Wasatiyyat al-Islam wa Samahatuhu - Abdul Aziz Al-Tuwaijri
وسطية الإسلام وسماحته - عبد العزيز التويجري
Mai Buga Littafi
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Nau'ikan
وسطية الإسلام وسماحته ودعوته للحوار إعداد
د. عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
- إيسيسكو -
بسم الله الرحمن الرحيم مدخل تتزايد في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها العالم الإسلامي، الأسباب والدواعي التي تدفع إلى معالجة القضايا والموضوعات ذات الصلة بمبادئ الإسلام وقيمه المثلى في الاعتدال والوسطية والسماحة والدعوة إلى الحوار والتعايش بين الأمم والشعوب، من أجل بناء علاقات دولية سليمة، والعمل على استتباب الأمن والسلام واستقرار المجتمعات الإنسانية، وصياغة مستقبل مزدهر للبشرية بمشيئة اللَّه تعالى، تسود فيه قيم الحق والعدل والمساواة والإخاء الإنساني.
1 / 1
وبقدر ما تتفاقم الأزمات على الصعيد الدولي، ويسود الاضطراب ويعمّ القلق الأسرةَ الدولية نتيجةً لإصرار إسرائيل على مواصلة إرهابها وبطشها بالشعب الفلسطيني قتلًا وتدميرًا وحصارًا، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي وبكل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي تدين عدوانها وإجرامها، تَتَعاظَمُ مسؤولية أولي العلم وأرباب الفكر وحَمَلَة القلم من أبناء الأمة الإسلامية، في تبيان وجه الحق في الموقف المبدئي للإسلام من الإرهاب بجميع أشكاله، وفي توضيح المبادئ الإسلامية في التعاون الإنساني وفي تعامل المجتمع الإسلامي مع المجتمعات التي لا تدين بالإسلام على أساسٍ من الأخوة الإنسانية متين.
1 / 2
وعلى الرغم من تعدّد المناسبات التي نبادر فيها إلى إبراز مبادئ الإسلام وتبليغ رسالته إلى الناس كافة، ونقوم فيها بالكشف عن القيم الإسلامية والمثل العليا للدين الإسلامي الحنيف التي تدعو المسلم إلى التعامل مع العالم كلِّه لكونه الأسرة الإنسانية الواحدة، فإن التأكيد على هذه المبادئ يزيدها رسوخًا في الأذهان، ويمدّ إشعاعها إلى المدى الأوسع، ويوضح حقيقة موقف العالم الإسلامي من الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية والتي ينسب بعضها بالباطل والبهتان إلى الإسلام والمسلمين.
إن التأكيد على هذه المبادئ في هذه الظروف التي يتعرض فيها المسلمون للحملات المغرضة التي تزيف الحقائق، وتشوّه صورة الإسلام، وتروّج للأباطيل والاتهامات والشبهات ضد كل ما له صلة بالإسلام، هو من صميم المهام الحضارية التي ننهض بها. وهذه مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين جميع العاملين في حقل الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي المشترك، وفي الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة.
1 / 3
ولعل في مقدمة ما يجب أن نجلّيه للرأي العام العالمي، من مبادئ الإسلام الخالدة، ثلاثة مبادئ رئيسَة، هي: الوسطية، والسماحة، والدعوة إلى الحوار، وهي المبادئ التي تشكّل منظومة متكاملة من القيم الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان.
وسنتناول في هذا البحث كلَّ مبدأ على حدة، نبيّن حقيقته، ونكشف عن جوهره، ونوضح خصائصه، ونعرض لتأثيراته في المجتمع الإسلامي، وفي العلاقات التي أقامها المسلمون عبر العصور، مع الأمم والشعوب انطلاقًا من أساسه. ثم نعرض بعد ذلك لحاجة البشرية اليوم إلى العودة لهذه المبادئ، حتى يستقر العالم ويعمّ الأمن والسلم أرجاءه، ونعقد مقارنة بين هذه المبادئ، وبين ما جاء في المواثيق والإعلانات والعهود الدولية بهذا الخصوص.
1 / 4
أولًا: وَسَطية الإسلام
في اللغة الوسط للشيء: ما بين طرفَيْه. وجُعلَ الوسط وصفًا للمتصف بالفضائل، فصار معناه الخيِّر الفاضل. ومن شأن هذا أن يكون عدلًا في قضائه وشهادته، يقال رجل وسط وأمة وسط، والأوسط يأتي في معنى الأقرب إلى الاعتدال والقصد، والأبعد عن الغلوّ في الجودة والرداءة ونحوهما (١) .
