذهاب إلى روما فيما إذا أمكن اجتناب ذلك وكانوا يحذرون من المؤسسات الحرة ويخشون الفكرة الدموقراطية.
ويؤيد هؤلاء قسم من حزب الكنسورتيرية الذي اشتهر بعدائه للأفكار الحرة اشتهاره بمقته لبيمونته، كما كان يؤيده بعض حديثي القول بالفكرة القومية من أنصار الأسرات المالكة الساقطة الذين فقدوا كل أمل في عودة الحكم السابق ولكنهم ظلوا يتمسكون بروح الحكومات الغابرة.
حقا لقد أحدثت منتانة حركة ارتجاعية ضد الحرية، حتى إن الصحافة المعتدلة أخذت تطالب بتعديل الدستور، ودل اضطهاد مينا بريه للأحرار وحوادث العنف وتفتيش الشرطة للبيوت والناس وإرهاق الصحافة؛ على التخلي عن السياسة الحرة، فاستولى القادة العسكريون على معظم السلطة الإجرائية وبدل الحكام بغيرهم، وصودرت الأوراق وحلت الجمعيات الدمقراطية ، ولم يسمح لجمعية الإكليروس الحرة في نابولي بأن تعقد الاجتماعات، وكان فرعا اليسار وحلفاؤهم في المركز أشد خصوم الوزارة، واقترع الحزب الدائم ضد مينا بريه في شهر كانون الأول، وعلى الرغم من مساعي منجيني فإن هذا الحزب رفض أن يعاضد وزارة أخذت بسياسة ضعيفة تجاه روما ولم يكن لانزا أو سيللا ولامارمورا يرتاحون إليها، ومع أن أغلبية النواب كانوا على اتفاق في الحذر من الحكومة والشك في سياستها فإن الناس كانوا يحارون فيمن يستطيع أن يخلفها، وقد علم توالي الأزمات في البرلمان الروية والرصانة، ففضل أن يتسامح مع مينا بريه بدلا من إحداث تبديل وزاري أو الانحراف في تيار انتخاب مجهول العاقبة، وحدث أن عرض على المجلس مشروع انحصار التبغ فقبله على الرغم من إسهاب لانزا في شرح مضراته، وشاعت روايات عن مساعدة بعض الوزراء والنواب في هذا المشروع، فهاج الرأي العام واتهم أحد نواب اليسار بعض أعضاء الوزارة في إحدى جلسات المجلس النيابي.
ثم حدث بعد عشرة أيام من هذا الاتهام أن جرح النائب المذكور بضربة خنجر في أحد شوارع فلورنسة مما أدى إلى فضيحة حملت الوزارة على الاستقالة، واستمرت الأزمة الوزارية نحو الشهر ثم حمل المجلس الملك على دعوة لانزا لتأليف الوزارة فألفها في 14 كانون الأول، وكان سللا و«فيسكونتي فنستة» من الأعضاء البارزين فيها.
وقد تسلم سللا وزارة المالية بعد أن حصل على عهد بتمكينه من تطبيق سياسة اقتصادية معينة، وكان يأمل أن يقتصد 23 مليون ليرة من نفقات الجيش والأسطول، وكان الرأي العام يسنده ولا سيما لأن البلاد منذ معركتي كوستوزه وليسا سلبت ثقتها من الجيش والأسطول، وحاول جيالديني وبيكس عبثا أن يبرهنا على الخطر الذي يحيق بالبلاد فيما إذا بقيت محرومة من وسائط الدفاع، بينما كانت تنذر الحوادث بقرب وقوع الحرب في أوروبا، وعبثا سعى الملك ليحافظ على قوة الجيش ليستطيع الأخذ بسياسة فيها احترام وجراءة وقال جيالديني: «إنكم تخافون من الموت جوعا أما أنا فأخاف من أن أخنق.» بيد أن الأكثرية كانت تشارك الوزير خوفه من الإفلاس، ومع أن سللا لم يوفق في توفير أكثر من خمسة عشر مليونا من الليرات فإنه استطاع أن يؤمن بعض التوازن في مالية إيطالية.
