أما شريكه ماردوني الذي حكم عليه فيما مضى لثبوت جرائم الغش والسرقات عليه، فكان يرأس الشرطة السرية، وكانت المحاكم تتخذ جميع الوسائل لمطاردة الأحرار، وبلغ الاضطهاد حدا يصح القول معه إن أربعة آلاف من الأهليين كانوا في السجون، وزاد عدد الموقوفين السياسيين على ألف شخص كانوا كلهم في حالة مزرية من حيث السكنى والمعيشة.
وكانت المحاكم النمسوية قد أعدمت منهم مائتي نفر رميا بالرصاص في إيالة بولونيه وحدها، وكانت الحكومة لا تستطيع الاعتماد على جنودها ولا على شرطتها، فالمعتدلون الذين اتخذوا كافور قدوتهم، والجمهوريون الذين اتخذوا مازيني أملهم كانوا يتزعمون جماهير الأهليين كلهم، وكان أنتونللي يعلم جيدا أن القوات النمسوية وحدها هي التي تحمي حكومته من سقوط فجائي.
أما في نابولي فقد قبض فرديناند على زمام الحكم بيد شديدة جدا، وكان مغتبطا بأنه الأمير الوحيد الذي يعلم السر الذي يستطيع به إنقاذ الهيئة الاجتماعية الأوروبية، وأن الثورة لا تقمع إلا بيد من حديد وأن التساهل مع الأحرار ينتهي إلى الخضوع إليهم، ولم يأبه قط للرأي العام الأوروبي الذي كان ينعته بالوحش عدو البشر، وكان يعتبر انسحاب بالمرستون نصرا باهرا لقضية المحافظة على نظام العالم الأدبي، وكان يعتمد على عون قيصر روسية وإمبراطور النمسة، ولا يعبأ بفرنسة وإنجلترة.
أما في صقلية فبعد أن دشن نائب الملك أعماله باضطهاد فظيع أخذ يحاول استرضاء أهل الجزيرة بتخفيف وطأة الشدة، وإصلاح حالة الطرق التي كانت اقتصاديات الجزيرة في أشد الحاجة إليها، وقد أغضب ذلك فرديناند، فاضطر إلى الاستقالة ثانية وعين أحد صنائعه في البلاط بدلا عنه، واشتد طغيان الملك حتى أخذ اليسوعيون أنفسهم يتذمرون منه ويمقتون عليه.
وكان الجواسيس والشرطة زبانيته والآلة في هذا الإرهاق، وأعد سجلات خاصة عن سلوك الموظفين السياسيين، ولما كانت الطبقة الوسطى هي العنصر الحي في البلاد، فقد غدا إرهاقها شغل الملك، ولكن كان يوجه رعايته للطبقات المنحطة وشبه المجرمة ويسخرها في مآربه، فكانت تعتمد عليه وعلى شرطته لتعيش من دون عمل.
وكانت الأمور في الشمال - شأنها في كل وقت - في حالة لا بأس بها؛ ذلك لأن النمسة أخذت على إثر الاحتجاجات التي أقلقت راحتها لمناسبة الحجوز؛ تخفف الوطأة عن الناس، وكف موظفوها عن المظالم الفظيعة وألغي قانون الأحكام العرفية ورفع الحجز عن كثير من الأملاك، وأعيد تأسيس الجمعيات المركزية، ولكن هذا كله لم يرق في أعين القوميين، فكتب مانين من انزوائه: «نحن لا نريد من النمسة أن تكون شفيقة بنا وذات سياسة حرة في بلادنا لأن ذلك فوق قدرتها، حتى إذا هي تمنت ذلك، وإنما الذي نريده منها هو أن تذهب.»
ولا يفوتنا القول بأن صرامة الإدارة العسكرية قد منت التجارة بخسارة فادحة، وظلت الشركات المساهمة مترددة خشية الأزمات السياسية المحتملة الوقوع دائما، وبلغ ما أنفق على الإدارة النمسوية من الضرائب غير الاعتيادية والقروض ثلاثمائة مليون من الليرات خلال السنوات العشرة التي تلت سنة 1849، ومع ذلك فإن الحالة هناك كانت أحسن مما هي عليه في روما ونابولي.
وكادت هذه السياسة التخديرية التي روعيت نكاية بالأحرار؛ أن تخدر البلاد فعلا وتبسط عليها ظلا من الاستسلام الكئيب، وقد استحوذ على الناس شعور عام من الكآبة والتعب، فأرسل مازيني في أيلول سنة 1854 كالفي الشجاع البطل الذي دافع عن مضائق كادورة في سنة 1848 لإيقاد نار الثورة في المنطقة نفسها، إلا أنه قبض عليه وصلب، فكان لهذا الحادث تأثير تثبيط في عزائم الوطنيين، وطلب بعض اللاجئين الذين لم يحتملوا النفي المديد العودة إلى بلادهم فسمح لهم بالعودة، وأعيدت إليهم أملاكهم المحجوزة، بيد أن هذا الخضوع كان سلبيا ظاهريا؛ إذ كان يخفي بطياته حقدا دفينا على النمسويين أشد فعلا وأكثر شمولا من سنة 1840، وتفاهمت الجماعات القومية في ميلانو بعد فشل ثورة 1853 وأخذت تجد في الاستعداد ليوم الخلاص.
وبينما كانت لمبارديه تنتظر اليوم الموعود كانت الدوقيات المجاورة لها ترزح تحت إرهاق شديد ومات شارل الثالث قتيلا بطعنة خنجر، فخلفته الأميرة الوصية، وهذه بدأت عهدها بالوعد بالإصلاحات، ولكن ما كاد يشيع الخبر الطائش بأن غاريبالدي قادم حتى شبت الثورة في العاصمة بارمه.
أما دوق مودينو فرانسوا، فكان في جدال مستمر مع الحجارين في كرارة الذين غضبوا أشد الغضب بانسلاخ أرضهم عن حكم طوسكانه العطوف، ورغم أعمال الشدة التي قام بها فرانسوا وضباطه النمسويون فقد ظلت كرارة وكر الاستيلاء والتذمر، ومثلت في الحركة دورا خطيرا.
Shafi da ba'a sani ba