ولقد أصاب منجيني أكثر من سللا حين أجهر برغبته في أن يرى حزبين يتأسسان في المجلس كما هو جار في مجلس العموم الإنجليزي، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة ربما كان متعذرا وكان الخط الفاصل الحقيقي بين الجماعات هو الذي يفصل بين القوميين والإكليريكيين ولم يمثل الإكليريكيون في المجلس، وكانت الحواجز الفكرية بين الجماعات في حزب الأحرار ضعيفة مترجرجة، وكان نواب كل من الدويلات القديمة يعملون معا إلى حد بعيد ليس في القضايا العامة أيضا، وكانوا يؤلفون جماعات حسب أقاليمهم فمنهم طوسكانيون ومنهم نابوليون ومنهم لمبارديون، وكان الحزب الدائم برئاسة سان مارتنيو يجمع بين رجال ذوي آراء سياسية مختلفة، هدفهم المشترك الوحيد الدفاع عن بيمونتيه ضد هجمات حزب الكونسورتارية «عصبة الدس» والانتقام الشديد من كل حكومة تساعد خصومهم، وبعد سنة 1864 أصبح حزب اليمين القح ينتمي للكونسورتارية وكان يتألف من الدستوريين الذين كانوا غير إكليريكين إلى حد ما وفي الوقت نفسه محافظين في سياستهم الاجتماعية ، وكانت أهداف ريكاسولي الاجتماعية البعيدة المرمى وتطلعه بلهفة نحو روما كثيرا ما تجعله في ناحية اليسار، وكانت نفسه تتوق دائما إلى إدماج الرجال النزيهين في مركز اليمين واليسار والعمل بمقتضى سياسة حرة تقدمية مستقرة.
ومع أن مركز اليسار كان ينحدر أصلا من سميه في البرلمان البيمونتين فقد أضاع مقامه الأسمى، وكان يتألف من أنصار رتازي، وقد بدأ سنة 1867 يدرك ضعفه وأخذ يميل نحو اليسار المعتدل كثيرا ولم تبق لدى اليسار سياسة مشتركة أكثر من الحزب الدائم، وكان بؤرة المعارضة التي يلتجئ إليها خصوم الوزراء على اختلاف ألوانهم، وكانت سياسة هذا الحزب إجمالا سياسة راديكالية، وكان يتشوق للذهاب إلى روما ولديه منهج غير محكم بالإصلاحات الاجتماعية، وقد انقسم تدريجيا إلى فرعين بينهما بعض الاختلاف، أما كريسبي فقطع صلته بمازيني متخذا الشعار الآتي: «الملكية تجمعنا والجمهورية تفرقنا»، فالتف حوله بعض زعماء حزب العمال وكانوا يرغبون في تأليف اتحاد مع جماعة رتازي والحزب الدائم لإقصاء رجال اليمين عن الحكم.
ثم تأتي بعد هؤلاء جماعة صغيرة من المناضلين انطوت تحت راية برتاني، وألفت أقصى اليسار، وسلكت سياسة أكثر نزاهة ووضوحا من سياسة غيرها، وناوأت سياسة كريسبي ورتازي.
ومع كل ما ذكرنا فقد كانت للمجلس حسناته، فكان أغلب النواب ذوي نيات حسنة شابها فتورهم الصبياني وقلة اختبارهم، وحينما كان الموقف يتحرج ويتأزم كان المجلس يظهر كثيرا من إنكار الذات وكانت استقامته لا غبار عليها، ولم يلعب الدساسون ورجال المال فيه الدور الذي لعبوه في فرنسة في الإمبراطورية الثانية قط، ولم يترك أحدا من رجال الدولة الحكم وهو أغنى مما كان قبل تسلمه الحكم بل مات بعضهم معدما، وكان ينبغي للبرلمان أن يقوم بانقلاب سياسي اجتماعي، وكان يتحتم عليه أن يوحد القوانين وأن يعيد تنسيق الإدارة وأن يصلح الحكومة المحلية وينشئ جيشا وأسطولا قويا ويجهز البلاد بالسكك الحديدية والمدارس، وأن يحسم معضلات الكنيسة والدولة وأن يقوم بالإصلاحات الاجتماعية وأن يحل مشاكل الجنوب الخاصة. وكانت المعضلة المالية تتقدم جميع المعضلات الاجتماعية، وكانت المملكة الفتية تجادل عن نفسها للتخلص من الورطة التي وقعت فيها التي كادت أن توصلها إلى هاوية الإفلاس.
