تكلمت فيما سبق على التربية الخلقية والتربية العلمية وتربية العواطف. والآن سأقول كلمة في التربية البدنية، وهي عماد كل أنواع التربية الأخرى. إن الجسم والعقل يكونان كلا عضويا واحدا. ما يحدث في العقل يؤثر في الجسم، وما يحدث في الجسم يؤثر في العقل؛ ولذا وجب أن تكون التربية عملية تدريب بدني وعقلي معا.
فماذا عسى أن تكون طبيعة هذا التدريب البدني؟ هذا سؤال لا تمكن الإجابة عنه إلا في حدود القواعد الأساسية التي قدمناها في هذا الكتاب. ولقد قلت من قبل إن الإنسان المثالي هو الإنسان «المتحرر»؛ وعلى ذلك فإن كل تربية - بما فيها التربية البدنية - يجب في النهاية أن ترمي إلى تحرير الطلاب؛ فإذا أردنا أن نعرف خير أنواع التربية البدنية وجب أن نبدأ ببيان الشروط البدنية للتحرير.
من الواضح أن الرجل العليل لا يمكن أن يكون حرا من القيود؛ ذلك أن الجسم العليل يؤثر في العقل بعدة وسائل؛ وذلك لأن آلام المرض تلزم العليل أن يفكر في علته. والمريض يحسب نفسه دائما دون غيره من الناس، ويرى نفسه ناقصة بمقدار ما في أعضائها من نقائص، وعناء الجسم يسبب عناء النفس.
والجسم هو الأداة التي يستخدمها العقل لإيجاد الصلة بينه وبين العالم الخارجي، وإذا فصحة هذه الأداة تستتبع صحة تلك الصلات. والرجل المريض لا يمكن أن يدرك حقائق الكون، ويقول المتصوفون في الشرق والغرب إن الرجل لا يستطيع التأمل في الوجود إلا إن اتبع قواعد معينة في طعامه وشرابه، واتخذ أوضاعا بدنية معينة؛ ومن ثم كانت خير وسيلة للتربية البدنية هي تلك التي تبعد الناس عن العلة الجسدية.
والإدراك شرط آخر من شروط التحرير. وينبغي أن تعاوننا التربية البدنية على ذلك. ولا شك أن كثيرا من الألعاب يدرب اللاعبين على حصر الذهن ودقة الملاحظة؛ فلاعب الكرة لا يجيد اللعب إلا إذا تدرب على الحركة السريعة الدقيقة، ولا يتوفر له ذلك إلا بالتفكير السريع الدقيق.
وحكم النفس شرط آخر من شروط التحرير. وهو يكون عقليا لأننا لا نستطيع سلامة التفكير إلا إذا تعلمنا أن نبعد عن أذهاننا الأفكار التي ليست لها علاقة بالموضوع الذي نفكر فيه. ويكون حكم النفس كذلك عاطفيا لأننا لا نستطيع صحة الحكم إلا إذا تخلصنا من الحقد والغرور والشهوة والطمع والغضب والخوف وما شابه ذلك. ويكون حكم النفس كذلك بدنيا؛ وذلك كي نتمكن من أداء الحركات في دقة ورشاقة، وعلى صورة لا يمجها الناظرون. والعقل والجسم - كما قلت - شيء واحد؛ ولذا فإن حكم النفس من الناحية البدنية يعاوننا على حكمها من الناحيتين العقلية والعاطفية.
الفصل الثالث عشر
العادات الدينية
الدين وسيلة من وسائل تربية النفس، يعيننا على ترقية الفرد والمجتمع كما يعيننا على الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وعلى توثيق العلاقة بين أنفسنا وبين الكون الذي نحن أجزاء فيه.
هذا هو الدين. فهل تؤدي العقائد والعادات الدينية السائدة إلى هذا الغرض؟ هل تؤدي إلى تقوية الخلق وتقوية الإدراك؟ كلا، وإن أكثر ما نتعلمه ونعمل بمقتضاه باسم الدين فاسد لا يساعد على نشر الخير والفضيلة، ولا ننكر أن هناك عددا قليلا من الناس يستطيعون أن يجعلوا من الدين وسيلة لتحقيق الأغراض النبيلة، وطريقا للوصول إلى بواطن الأشياء وعدم الاكتفاء بظواهرها؛ وذلك لأن الناس يتفاوتون في القدرة على الفهم؛ ولذا فإن الكتب المقدسة والطقوس والشعائر الدينية لها في أذهان الناس معان مختلفة، يصوغونها وفقا لإدراكهم وتجاربهم في الحياة، بل إنهم يستمدون من الكتب المقدسة والشعائر الدينية ما يعزز أهواءهم وميولهم ومعتقداتهم الخاصة.
Shafi da ba'a sani ba