مقدمة الكتاب في السبب الموجب لوقعة الجمل قال الشيخ المفيد (1) رحمه الله في إرشاده (2):
روي عن أبي ذر جندب بن عبد الله الغفاري (رضي الله عنه) قال:
دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالمدينة في زمن خلافة عثمان رضي الله عنه فرأيته مطرقا رأسه - كئيبا - فقلت له: جعلت فداك، ما أصاب قومك؟!
فقال عليه السلام: صبرا جميل والله المستعان.
Shafi 63
فقلت: والله إنك لصبور.
قال: (فماذا أصنع؟!).
قلت: قم وادع الناس إلى نفسك، وأخبرهم أنك أولاهم بالقيام وأحقهم بالأمر، لما فضلك الله تعالى عليهم وعظم شأنك فيهم، وقد سبق لك النص الصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أماكن عديدة سمعوها منه صلى الله عليه وسلم.
فإن دان لك الكل وتم لك الأمر ذلك ما كنا نبغي، وإلا فلا بد من أن يجيبك عشرة فتميل بهم على المتمردين إخوان الشياطين، فينصرك الله تعالى عليهم، لأنك على الحق وهم على الباطل، وهو قوله تعالى:
ويحق الله الحق بكلمته ولو كره المجرمون (1). وقوله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (2).
فقال عليه السلام: (أتراه يا أبا ذر؟!).
قلت: والله، إني لأرجو لك من الله ذلك.
قال عليه السلام: (إني لا أرجو من كل مائة اثنين، ألست تعلم من أين ذلك؟، إنما تنظر الناس إلى قريش، وإن قريشا تقول: إن آل محمد
Shafi 64
يرون لهم فضلا على سائر الناس، وإنهم أولى بالأمر من دون قريش، وإنهم إن ولوه لم يخرج عنهم هذا السلطان إلى أحد أبدا، وحتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، ولا - والله - لا تدفع قريش إلينا السلطان وهم خاضعون أبدا).
فقلت: أفلا تأمرني أرجع في آخر الناس بمقالتك هذه، فأقم وادعهم إليك.
قال [لي]: (يا أبا ذر، ليس هذا زمان ذلك).
قال أبو ذر رحمه الله: فمضيت إلى العراق، فكلما حدثت الناس بشئ من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه التي أوجبها الله تعالى له على عباده بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، زبروني وأهانوني، حتى إنهم رموني إلى الوليد بن عقبة فحبسني (1).
قال جدي حسن المؤلف (طاب ثراه) (2): وفي يوم السبت ثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 من الهجرة بايعت الناس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من المهاجرين والأنصار وقوم من قريش وغيرهم، فمنهم من أظهر الوفاق وهو مصر على النفاق.
فأمر عليه السلام كاتبه عبد الله بن رافع بتقسيم ما في بيت المال على المهاجرين لكل رجل ثلاثة دنانير، ثم على الأنصار مثل ذلك، ثم من
Shafi 65
حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فيما صنع به مثل ذلك.
فقال سهيل بن حنيف الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس فأعتقته اليوم (1).
فقال عليه السلام: نعطيه كما نعطيك، فأعطاه ثلاثة دنانير ولم يفضل أحدا على أحد.
وقد تخلف يومئذ عن المبايعة له عبد الله بن الزبير، وجماعة من قريش، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وأسامة بن زيد، وغيرهم من قريش.
فصعد عليه السلام المنبر، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه السلام (2):
(أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع (3) عليه غيري من كان قبلي، وإنما الخيار إلى الناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة (4) وعلى الرعية الإطاعة والتسليم، وهذه بيعة عامة، فمن رغب عنه رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل الهدى (5)،
Shafi 66
ولم تكن بيعتكم لي فلتة وليس أمري وأمركم واحدا، ألا وإني أريدكم لله عز وجل وأنتم تريدونني لأنفسكم، وأيم الله، لأنصحن (1) للخصوم، ولأنصفن للمظلوم (2)، وقد بلغني عن (عبد الله وسعد ومروان ومحمد وحسان وأسامة) (3) أمور كرهتها، والحق بيني وبينهم).
قال: فجلسوا جميعا، وتحدثوا نجيا، ثم جاء إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقال: يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعا! أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا، وخذلت أخي يوم الدار.
وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور (4) قريش.
وأما مروان فسخفت (5) أباه عند عثمان إذ ضمه إليه (6).
ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما قد صنعنا، وأن تقتل قتلة
Shafi 67
عثمان، فإنا إن خفناك تركناك والتحقنا عنك إلى غيرك.