وقد حالت القروض الثقيلة دون التقدم المنشود وقد ناء الشعب تحت وطأتها وكان سهلا على الأعداء في الداخل والخارج أن يطعنوا بها، وكانت الضرورة القاهرة تقضي بأن تظل نفقات الجيش والأسطول باهظة إلى حين الاستيلاء على فنيسيه، وقد أصر الاقتصاديون حتى سنة 1865 على تخفيض هذه النفقات ولكنهم لم يستطيعوا أن يخفضوها إلى أقل من 300 مليون ليرة، وكانت البلاد تتطلب مشاريع عامة لإنماء منابعها الاقتصادية كالموانئ وتجفيف المستنقعات وإنشاء الطرق، وكانت الحاجة إلى السكك الحديدية أكثر منها إلى شيء آخر، وقد استنفذت الأشغال العامة والسكك الحديدية معا أكثر من مائة مليون ليرة سنويا بين سنتي 1861 و1867، وتأثرت مصالح البريد والبرق بعجز مالي كبير ولم تبدأ بتسديد نفقاتها إلا في سنة 1865، وقد بلغت فوائد القرض سنة 1861 143 مليونا واتضح أن نفقات الدولة ستبلغ 900 مليون ليرة سنويا.
وقد سعى عقيب سنة 1862 وزراء المالية جميعهم سعيا حثيثا لتخفيض النفقات وكانت مهمتهم شاقة؛ لأن إدارة مالية الدولة كانت مختلة، وعلى الرغم من كل الصعوبات فقد تم تخفيض النفقات بنجاح باهر، وإذا قورنت موازنة 1867 بموازنة 1861 يشاهد المرء اقتصادا في نفقات الإدارة بلغ عشرين مليونا وتخفيضا كبيرا في موازنة النفقات الحربية والبحرية، فبينما بلغت 390 مليونا سنة 1862 نراها بلغت سنة 1867 191 مليونا وبلغ مجموع الاقتصاد في النفقات 251 مليونا من سنة 1861 إلى سنة 1867 أعني: أكثر من الثلث، بيد أن جميع المساعي للاقتصاد أصبحت عقيمة؛ بسبب تضخم الديون العامة تضخما هائلا، فبلغ مجموع هذه القروض سنة 1861 مليارين وربع مليار وقد انتقل نصف هذا المبلغ من دولة بيمونته، وكان يصيب كل شخص 106 ليرات بينما كان - في الوقت نفسه - يصيب كل شخص من فرنسة 252 ليرا، وفي النمسة 161 ليرا، ومع ذلك فإن جميع الموازنات كانت تمنى بعجز مخيف، وفي خلال ثماني سنوات من 1860 إلى 1867 أصبح العجز المتراكم يتفاوت بين ثلاثة مليارات ونصف مليار وأربع مليارات، وسرعان ما ظهر جليا بأن إيطالية بدلا من أن تكتفي بصرف مجموع وارداتها البالغ نصف مليار في عهد الحكومات القديمة أصبحت مضطرة إلى أن تنفق أربعمائة مليون ليرة أكثر من ذلك.