والوسط: في الأصل هو اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدوَّر، ومن الطرفين في المطوَّل، كمركز الدائرة، ولسان الميزان من العمود، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفَيْ إفراط وتفريط: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (٢): يعني متباعدين عن طرفي الإفراط في كل الأمور والتفريط، ثم أطلق على المتصف بها مستويًا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها (٣) .
وفي القاموس، الوسط: كل موضع صلح فيه (بين) فهو بالتسكين، وإلاَّ فهو بالتحريك، ولا يقع إلا ظرفًا.
وتقوم وسطية الإسلام على قواعد من القرآن والحديث النبوي. يقول اللَّه تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، والمعنى في هذا السياق القرآني ينصرف إلى أمور ثلاثة:
_________
(١) معجم ألفاظ القرآن الكريم، الجزء ٦، ص: ٢٤٨، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، نشر الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة ١٩٩٦م.
(٢) البقرة، الآية ١٤٣.
(٣) كتاب الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية لأبي البقاء الكفَوي (ت: ١٠٩٤ هـ)، تحقيق د. عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ١٩٩٢م.
1 / 5
أولها: الأمة الوسط.
ثانيها: الدين الوسط.
ثالثها: الرسالة الوسط.
فالأمة الوسط التي تدين بالدين الوسط هي ذات رسالة وسطية، تحمل مبادئ الإيمان والحرية والمساواة والتكافل والتضامن بين جميع البشر، وتنشر قيم الخير والفضيلة، وتدعو الناس كافة إلى سواء السبيل، وتسلك بهم الطرق المستقيمة التي توصلهم إلى الأمن والأمان، والسلام والاطمئنان، وإلى سكينة القلب وراحة الوجدان. والأمة الوسط شاهدة على الناس الشهادة التي تؤكد التكليفَ الإلهيَّ، يقول المولى تعالى في تتمة الآية الثالثة والأربعين بعد المائة من سورة البقرة، موجّهًا الخطاب القرآني إلى المؤمنين: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (١) . والشهادة بالحق هي أعلى الدرجات في سلم المسؤولية التي تتحمّلها الأمة الإسلامية وتنهض بأعبائها وتقوم بواجباتها.
_________
(١) البقرة، الآية ١٤٣.
1 / 6
لقد اختار اللَّه الأمة الإسلامية لتكون شاهدة على العالمين، لأنها أمة الوسط، لا تميل إلى التفريط ولا إلى الإفراط، ولأن خيرية الأمة من وسطيتها. يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (١) . فالخيرية في هذا السياق هي الوسطية، واللَّه ﷾ وصف أمة الإسلام بالصفتين معًا، كما وصفها بصفات أخرى في آيات كثيرة.
ولما جعل اللَّه هذه الأمة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب (٢)، كما قال تعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (٣) .
_________
(١) آل عمران، الآية ١١٠.
(٢) مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني، المجلد ١، ص: ١٣٦، دار القرآن الكريم، بيروت، ١٩٨١م.
(٣) الحج، الآية ٧٨.
1 / 7
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، فتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وشعاراتهم، فتفصل في أمرها، فتقول هذا حق منها وهذا باطل، لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم، وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الأخيرة. وبذلك تتحدّد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدرها، وتستعد له استعدادًا لائقًا، وإنها لَلأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي (١) .
_________
(١) في ظلال القرآن، سيد قطب، المجلد الأول، الجزء ٢، صفحة ١٣١، دار الشروق، الطبعة العاشرة، القاهرة ١٩٨٢ م، وفيه شرح مستفيض لآية الوسطية.
1 / 8
لقد جعل اللَّه الإسلام دينًا وسطًا وأمر المسلمين بأن يكونوا خيارًا عدولًا، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها، بلا إفراط، ولا تفريط، في شأن الدين والدنيا، وبلا غلو في دينهم، ولا تقصير منهم في واجباتهم، فهم ليسوا بالماديين، ولا بالروحانيين، وإنما جمعوا حق الجسد وحق الروح، تمشيًا مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسد وروح.