فقال عليه السلام: (أما وتري فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم [ما أصبتم فليس علي] أنه مالي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وما قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم لقتلتهم بالأمس، ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم وإن خفتكم أن أسيركم... فمضى الوليد إلى أصحابه وأخبرهم فتفرقوا على إظهار العداوة [وإشاعة الخلاف] (1)، وكتبوا إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام يستنهضونه في طلب دم عثمان، وأوعدوه بالقيام معه وأن يكونوا له أعوانا وأنصارا، فأجابهم إلى ذلك إلا أنه المأثور (2) عليهم.
إخبار الإمام علي عليه السلام بنقض القوم بيعتهم فجاء عمار بن ياسر إلى أبي الهيثم وأبي أيوب وسهيل بن حنيف وجماعة من المهاجرين والأنصار، وقال: اعلموا أن هؤلاء النفر قد بلغنا عنهم ما هو كذا وكذا من الخلاف والطعن على أمير المؤمنين عليه السلام، فقاموا وأتوا إليه، وقالوا: يا أمير المؤمنين انظر في أمرك وعاتب قومك هذا الحي من قريش فأنهم قد [نقضوا بيعتهم لك وخالفوا أمرك] (3)، وقد دعونا في السر إلى رفضك، [فهداك الله إلى مرضاته وأرشدك إلى
Shafi 68
عباده] (1)، وذلك لأنهم كرهوا الأسوة، وفقدوا الأثرة، لما واسيت بينهم وبين الأعاجم، أنكروا واستشاروا عدوك وعظموه، وأظهروا الطلب في دم عثمان فرقة للجماعة وتأليفا لأهل الضلالة، [فرأيك منهم سديد، ونحن معك على كل باغ عنيد] (2).
فخرج عليه السلام ودخل المسجد مرتديا بطاق، مؤتزرا ببرد قطري، متقلدا بسيفه، متنكبا على قوسه، فصعد المنبر، وقال:
بعد أن حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم (أما بعد، أيها الناس، فإنا نحمد الله ربنا وإلهنا وولينا وولي النعم علينا، الذي أصبحت نعمته علينا ظاهرة، وباطنة امتنانا منه بغير قول منا ولا قوة لنشكر أم نكفر، فمن شكر زاده، ومن كفر عذبه، فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره وأعلمهم بطاعته واتبعهم لسنة [نبيه محمد رسوله] (3) صلى الله عليه وآله، وأحياهم لكتابه ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فينا، لا يجهل ذلك إلا جاهل معاند عن الحق منكر للصدق، قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم.
Shafi 69
ثم إنه عليه السلام صاح بأعلى صوته: [يا أيها الذين آمنوا] (1) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين.
ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار، أتمنون على الله [ورسوله] (2) بإسلامكم بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين. ثم قال عليه السلام: أنا أبو الحسن، (وكان لا يقولها إلا إذا غضب) (3). ثم قال: إلا أن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، فلا تغرنكم [الحياة الدنيا] (4) فقد حذرتموها فاستتموا نعم الله بالصبر لأنفسكم على طاعة الله، والذل لحكمه جل ثناؤه.
فأما هذا الفئ فليس لأحد على أحد فيه أثرة وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه).
ثم إنه عليه السلام نزل عن المنبر وصلى ركعتين (5).
Shafi 70
مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام للزبير وطلحة ثم بعث عليه السلام عمار بن ياسر وعبد الرحمن بن حسل إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وهما في ناحية من المسجد، [فأتيا بهما] (1) فجلسا بين يديه، فقال عليه السلام لهما:
(نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟) قالا: نعم.
قال: (غير مجبورين ولا مقهورين (2) فأسلمتما لي بيعتكما، وأعطيتماني عهدكما)؟ قالا: نعم.
قال: (فما دعاكم بعد هذا إلى ما أرى).
قالا: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقضي الأمور ولا تقطعها من دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، [فرأيناك قسمت القسم وقطعت الأمر وقضيت بالحكم بغير مشاورتنا ولم تعلمنا] (3).
فقال عليه السلام: (لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا، فاستغفرا الله يغفر لكما.
Shafi 71
ألا تخبراني أدفعتكما عن حق وجب لكما علي (1) فظلمتكما (2) إياه؟). قالا: معاذ الله!
قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشئ؟
قالا: معاذ الله.
قال: (أفوقع حكم في حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟) قالا: معاذ الله.