ورغم أن إصلاح الإدارة كان أقل شأنا من القضية المالية إلا أنه كان يمس أساس الحكومة نفسها، ولا شك في أن البيمونتيين كانوا يحتكرون أكثرية الوظائف المهمة وكانوا تعلموا في مدرسة التجارب البصيرة والتدبير، وكانوا نزيهين فعالين إلا أنهم كانوا لا يأخذون بالمقتضيات الحديثة إلا ببطء، وكانوا متمسكين - حسب عادتهم - بالأصول التقليدية وغير محبوبين لخصالهم الحسنة السيئة معا.
وكان لا بد من أن يكون عدد كبير من موظفي الحكومات الملغاة موظفين في الحكومة الجديدة، وقد احتفظ هؤلاء بتقاليدهم التي ورثوها من تلك الحكومات، وقد دخل كثيرون من طلاب الوظائف في مصالح الدولة سنة 1860 فأفسدوا الإدارة بكسلهم وعدم استقامتهم، ومما زاد في الإدارة سوء الطريقة التي اتبعت لأول مرة في التوظيف، والتي تعفي الموظف من تأدية الامتحان قبل انتسابه إلى الوظيفة ولا تصنف الدرجات تصنيفا معقولا، فكان الكاتب الوضيع يرتقي إلى منصب موظف كبير بالقدم والالتماس، ومعنى ذلك اندحار الكفاية أمام المحسوبية، وعليه فإن المكانة الحكومية كانت فاسدة تجعجع ولا تطحن، أولها صرير ولكن بلا إنتاج، وكان معظم رؤساء البلدية وكلاء الحكومة السياسيين وقد جعلهم عدم مسئوليتهم ونفوذهم البالغ خطرا دائما يهدد إدارة المؤسسات الحرة.
وكانت اللامركزية أنجع دواء لإصلاح تلك الفوضى، وكانت الحكومة المحلية كأنها في حالة وقتية كما كانت وخاوية إلى حدبعيد، وكان الانقلاب قد وجد في كل محل حكومة بلدية قوية وكادت توجد في كل محل حكومة إيالة تتصرف مستقلة في طرق المواصلات والتعليم الثانوي وبإدارة المؤسسات الخيرية، على أن تنظيمات الإيالة في طوسكانه ولمبارديه - على الأقل - كانت أرقى ما عليه في بيمونتيه.
ولما أصبح إيجاد نموذج مشترك للدول المختلفة أمرا ضروريا كان التدبير المصيب يقضي بوضع لائحة تحتوي مزايا جميع هذه الأساليب، ولكن القانون المتعجل الذي أصدره رتازي سنة 1859 قد حال دون وضع لائحة من هذا النوع في عناية ودقة، وقد سوى قانون رتازي بين الناحيات مهما كانت سعتها من أكبر مدينة إلى أصغر قرية وجعلها في حالات متشابهة تقريبا، وكانت سلطات مجالس البلدية ولجانها الإجرائية خطيرة الشأن تشمل الإشراف على أرض المنطقة وطرق مواصلاتها والتعليم الابتدائي والحرس القومي فيها والسجلات الانتخابية، وكان النقيب (العمدة) الذي يترأس المجلس يعين من قبل الحكومة، ثم إن الوالي ومجلس الإيالة كانا يتمتعان بسلطة إشراف واسعة جدا، أما مقترحات منجيني فكانت لا تكتفي بتوسيع سلطة المجالس فحسب بل كانت ترمي إلى إنقاذها من إشراف الولاة، أما لائحة ريكاسولي سنة 1861 فكانت تمنحها السلطة لا الاستقلال؛ لأنها تقترح وضع طرق الإيالات والكليات والملاجئ تحت إشرافها ولكن دون أن تنقذها من إشراف الوالي أو النقيب، وبعد انقضاء سنتين رجعت لائحة بيروزي إلى مبادئ أكثر حرية من مقترحات منجيني، فوسعت حق الانتخاب ونحت الوالي والنقيب عن رئاسة المجالس وأضافت مراقبة الأنهر والغابات والوثائق إلى السلطات التي منحت لمجالس الإيالات في لائحة ريكاسولي.
Shafi da ba'a sani ba