وعنوانه «تستطيع الأمم أن تعيش في أوطانها»؛ فهو عرض منظم لآراء علماء الزراعة المحدثين. يزعم الدكتور ولككس أن الدولة التي تتبع في زراعتها نظم الإنتاج الحديثة تستطيع أن تكفي حاجة سكانها مهما كانت نسبة ازدحامهم؛ أي حتى إن بلغت كثافة السكان أقصى ما بلغته في أي زمان وأي مكان. وقد استخدمت بالفعل الطرق التي اقترحها ولككس في التجارة وأتت بفائدة جليلة. أما الطريقة الزراعية الجديدة التي اخترعها الأستاذ جرك
Gericke
في كاليفورنيا فلا تزال في دور التجربة، وإذا ثبت نفعها فإنا نرجو أن تمدنا بكميات كبيرة من الأطعمة بجهد يسير وعلى مساحة أصغر مما تتطلبه أية طريقة أخرى . وطريقة جرك هذه ثورة على النظم الزراعية المألوفة، إذا قورنت بها الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدت انقلابا تافها.
2
إن الاختراعات الفنية النافعة لا يمكن أن تقاوم. وإذا ثبتت فائدة طريقة جرك هذه فلا شك أنها ستعم جميع البلدان، وربما كان لذلك أثره في استتباب السلام العالمي. بل إني أرى أنه - سواء نجحت هذه الطريقة أو لم تنجح - في استطاعة الأمم بحسن الرأي والتدبير «أن تعيش في أوطانها.» كما يقول ولككس، بل وتعيش - إذا لم ترتفع نسبة المواليد ارتفاعا فجائيا - في رغد لم يسبق له مثيل. ويهمنا في هذا الصدد أن يتنبه القارئ إلى أن الحكومات على اختلافها لم تبذل حتى الآن مجهودا جديا للاستفادة من الطرق الزراعية الحديثة على نطاق واسع، حتى تستطيع أن ترفع مستوى الشعب المادي فتستغني بذلك عن ضرورة الغزو والاستعمار. وفي هذا وحده دليل على أن أسباب الحروب ليست اقتصادية فحسب، إنما هي سيكولوجية كذلك؛ فالأمم تتأهب للحروب لأسباب من بينها أن الحرب تقليد قديم له قوته وسلطانه على النفوس، ومنها أن الحرب مثيرة للشعور باعثة على الاهتمام، كأنها رواية مسرحية تمثل، ومنها تنشئة الشعب على الإعجاب بالروح العسكرية، ومنها كذلك أننا نعيش في مجتمع يعبد النجاح مهما تكن وسيلته، مجتمع يقوم على التنافس أكثر مما يقوم على التعاون. ومن هنا ينشأ النفور من اتباع السياسة الإنشائية التي تعمل على إزالة أسباب الحروب الاقتصادية على الأقل. ومن هنا كذلك يتدفق ذلك النشاط الوافر الذي يبذله الحاكم والمحكوم على السواء في الدعاية لسياسة الهدم وإثارة الحروب، مثل سياسة التسليح وسياسة تركيز السلطة التنفيذية وتجنيد الجماهير.
تحدثت حتى الآن عن النتائج الدولية للخطط القومية البحتة، وعن السياسة التي ينبغي لأولي الأمر أن يسلكوها كي يخففوا سوء هذه النتائج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وسأعالج فيما يلي تلك الخطط القومية من الوجهة الداخلية. لقد تعرض غيري من الكتاب بالتفصيل الدقيق وبالإسهاب العظيم لمشاكل تنظيم الدول من الوجهة الفنية المحضة. ولبحث هذه المشاكل أحيل القراء على الكتب العديدة التي كتبت في هذا الموضوع،
3
ولكني أحب هنا أن أتعرض لموضوع التنظيم القومي من حيث صلته بمثلنا العليا، كما أني أحب أن أتعرض للظروف التي ينبغي أن تتوفر كي ينجح هذا التنظيم ويحقق لنا تلك المثل.
لقد أوضحت في الفصل الذي كتبته عن «الإصلاح الاجتماعي والعنف» أن أكثر الناس محافظون على القديم، وأبنت أن كل تعديل في نظام المجتمع - مهما يكن طيبا - يثير المعارضة، وأن أية خطة تفرض على الناس بالعنف والشدة لا تؤدي إلى النتائج المرجوة منها. ويستتبع هذا أولا أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي إصلاح إلا إن كان ضروريا جدا، وثانيا ألا نفرض على الناس إصلاحا يثير فيهم المعارضة والمقاومة، مهما يكن هذا الإصلاح ضروريا، اللهم إلا إن كان ذلك تدريجا وبدرجة غير محسوسة. وثالثا عند الإصلاح ينبغي أن نتخذ الوسائل التي تعودها الناس وألفوها من قبل.
ولنطبق الآن هذه القواعد العامة على أمثلة معينة من التنظيم الاجتماعي، ولنطبقها أولا على الخطة الكبرى لكل المصلحين المحدثين - وهي تحويل الجماعة الرأسمالية التي تقوم على مبدأ الكسب الشخصي إلى الجماعة الاشتراكية التي تضع المصلحة العامة في المحل الأول.
Shafi da ba'a sani ba