وواجه لانزا خارج البرلمان استياء جديدا من ضعف الحكومة والبرلمان، وقد أصبح اهتمام الناس بتأمين أقوات معيشتهم يفوق اهتمامهم بالحركة السياسية؛ إذ ارتفع سعر الخبز بسبب تداول الأوراق النقدية وانتشرت الهيضة فولدت شعورا ثوريا من اليأس والقنوط، وقد فتك الشعب بكثير من الناس في المدن ظانا بأنهم سمموا غذاءه مقتنعا بأن المرض إنما نشأ عن إفساد المواد الغذائية، وراح الأجراء الجياع والعمال القانطون في الشمال والجنوب ينشدون النجدة خارج البرلمان وحدثت ثورات ضد ضريبة الطحن، حتى إن القرويين الوادعين في بيمونته اتفقوا فيما بينهم على أن لا يدفعوا الضريبة.
وعاد مازيني إلى بث آرائه الجمهورية وأخذ يعلن للملأ بأن سبب جميع المصائب التي أحاقت بإيطالية تندمج في العرش، وأخذ كثيرون من المستائين الذين قد ترددوا سنة 1866 في قطع صلاتهم مع الملك؛ يقولون بالجمهورية، وتسربت الآراء الجمهورية في صفوف الجيش الدنيا ولا سيما بين ضباط الصف، وأخذ بعض نواب اليسار يشجعون هذه الآراء وانضم نيكيتره سنة 1869 ومعظم نواب أقصى اليسار إلى حزب الاتحاد الجمهوري الذي أسسه مازيني، وبرأت هيئات المحلفين العدول ساحة الجرائد الجمهورية حين قدمت للمحاكمة، وأخذت الصحافة تهزأ بالملك والأمراء وأخذ المتطوعون يتدربون في الخفاء.
وفي سنتي 1868-1869 نفذ صبر مازيني؛ لأنه لم يتيسر له تدبير ثورة، ووقعت في ربيع سنة 1870 ثورات صغيرة في مختلف المراكز ولا سيما في أميلية، ولكنها لم تبلغ درجة الجد والخطورة إلا بتواطؤ الحاميات علنا، وأعلنت عصابة غاريبالدي مؤلفة من 300 رجل الجمهورية في ماتيدة في كلبريه وذلك في شهر أيار وبدأ فتيان غاريبالدي ينضمون إليها، بيد أن هذه الثورة أخفقت كما أخفقت ثورة في الشمال، فوجه مازيني أنظاره نحو صقلية؛ حيث عزم على أن يستخدم السلاح الذي مده به بيسمارك ضد مواطنيه، فكان هذا العمل آخر مرحلة لسقوط مازيني، وبه انتقل من وطني أمين إلى متآمر ضد بلاده، ولما وصل إلى باليرمو متنكرا قبض عليه بأمر الحكومة وسجن في جايته في آب سنة 1870.
على أن هذه الارتباكات الداخلية وعواقبها في هذه اللحظة لم تكن أشد خطورة مما بين الكنيسة والدولة، فقد أعاد الانتصار إلى البابا كثيرا من نفوذه بعد أن استطاعت حكومته قمع الثورة في المدينة حين أخذت تؤكد بأنها قد تغلبت على غاريبالدي قبل وصول الإفرنسيين إلى مينتانة، وجاهرت النسمة في عهد «بويست» رئيس الوزراء البروتستاني بخصومتها للبابا فخرقت الاتفاقية المقدسة وقررت مشروعية النكاح الذي يعقد بين أزواج ذوي مذاهب مختلفة، أما بيسمارك فقد كان يتملق للبابوية لكسب جانب الكاثوليك في جنوب ألمانية، وقد استولى القنوط على إيطالية وأصبح رجال الدولة من أحزاب اليمين وحزب اليسار - وكانوا يستطيعون أن يساعدوا كثيرا على العودة إلى الميثاق - لا يجرءون على قطع الحبل مع فرنسة، وكان لانزا ولامارمورا ومينا بريه ورتازي؛ متفقي الرأي على التخلي عن كل أمل في الحصول على روما، أما القوميون الخلص فأخذوا يعتزلون الحياة العامة شيئا فشيئا.
ومع أن وزارة مينا بريه كانت قد أصدرت قانونا بضغط المجلس النيابي يقضي بجعل رجال الكهنوت خاضعين للتجنيد فإنها ساعدت الأساقفة الجدد على اضطهاد الإكليروس الحر، ومع ذلك فإن القنوط الذي استحوذ على النفوس كان مؤقتا فالجميع يعلمون بأن يد فرنسة هي التي أنقذت السلطة الزمنية من السقوط، فمتى سحبت فرنسة يدها وبدلت موقفها راضية أو مضطرة فإن روما ستلحق بإيطالية لا محالة.
Shafi da ba'a sani ba