الفصل الخامس عشر
قواعد الأخلاق
لكل فلسفة قواعدها الخلقية، والقواعد الخلقية التي نستنبطها من الفلسفة التي قدمناها في هذا الكتاب تقوم على المبادئ الآتية: الخير هو ما يعمل على الاتحاد، والشر هو ما يعمل على الانفصال. أو بعبارة أخرى، إذا استعملنا الألفاظ التي اصطلحنا عليها في الفصول الأولى، قلنا إن الانفصال هو عدم التحرر، وبغير التحرر لا يستطيع الفرد أن يتحد مع الله أو مع الأفراد الآخرين عن طريق اتحاده بالله. وسوف أحاول في هذا الفصل أن أطبق قواعدنا الخلقية على الحياة.
الخير والشر يقعان في دائرة الحس، وفي دائرة العواطف، وفي دائرة العقل. وهذه الدوائر الثلاث لا يمكن من الوجهة العملية فصلها. ويجب علينا أن نضع هذه الحقيقة دائما نصب أعيننا حينما نقسم المظاهر إلى بدنية وعاطفية وذهنية، كي نتحاشى الخطأ في التفكير.
ولنبدأ بالنظر إلى الخير والشر في دائرة الحس ... نستطيع أن نقول إجمالا أن أي إحساس بدني قوي، سواء كان سارا أو أليما، يدفعنا إلى أن نحصر الفكر فيه، ويكاد المرء أن يصبح ذلك العضو الذي يقع عليه الإحساس دون غيره من الأعضاء، وحينئذ يصبح التسامي بالنفس أمرا عسيرا. إن فرط الألم والسرور يعمل على حرمان النفس من لذة التحرر، ولعل هذا هو ما حدا بالمفكرين الشرقيين إلى الإصرار على صحة البدن كشرط أساسي للاتحاد الروحي بالله. أما المسيحيون فهم على رأيين في ذلك؛ منهم من يرى ضرورة تعذيب الجسم، ومنهم من يصر على ضرورة صحته. ويمثل مؤلف كتاب «سحب الجهل» الرأي الثاني، ويمثل باسكال الرأي الأول؛ فالمرض - عند باسكال - شرط للمسيحية الصادقة؛ لأن المرض يحررنا من النزوات الطائشة، وينقذنا من تشتيت الذهن؛ لأن المرض يحررنا من النزوات الطائشة، وينقذنا من تشتيت الذهن؛ إذ لا شك أن المريض يحصر ذهنه في مرضه، ولا شك أن المرض يبعده عن أماكن اللهو والفساد. ولكن باسكال يتجاهل أن المرض قد يكون عاملا من عوامل تشتيت الذهن ؛ لأنه يبعث على القلق ويسبب الألم. على أن هناك عنصرا من الحقيقة في رأي باسكال؛ فالمرض أو العيب الجثماني - حينما لا يكون كبيرا - قد يذكرنا بأن الدنيا ليست كما يصورها الجانب الحيواني في الإنسان، أو كما تخيلها لنا رغبتنا الشديدة في العلو على الجماعة التي نعيش فيها. والعقل الذي يصل إلى هذا يمكن صاحبه من تركيز إرادته تركيزا لا يستطيعه الرجل العادي، ولما كان باسكال يشيد بقيمة المرض فهو يدافع عن ضرورة إحداث الألم والتدريب على مقاومته. ولكن هذه الطريقة من الخطورة بمكان؛ لأن الألم كثيرا ما نغالبه فيغلبنا، وحينئذ ننتهي إلى عدم التحرر، وهو ما لم نقصد إليه.
أما صاحب كتاب «سحب الجهل» فهو يرى أن المرض عقبة كأداء في طريق الإخلاص لله؛ ولذا فهو إثم من الآثام.
ولا بد لنا ونحن نتكلم عن الخير والشر في دائرة الحس، أن نتعرض للكلام عن الشهوة الجنسية. ليست الشهوة الجنسية نشاطا بدنيا فحسب، إنما هي كذلك نشاط عقلي وعاطفي، وهي قد تكون خيرا في بعض الأحيان، وشرا في أحيان أخرى؛ فهي شر إذا استرسل فيها الشخص، وأدمنها كما يدمن تعاطي الكحول أو المورفين. وذلك لأن المدمن لا يكاد يفكر في شيء سوى وجوده الحيواني المنفصل. والمدمن نهم لا يشبع، وهو عبد لشهوته، تتحكم فيه ولا يتحكم فيها. المدمن يعمى عن صلته بالله وبالكائنات الأخرى، وهو يدرك هذا النقص في نفسه، وهذا الإدراك يضنيه.
والشهوة شر كذلك حينما يتخذها صاحبها وسيلة لإشباع شهوة السلطان والنفوذ؛ فالحب قد يكون وسيلة لفرض إرادة العاشق على معشوقه. ولا فرق في ذلك بين الماركيز دي ساد الذي كان يجد لذة في ضرب النساء بالسياط وإيذائهن بالسكاكين، وبين الأم التي تتودد إلى ابنها كي تبسط نفوذها عليه؛ فالفرق في الحالتين فرق في الطريقة والدرجة وليس في الطبيعة والنوع. إن الإدمان يحط من قدر المدمن وحده، ولكن شهوة السلطان يمتد ضررها منه إلى أولئك الذين يشبع على حسابهم شهوته.
وقد تتخذ الشهوة الجنسية وسيلة لإشباع الغرور الاجتماعي، وذلك - مثلا - حينما يتزوج الرجل من أجل المال أو الألقاب أو النفوذ الاجتماعي؛ فالشعور الجنسي هنا أداة للشره والطمع، وهما رغبتان ملحتان تحجبان الحقيقة عن الفرد الذي يتصف بهما. ومن الناس من يتزوج من المرأة الجميلة أو ذات الامتياز لمجرد التفاخر أمام الناس، وهذا كذلك نوع من الشره، لا يطمع صاحبه في امتلاك المال، وإنما يطمع في امتلاك إنسان بما لديه من صفات ممتازة.
وتساعد الرغبة الجنسية صاحبها أحيانا - فوق إشباع اللذة وشهوة النفوذ - على الاتحاد بالناس وبالعالم المحيط به. من الأقوال المأثورة: «كل الدنيا تحب العاشق.» وعكس ذلك صحيح؛ فالعاشق يحب الدنيا كلها كذلك. ويقول تراهيرن
Shafi da ba'a sani ba