ومن غايات هذه الوسطية وثمرتها: أن يكون المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة، فهم يشهدون أن رسلهم بلَّغتهم دعوةَ اللَّه، ففرط الماديون في جنب اللَّه وأخلدوا إلى الملذات، وحرم الروحانيون أنفسهم من التمتع بحلال الطيبات، فوقعوا في الحرام، وخرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا على متطلبات الجسد.
والحاصل أن الشهادة على الأمم ميزانُها وسببُها وسطية الإسلام، ويؤكدها شهادة الرسول ﷺ على أمته بأنه يزكيهم ويُعلم بعدالتهم (١) .
_________
(١) التفسير المنير، د. وهبة الزحيلي، المجلد الأول، الجزء ٢، ص: ١٠ - ٩، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى ١٩٩١م.
1 / 9
ومن شروط الشهادة في الأمور التي تتعلق بأحوال الناس ومعاشهم وحياتهم العامة: الصدق، والنزاهة، والاستقامة، إلى المعرفة والإحاطة بالظروف والحيثيات والمعطيات كافة. فالعلم مع هذه السجايا الحميدة، من مقوّمات الشهادة، وهذا الشرط لا يتوافر كاملًا مستوفيَ الأركان، إلا عند المؤمن حقًا بالدين الوسط، والذي ينتمي فعلًا إلى الأمة الوسط.
ولعلنا بهذا الربط بين (وسطية الإسلام)، وبين (خيرية الأمة الإسلامية)، نصل إلى إدراك المفهوم العميق لهذا المبدأ السامي من مبادئ الإسلام. وهو مبدأ لم تكن تعرفه الأديان السماوية السابقة على الإسلام، وذلك مما يتطابق تطابقًا تامًا مع الدين الخاتم والرسالة الخاتمة.
ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن على أي نحو من الأنحاء أن الوسطية تعني مستوى من مستويات التوفيق بين قواعد ومبادئ وقيم ومثل نزولًا على مقتضى من المقتضيات، أو أنها ضرب من (التقريب) بين ما تَبَايَنَ واختلف من التشريعات والأحكام. فهذا الفهم للوسطية يجافي حقيقتها ويتعارض مع خصوصيتها.
1 / 10
وجملة القول أن الوسطية هي تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه. يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (١)، أي بمقدار وبميزان، ووفق نظام رباني ومشيئة إلاهية، ولحكمة أرادها اللَّه تعالى. ويقول اللَّه تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (٢) أي وفق تقدير مسبق وثوابت وسَنَن لا تبديل لها. وهذا التوازن الذي يعني في الوقت نفسه الاعتدال، والتكافؤ بين العناصر والمقومات والمكونات جميعًا والتكامل فيما بينها، هو القاعدة الثابتة للوسطية، وهو الخاصية الجوهرية التي تتميّز بها، فإذا انتفى هذا التوازن، فقدت الوسطية عنصرها الأساس، لأنها في هذه الحالة تميل مع الأهواء، فتصبح تفريطًا أو إفراطًا، وهما بابان من أبواب التطرف في أحد الاتجاهين الإيجابي أو السلبي، وإن كان لا خير في التطرف من حيث هو، وإن حسنت النوايا، لأنه شرٌّ كلّه وعاقبته وخيمة في جميع الأحوال.
_________
(١) القمر، الآية ٤٩.
(٢) الفرقان، الآية ٢.
1 / 11
ولقد وضع الخالق تعالى الميزان لهذا الكون، ما نعلمه منه وما نجهل، لتنظيم الحياة وفق نظام رباني يجمع بين الانسجام والتناغم وبين الاعتدال والتوازن، وهو ما يؤكد أن الوسطية أصل النظام الكوني، وأنها عنصر من عناصر الخلق. وكما ينطبق هذا النظام الرباني على الحياة والكون، ينطبق أيضًا على الإنسان بدرجة أولى، بحيث إن المنهج الذي يصلح للإنسان هو المنهج الوَسَطي، وهو ما جاءت به الرسالة الإسلامية الخاتمة التي اشتملت على القواعد والأصول وكليات الأحكام.
فالوسطية هي المنهج الرباني، والنظام الكوني الإلهي، وسنة اللَّه في خلقه، وهي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، ولذلك فالخير كلُّه في الوسطية التي جاء بها الإسلام للأمة الإسلامية وللإنسانية جمعاء، في كل زمان ومكان. وقد بلغت الوسطية الإسلامية وتبلغ هذا المقام في حضارتنا، لأنها بنفيها الغلو الظالم والتطرف الباطل، إنما تمثل الفطرة الإنسانية الطبيعية في براءتها، وفي بساطتها، وبداهتها، وعمقها، وصدق تعبيرها عن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، إنها صبغة اللَّه (١) .
