Magadan Mamalik Mansiyya
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Nau'ikan
يطلق على أحد الأعياد المندائية اسم «الأيام البيضاء» وهو إحياء لذكرى الأيام الخمسة التي يعتقد المندائيون أن العالم قد خلق فيها. أثناء طفولة نادية، كان هذا العيد في شهر أبريل (لا يحتوي التقويم الديني المندائي على سنوات كبيسة؛ لذلك تنتقل تواريخ أعياده بشكل طفيف جدا من سنة شمسية إلى أخرى)، وأخذها والداها هي وشقيقها عائدين إلى مسقط رأسهما للاحتفال مع العائلة الكبيرة. وصفت لي نادية منازل البلدة الصغيرة، التي كان بعضها يتمتع باللون البني ذاته الذي تتسم به الحقول والأنهار، وكان البعض الآخر مصنوعا من البوص. عاش مندائيو البلدة معا في منطقة واحدة. كان الأطفال يلعبون في الطريق ويتنقلون من منزل إلى آخر طلبا للطعام أو الحلوى. ولو حالفهم الحظ، فربما كانوا يتحصلون على ما يختص به المندائيون، وهو بط المالارد البري المحشو بالقرفة والحبهان، والبصل المفروم، والمكسرات، والزبيب، المسلوق بالليمون المجفف والكركم. وللسيطرة على الأطفال، كان الكبار يحذرونهم من أنهم إذا أساءوا التصرف، فإن فرسان الصحراء المتوحشين سيمسكونهم ويخطفونهم.
رجل مندائي صوره ويلفريد ثيسيجر في الأهوار العراقية، وهو يضع القار على قارب، مثلما كان جد نادية يفعل يوما ما. الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
تعد الأيام البيضاء عيدا بهيجا، لكن رأس السنة المندائية عيد ديني يتسم بجانب أكثر رعبا . إذ يقال إن الشر يجوب الأرض مدة ست وثلاثين ساعة في هيئة روح أنثى تسمى روها. وتماشيا مع التقاليد، حاول والدا نادية إجبارها على البقاء في المنزل في هذا الوقت، ولكن دون جدوى. قالت لي: «لم آخذ الأمر على محمل الجد. لكن قيل لي إن روها قد تتمثل في هيئة دبور، أو نحلة، أو شجرة، أو طائر وتحاول إيذائي. أو قد تصدمني سيارة. لقد كان الخروج من المنزل في ذلك الوقت نذير شؤم.» حتى في منزلها العلماني، لا يزال هذا المقدس/المحرم تحديدا يتمتع ببعض القوة.
وبالإضافة إلى العيد السعيد والعيد المخيف، لدى المندائيين عيد حزين أيضا. ففي اليوم ذاته الذي يحيي فيه المسلمون الشيعة ذكرى عاشوراء - يوم الحداد على وفاة الحسين، حفيد النبي، وإخفاقهم في مساعدته - يندب المندائيون أيضا، ويحضرون وجبة خاصة من حساء الشعير المقشور، يطلق عليها اسم «أبو الحارث». بل إنهم ينضمون أحيانا إلى مواكب الشيعة. لديهم تفسيرات مختلفة لما يحيون ذكراه بالضبط في ذلك اليوم - كان كل ما تعرفه نادية «أنه إحياء لذكرى وقت مفعم بالتوتر» - لكن بعض المندائيين يعتقدون أنه إحياء لذكرى غرق جنود فرعون في البحر الأحمر. وبينما يعتبر اليهود هذه الحادثة سببا للاحتفال، فإن المندائيين - لسبب لا يعرفونه هم أنفسهم - أصبحوا يتعاطفون مع المصريين. (كانت أيام حداد كتلك شائعة سابقا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فقد اعتاد البابليون على تعنيف أنفسهم مرة كل عام بسبب تخليهم عن جسد نبي وثني، وهي فعلة اعتقدوا أنها تسببت في الطوفان العظيم.)
حضرت نادية وعائلتها أيضا مع بقية الطائفة لتقديم الدعم المعنوي للرجال المندائيين الذين كانوا يحاولون دخول الكهنوت. كانت مراسم الانضمام عملية شاقة. فمن يطمح لهذا الأمر يتعين عليه أن يقضي سبعة أيام في كوخ من القصب دون طعام أو نوم. حينها يحتاج إلى دعم أفراد الطائفة: حيث يقف بعضهم خارج الكوخ يقرعون الطبول ويهتفون للتأكد من بقائه مستيقظا، وتزغرد النساء. ويبقى «الجنزيبرا»، وهو ما يعادل أسقفا مندائيا، مع الشخص المتطلع للانضمام إلى الكهنوت وينقش إحدى وعشرين كلمة مؤثرة بعصاه المصنوعة من خشب شجر الزيتون على أرض الكوخ الترابية: فهي سرية للغاية بحيث لا يمكن الجهر بها، وعندما يتعلمها يكنس الجنزيبرا الغبار لضمان عدم تمكن أي شخص آخر من قراءتها. ولإكمال التلقين يجب على الشخص المتطلع لذلك أن يأكل وجبة شعائرية، متبعا مجموعة معقدة ودقيقة من التعليمات. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، يجب أن يطلق لحيته وأن يلتزم بقواعد الطهارة الصارمة.
