Magadan Mamalik Mansiyya
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Nau'ikan
وعودة إلى التكهن الذي بدأت به المقدمة: كيف كان يمكن أن يختلف العالم لو (مثلا) لم يصبح الإمبراطور قسطنطين مسيحيا سنة 312، وهو الحدث الذي أدى إلى اعتناق الإمبراطورية للمسيحية بوصفها دينا رسميا؟ كان سيظل العديد من المسيحيين موجودين بالطبع، ولكن ربما كانت أعدادهم تضاءلت بسبب الاضطهاد. وربما كانت اليهودية ستصبح ديانة عالمية رئيسية، مقرها العراق، وتتناحر من وقت لآخر مع السامريين (الذين كان عددهم سيصل إلى الملايين، ويسيطرون على ما يعرف الآن باسم إسرائيل، وربما جنوب سوريا أيضا). وما كان بعض الناس ليكتفوا بالقراءة للفلاسفة اليونانيين؛ بل كانوا سيعبدونهم أيضا. أما فيما يتعلق ببقيتنا، فربما كنا سنتبع ديانة غامضة، ديانة لا تعترف بحقائقها إلا لشيوخ مختارين. ما تقدمه تلك الديانة ليس علاقة شخصية مع الله بقدر ما هو فرصة للاستفادة من القوى التي يتمتع بها أولئك القلة من المسنين المتقشفين والمتدينين الذين يتمتعون بمثل هذه العلاقة. فقد كان العديد من هذه الديانات من بين المنافسين الأوائل للمسيحية، بما في ذلك المانوية. يقدم الفصل التالي فكرة عما يكون عليه الحال في وجود مثل هذه الديانة.
الفصل الأول
المندائيون
في المقهى المعتم لفندق الرشيد في بغداد، نظر إلي رئيس كهنة المندائيين، وشقيقه، وابن عمه طالبين مساعدتي. لم يكونوا يعرفون مدى شعوري بالفخر لمقابلتهم. هنا، أمامي، حضر ممثلو واحدة من أكثر الديانات غموضا في العالم. ولأنهم كانوا يعبدون إلها واحدا، ويمارسون التعميد، ويعتبرون يوم الأحد يوما مقدسا لهم، ويوقرون نبيا يدعى يوحنا، فقد أخطأ المبشرون الأوروبيون في القرن السادس عشر في اعتبار المندائيين مجرد طائفة أخرى من الطوائف المسيحية العديدة والمتنوعة في المنطقة. في الواقع، ديانتهم منفصلة تماما عن المسيحية. فهم يؤمنون بالجنة، لكنهم يسمونها «عالم النور »، وبوجود روح شريرة، لكنها مؤنثة، على عكس إبليس، وتدعى روها، وبالتعميد بوصفه شرطا ضروريا لدخول «عالم النور»، على الرغم من أنه عندهم يجب أن يكون في مياه جارية، بينما الأطفال الذين يموتون بلا تعميد يتعزون إلى الأبد بأشجار تحمل ثمارا على شكل أثداء أمهاتهم. ويوحنا الذي يتبعونه هو يوحنا المعمدان، وليس يوحنا الإنجيلي، وعلى الرغم من تقديم المعمدان في النصوص المسيحية على أنه تابع ليسوع، فالمندائيون يرونه نبيا أعظم شأنا. وبعد سماع الإنجيل المسيحي الذي يقول فيه يوحنا المعمدان إنه ليس أهلا لأن يحل سيور حذاء يسوع، أعرب أحد المندائيين، الذي عاش في القرن التاسع عشر واعتنق المسيحية، عن سخطه. وسأل الكاهن بعد القداس: «أليس عيسى ويحيى» - الأسماء العربية ليسوع ويوحنا - «ابني خالة، ومن ثم فهما متكافئان؟ أليسا في «عالم النور» معا؟»
تعميد مندائي في نهر دجلة. حقوق الطبع والنشر: أوليج نيكيشين/جيتي إيمدجز.
يزعم المندائيون أنهم من نسل شيث، ابن آدم، وأنهم تلقوا تعاليم سرية انتقلت من آدم في جنة عدن. وعندما يهمس كاهن مندائي في أذن أحد أتباع الديانة، في يوم أول تعميد لهذا الشخص، بالاسم المقدس لذلك الشخص، الاسم الذي يجب ألا يكشف عنه أبدا إلا لأقرب أفراد الأسرة، فإنه يقوله بلغة بابل القديمة. وعندما يلتقط من على رفه أحد الكتب المقدسة، الذي يحتوي على أساطير وحوارات كانت سرية جدا لدرجة أنها لم تدون مطلقا قرونا عديدة، فإنه يقرأ الكلمات التي ظل المندائيون يرددونها أكثر من خمسة عشر قرنا. وعندما يتناول وجبة مقدسة، مؤديا الطقوس بالترتيب الدقيق اللازم لخلاص الأرواح، فإنه يفعل كما فعل أسلافه على مدى أجيال. وتربط هذه الطقوس في وقتنا الحاضر بالماضي البعيد قبل المسيحية، وبالمأدبة الجنائزية للميثرائيين والمصريين، وبتعاليم المانوية، الديانة المنقرضة الآن التي كان لها فيما مضى أتباع حتى في أماكن بعيدة مثل الصين، وكانت تتنافس مع المسيحية على ولاء القديس أغسطينوس.