_________
(١) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص: ١٨٩، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٧م.
1 / 12
ثانيًا: في دلالة سماحة الإسلام
في اللغة، السماحة: الجود والكرم والسهولة، وسمح سمحًا وسماحًا: لانَ وسَهُل، والسَّماح التسامح والتساهل. وفي الفقه البيع السَّماح هو البيع بأقل من الثمن المناسب. ومن معاني السماحة أيضًا، سمح العود: استوى وتجرّد من العقد. ففي تاج العروس (سُمح، ككرُم، سماحًا وسماحةً وسموحًا وسموحةً، بالضم فيها، و(سمحًا) بفتح فسكون (وسماحًا)، إذا جاد بما لديه، وكرم (١) . وفي معجم لغة الفقهاء: سماحة مصدر سُمح (بضم الميم وفتحها) الجود والكرم، واللين والسهولة (٢) . وورود (اللين) هنا يفيد نقيض الشدة التي ترهق وتكلف المرء ما لا يستطيع تحمّله من أعباء وتكاليف في حياته. واللين فضيلة من الفضائل المحمودة، وهو منزع من منازع الشريعة السمحاء، وصفة من صفات المؤمن.
_________
(١) تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، المجلد: ٦، تحقيق د، حسين نصار، الكويت، ١٩٦٩م.
(٢) معجم لغة الفقهاء: عربي، إنجليزي، فرنسي، وضعه د. محمد دواس قلعه جي، ص: ٢٢٣ دار النفائس بيروت ١٩٩٦م.
1 / 13
وينفرد صاحب (التعريفات) بإيراد معنى عميق الدلالة رحب المضمون، للسماحة، وهو (بذل ما لا يجب تفضّلًا) (١) . ولعل هذا المعنى هو أقرب ما يكون إلى الكرم والجود. ويلحظ ابتداءً أن الجرجاني أدق في تعريفه السماحة من غيره، لنزوعه كما نعلم إلى التعمق في المفردات والنظر إليها من زاوية أشمل، هي إلى الفلسفة أقرب منها إلى اللغة.
_________
(١) كتاب (التعريفات)، ص: ١٣٧، علي بن محمد الشريف الجرجاني، مكتبة لبنان، بيروت، ١٩٩٥م.
1 / 14
وقد اكتسب مصدر (السماحة) في هذا العصر معنى هو أقرب إلى التساهل بما يعني عدم تعقيد الأمور وجعلها سهلة لينة. وللتساهل معنيان، أولهما إيجابي، وثانيهما سلبي. ونحن نقصد بطبيعة الحال المعنى الإيجابيَّ الذي هو نقيض التفريط والإخلال بالواجب. وبذلك يكون معنى سماحة الإسلام، أو الشريعة السمحاء، هو التسهيل في الأحكام والتكاليف الشرعية، ومراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية، وتخفيف الأعباء عن كاهل الإنسان وعدم تكليفه ما لا يطيق، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (١)، وقوله ﷿: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (٢)، ولقوله عزَّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (٣) . ونحن إذا جمعنا هذه المعاني جميعًا، نصل إلى المعنى العام للسماحة الذي نهدف إليه، وهو المعنى الوافي بالقصد في هذا السياق. وفي ضوء ذلك تكون سماحة الإسلام، هي رحابة مبادئه وسعة شريعته ونزوعه إلى اللين واليسر، وتلبيته لنداء الفطرة واستجابته لمتطلباتها في وسطية واعتدال.
_________
(١) البقرة، الآية ٢٣٣.
(٢) البقرة، الآية ٢٨٦.
(٣) الأعراف، الآية ٤٢.
1 / 15
لقد اشتملت مبادئ الإسلام على منهج للحياة ملائم للإنسان في كل أطواره وظروفه، فيه الرحمة بالإنسان، وفيه هدايته إلى ما فيه الخير والصلاح والقوة والمناعة ضد كل ما يفسد الفطرة ويضرّ بالجسد والروح، وفيه ما يحقق له سكينة الضمير وراحة العقل وطمأنينة النفس، ويضمن له السعادة في الدارين.