لكن يوجد مستوى أعلى من القداسة والمعرفة، متاح فقط لأولئك الذين عينوا في رتبة الجنزيبرا، مثل الشيخ ستار. وهذا منصب لا يستطيع أي رجل حي منحه في التقاليد المندائية. ويجب إرسال رسول إلى الحياة الآخرة لطلب الإذن بذلك. حيث يبحث من يرغب في تولي منصب الجنزيبرا عن شخص على وشك الموت ويخبئ زجاجة من الزيت المقدس في جيب الثوب المزين بالذهب والفضة الذي يجب على المندائيين المحتضرين ارتداؤه. ويجب أن يقول الكاهن: «أحضرتها إليك، وأنت ستحملها إلى أباثر.» ويكتمل الطقس بعد وفاة الرسول ووصول روحه إلى أباثر، ديان الأموات، الذي يتلقى منه تأكيدا لطلب المتطلع إلى منصب الجنزيبرا.
يمكن للرجال فقط الانضمام للكهنوت المندائي، ويمكن للرجال فقط الزواج من غير المندائيات مع الاستمرار في نقل الدين إلى أطفالهم. وتحرم المرأة التي تتزوج من الخارج من التعميد، ولا يمكنها أن تعمد أطفالها. ارتأت نادية أن عدم المساواة هذه بين الجنسين لم تكن الروح الأصلية للمندائيين. وللتأكد من ذلك، رجعت إلى الكتب المندائية المقدسة؛ فبدلا من أن تكون حواء مخلوقة من ضلع آدم، كما ذكر في سفر التكوين، تقول النسخة المندائية إنهما خلقا معا. وقالت لي: «أنا متأكدة أنه في وقت ما، كان يمكن للنساء المندائيات أن يصبحن كاهنات، وليس الرجال فحسب.» كانت على حق؛ ففي كتاب يوحنا، غيرت امرأة يهودية دينها إلى المندائية وأصبحت كاهنة. (وبالمثل، في بابل القديمة، كان بإمكان النساء أن يعملن كاهنات. وبالإضافة إلى ذلك، بلغت النساء أحيانا مناصب سلطة علمانية في الشرق الأوسط القديم. فقد كان للبحرية الفارسية القديمة أميرال أنثى - تدعى أرتميسيا ، في القرن الخامس قبل الميلاد - وفي القرن الثالث الميلادي، كان لمدينة تدمر ملكة قوية، اسمها زنوبيا.) •••
إن أهم طقس مندائي على الإطلاق هو التعميد. وتقول إحدى وجهات النظر عند المندائيين إنهم انتهجوا هذه الممارسة من أتباع يوحنا المعمدان اليهود الفارين شرقا من الاضطهاد الروماني؛ وثمة رأي آخر يقول إنه ربما كان التغطيس في مياه نهر دجلة ممارسة قديمة في العراق ذاته، كما كان في مصر. ومن المؤكد أن التقاليد المصاحبة للطقس هي تقاليد مندائية بصورة مميزة. وكما كان يفعل الكهنة لأطفال العراق في عصور ما قبل المسيحية، عندما ولدت نادية قرأ قس النجوم واستخدمها لاستنباط برج لها. وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها، استخدم كاهن آخر في بغداد ذلك البرج ليختار اسما سريا لها، ألا وهو «ملواشة». وبينما كانت جالسة القرفصاء في مياه نهر دجلة، مرتدية حزاما حول خصرها، وخاتما من أوراق الآس في إصبعها، وثوبا أبيض يغلف رأسها وجسمها، غمرها في الماء ثلاث مرات، ورسم علامة على جبهتها بالماء ثلاث مرات، وجعلها تبتلع ماء النهر ثلاث مرات، وتوجها بنبتة الآس، وصلى عليها، وسماها. قالت لي: «سيكون هذا اسمي في الدين، طوال حياتي وما بعد ذلك.»
نادية (أقصى اليمين) تستعد لتعميدها في بغداد عام 1991. إنها ترتدي الحجاب بسبب قداسة المناسبة، وتحمل غصنا من نبتة الآس. خلف المجموعة، صورة تظهر تعميدا قيد التنفيذ. الصورة مهداة من نادية قطان.
كانت أربعة جوانب من هذا الطقس مألوفة لأي بابلي في الألفية الأولى قبل الميلاد. الأول هو اللغة التي يؤدى بها. وقد تعرفت على هذه اللغة عندما ذهبت لفحص الكتب المندائية المقدسة المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. وبسبب حالة الكتب المهترئة، استغرق الأمر بعض الإقناع قبل أن يسمح لي الموظفون بالاطلاع على أحدها. وبينما كنت أقلب في صفحاته، فكرت في أن الكاتب المندائي الذي نسخها بعناية كبيرة في القرن السابع عشر، تاركا مسافة بين أسطره وكاتبا كل حرف بمهارة، كان سيصاب بالفزع عندما يراني أقرؤها. فلم يكن مسموحا سوى للمندائيين المنضمين للكهنوت أن يطلعوا على هذه النصوص.
Shafi da ba'a sani ba