لقد صادفت هذه الديانة الاستثنائية في ظروف غير مواتية للغاية. ففي عام 2006، كنت أنصهر من حرارة بغداد المغبرة، أعاني، ليس من الخوف ولكن من الإحباط. كانت الأسلاك الشائكة تحاصر عالمي؛ في المنطقة الخضراء، وهي المدينة الفاسدة للقرن الحادي والعشرين، التي تبلغ مساحتها خمسة أميال مربعة مليئة بالحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة، وجسور الطرق السريعة التي تنتهي في الهواء حيث فجرتها قنبلة، وأنفاق مسدودة لاعتراض سبيل الدخلاء. في هذا المكان، الذي كان يوما ما ضاحية مبنية خصوصا للديكتاتور السابق صدام حسين وأتباعه المقربين، كانت حمامات السباحة وقتئذ مردومة تماما، وقسمت القصور المبهرجة، وأخليت حديقة حيوانات خاصة لإفساح المجال أمام فيلق دائم الزيادة من البيروقراطيين الغربيين الذين كانوا، عندما يشعرون بالإنهاك بسبب قضاء أيام طويلة أمام شاشات الكمبيوتر الخاصة بهم، يقوون أنفسهم أحيانا بوجبات سرطان البحر الذي نقل جوا من أمريكا أو بمشروبات كحولية تقدم في حانات لا تسمح بدخول العراقيين، حيث يترنح الزبائن الذكور الذين يشكلون أغلبية ساحقة في المكان وينصبون جميعا قاماتهم كلما دخلت امرأة.
كان لدي على الأقل مصدر إلهاء يتمثل في العمل في مكتب كل موظفيه من العراقيين. وخلال شهر رمضان، عندما لا يأكلون ولا يشربون أثناء النهار، كنت أحيانا أتسلل خلسة إلى المطبخ، حريصا على عدم جرح مشاعرهم، ولكنني بحاجة إلى المشروبات الغازية الغنية بالسكر لطرد النعاس. فيما عدا ذلك، حاولت أن أحذو حذوهم، وصولا إلى النقطة التي كانوا يضطرون فيها إلى مغادرة المنطقة الخضراء الآمنة. في أمسيات رمضان كنا نتناول طعام الإفطار معا، حيث كانت تتعاظم متعة التمر والحساء البسيط إن تمكنت من الصمود طوال اليوم دون تناول الطعام. حاولت تقليد اللهجة البغدادية المعقدة، ذات الحروف المتحركة العميقة، وتعلمت التنقل بين الأروقة المتهالكة لمختلف المصالح الحكومية، وأعددت نفسي للتعامل مع الأخبار المروعة التي كانت تأتي كل يوم من العالم خارج ذلك المكتب، حيث كانت عصابات المسلمين السنة والشيعة تتقاتل على السيطرة. كل يوم كانت ترد أنباء عن مآس جديدة: رأس فتاة مقطوع، مزروع بالمتفجرات بحيث أصبح فخا ملغوما لأفراد عائلتها عندما حاولوا استعادته؛ ورجال مخطوفون يطلق سراحهم مقابل فدية، ولكن بعد اقتلاع أعينهم وقطع أيديهم وأرجلهم.
كل هذا كان يحدث في المكان الذي بدأت فيه الحضارة منذ أكثر من سبعة آلاف عام. إذا قارنا التاريخ المسجل بالمناظر الطبيعية، فسيمثل العراق جبل إيفرست: مثلما تبدو الجبال الأخرى صغيرة أمام جبل إيفرست، فحتى التاريخ القديم يبدو حديثا مقارنة بتاريخ العراق. ماذا عن سفينة نوح؟ تتحدث الأساطير العراقية القديمة عن طوفان عظيم وعن رجل يدعى أوتنابيشتيم نجا منه في مركب عظيم. الأسطورة، التي انعكس أثرها على رواية نوح في الكتاب المقدس، كانت مستندة إلى حقيقة. فقد تعرضت مدن العراق المنخفضة لطوفان مدمر. واكتشف عالم الآثار ليونارد وولي أدلة على مثل هذا الطوفان عندما حفر فريقه في أنقاض مدينة أور في عشرينيات القرن الماضي ووجد ثمانية أقدام من التربة النظيفة بين طبقتين من الأدوات المصنوعة من الفخار والصوان. كما سجل بفتور، قائلا: «جاءت زوجتي ونظرت ... واستدارت معلقة بعدم اهتمام: «حسنا، بالطبع، إنه «الطوفان».» قد يكون من الأصدق أن نقول إنه كان «طوفانا»، لكن أساس القصة الإنجيلية هو بالتأكيد العراق، التي كانت حضارتها بالتبعية أقدم من الطوفان.»
ماذا عن الأهرامات؟ إنها يافعة بالمقارنة بمدن جنوب وسط العراق، التي ظهرت في وقت مبكر يعود إلى سنة 5300 قبل الميلاد - قبل ثلاثة آلاف سنة من بناء الفرعون خوفو للهرم الأكبر. كانت مدن العراق تكاد في قدمها بالنسبة إليه توازي قدم توت عنخ آمون بالنسبة إلينا. إن العادة العراقية في البناء بالطوب اللبن، في مناخ أقل جفافا بكثير من مناخ مصر، هي التي تسببت في انهيار آثارها العظيمة بينما بقيت الآثار المصرية.
Shafi da ba'a sani ba