ورحمة الإسلام بالإنسان من حيث هو إنسان، إنما تأتي من وسطيته، ومن سماحته، ومن عدالته، ومن تكريمه للإنسان، ومن تأكيده على مبدأ الأخوة الإنسانية النابعة من وحدة الأصل، فمبادئ الإسلام كلها رحمة وسماحة وعدالة بين البشر جميعًا، واللَّه ﷾ خلق الخلق وسخر لهم ما في الكون وبعث فيهم الرسل والأنبياء، وجعل رسوله محمد بن عبد اللَّه ﷺ آخر أنبيائه ورسله مثال السماحة وعنوان الوسطية وميزان العدالة، والرحمة المهداة إلى الإنسانية، إلى أن تقوم الساعة.
1 / 16
ثالثًا: دعوة الإسلام إلى الحوار
تقوم فلسفة الحوار في الحضارة الإسلامية على قواعد ثلاث، هي:
القاعدة الأولى:
الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وتقوى اللَّه، والتواضع للَّه، والثقة في نصره، والاعتزاز بالحق والتشبث به، يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (١)، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (٢) . فاستشعارُ العزة والامتلاء بها، يحفزان إلى الثبات في مواقف الحق، وإلى عدم الركون إلى الباطل أو الانهزام أمام سطوته، ويقوّيان في النفس إرادةَ البقاء الحرّ الكريم، فالمؤمن دائمًا عزيز النفس قويُّ الجانب، حرّ الإرادة، كريم الذات؛ لا يقبل الهوان والانكسار والذلة والصغار، لا في دينه، ولا في نفسه.
القاعدة الثانية:
_________
(١) المنافقون، الآية ٨.
(٢) آل عمران، الآية ١٣٩.
1 / 17
التأدّب بأخلاق الإسلام، والتأسي بسيرة النبي ﷺ، وسِيرة صحابته الكرام، في الحوار ومخاطبة الناس من منطلق الإيمان بوحدة النوع الإنساني أولًا، قال ﷺ: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، والمجادلة بالتي هي أحسن ثانيًا، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (١)، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (٢) .
القاعدة الثالثة:
نشدان الحق والبحث عنه، والسعي إلى الحقيقة والتماسها، والقصد إلى ما فيه الصالحُ العام من شتى الطرق التي ليس فيها انحرافٌ عن محجة الشرع، وبمختلف الوسائل التي تحقّق مصالح العباد والبلاد.
_________
(١) النحل، الآية ١٢٥.
(٢) العنكبوت، الآية ٤٦.
1 / 18
وعلى الرغم من الطبيعة المتشعبة للحوار، فإنه ليس دعوة، ولا مناظرة، ولا مجادلة، ولكنه صيغة جامعة، وأسلوب من أساليب التقارب والتجاوب والتفاعل. ولذلك فإن من شروط الحوار الجادّ الهادف أن يتصف بالحكمة. والحكمة هي جماع العلم والمعرفة، من عناصرها الفطنةُ وحسنُ الفهم، وعمق الوعي وسعة الإدراك، والرشد، والتنبّه، والقصد والاعتدال. يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (١) . وإذا كانت الحكمة هنا قرينةَ الدعوة، فإنها من شروط الحوار أيضًا.
_________
(١) البقرة، الآية ٢٦٩.
1 / 19
وكما ترتبط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فكذلك الحوار قرين الحكمة والموعظة الحسنة في جميع الأحوال. وهذا الارتباط هو من قبيل ارتباط المنهج والمضمون بالوسيلة والأسلوب؛ فالحوار هو الوسيلة والأسلوب، والحكمة هي المنهج، بينما المضمون هو الموعظة الحسنة، وليست أية موعظة، على أي نحوٍ من الأنحاء، ولا بأية طريقة من الطرق، ولكنها موعظةٌ حسنة. وفي السياق القرآني، تتبع الدعوةَ إلى اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلةُ بالتي هي أحسن، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (١) . وينطبق هذا على الحوار انطباقًا كاملًا.
وإذا كانت المجادلة، وهي مقارعة الحجة بالحجة، تأتي في المرتبة الثانية من مراتب الدعوة إلى اللَّه، وكما أن الدعوة لا تتم على الوجه الشرعي، إلا إذا كانت صادرة عن الحكمة، ومقترنة بها، كذلك الحوار لا يكون إلا بالتي هي أحسن، أي أحسن الوسائل وأقوم الأساليب، وأصح الطرق. وهذه هي مبادئ الحوار، وأسسه، وشروطه.
_________
(١) النحل، الآية ١٢٥.
1 / 20