قال: (فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟) قالا: نعم، خلافك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القسم، لأنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله بأسيافنا ورماحنا، وقد أوجفنا عليه بخيلنا [ورجلنا وظهرت عليهم دعوتنا وأخذناه قسرا وقهرا] (3) ممن لا يرى الإسلام إلا كرها عليه.
فقال عليه السلام: ([أما ما ذكرتما أني أحكم بغير مشورتكما] (4) فوالله ما كان لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة، فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله
Shafi 72
فأمضيت ما دلاني عليه فأتبعته ولم أحتج إلى رأيكما فيه ولا أرى غيركم، ولو وقع ما ليس في كتاب الله بيانه، [ولا في سنة رسول الله برهانه] (1)، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه.
وأما القسم والأسوة وأن ذلك [لم أحكم فيه بادئ بدء] (2) وقد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به، [وهو الكتاب] (3) (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأما قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا. فقديما سبق إلى الإسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسم ولا آثرهم بالسبق والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة، وليس لكما والله عندي ولا لغير كما إلا هذا، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر.
ثم قال عليه السلام: رحم الله امرءا رأى حقا فأعان عليه، ورأى جورا فرده وكان عونا للحق على من خالفه) (4).
(لعل المراد قوله عليه السلام فقديما سبق إلى الإسلام يعني به نفسه، حيث
Shafi 73
لم يسبق إليه سابق ولم يلحق بأثره في جميع ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحق، فإنه عليه السلام جميع أعماله بالكتاب المجيد والسنة الواضحة.
في السبب الموجب لنكث طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام لبيعتهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال المسعودي: لما قتل عثمان بايعت الناس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالخلافة، كتب عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام:
(أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان من غير مشورة مني، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع لي الناس، وأوفد إلى أشراف أهل الشام) (1).
فلم يكن منه له جواب غير أنه كتب كتابا إلى الزبير بن العوام وبعثه مع رجل من بني عبس فمضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم إلى الزبير بن العوام (2) من معاوية بن أبي سفيان... سلام الله عليكم أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوني إلى بيعتك فاستوثقتهم كما استوثق الحلف (3)، فدونك الكوفة والبصرة [لا
Shafi 74
يسبقك عليهما علي بن أبي طالب] (1) فإنه لا شئ بعد هذين المصرين وقد بايعتهم لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فعليكما (2) بالظهور في طلب دم عثمان رضي الله عنه، فأدعوا الناس إلى ذلك بالجد والتشهير، ظفركما (3) الله تعالى وخذل مناوئيكما.
قال جدي حسن (طاب ثراه): إن معاوية كتب إلى الزبير:
أما بعد، فإنك الزبير بن العوام ابن أخي خديجة بنت خويلد، وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه وسلفه، وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل في الله مهجته له بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث فخرجت كالثعبان المتسلخ بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع، كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين منك، وقد سبقت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة، ثم جعلك عمر رضي الله عنه أحد المستخلفين على الأمة.
فانهض يا أبا عبد الله فإن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي، فسارع - رحمك الله - في حقن الدماء ولم الشعث، واجمع الكلمة لصلاح ذات البين قبل تفاقم الأمور وانتشار الأمة، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار عما قليل منهار، إن لم يرأب، فشمر لتأليف
Shafi 75
الأمة وابتغ إلى ربك سبيلا، فقد أحكمت لك الأمر على من قبلي لك ولصاحبك على أن الأمر للمقدم، ثم لصاحبه من بعده، جعلكما الله من أئمة الهدى، وبغاة الخير والتقوى، وسلك بكما قصد المهتدين، ووهبكما رشد الموفقين والسلام (1).
مكاتبة معاوية بن أبي سفيان إلى بني أمية وكتب إلى مروان بن الحكم:
أما بعد، فقد وصل إلي كتابك بشرح خبر قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وما ركبوه به ونالوه منه جهلا بالله وجرأة عليه، واستخفافا بحقه، [ولأماني لوح] (2) الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدهم (3) في أهويات الفتن، ووهدات الضلال، ولعمري لقد صدق إبليس عليهم ظنه، اقتنصهم بأنشوطة فخه، فعلى رسلك يا عبد الله تمشي الهويني وتكون أولا، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد الذي لا يصطاد إلا غيلة (4)، ولا يتشازر (5) إلا عند حيلة، وكالثعلب (6) لا يفلت إلا روغانا، وأخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف، وامتهن
Shafi 76
نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث عن أمورهم بحث الدجاج عن حب الدخن عند فقاسها، وأنغل (1) الحجاز فأني منغل الشام، والسلام (2).
وكتب إلى سعيد بن العاص:
أما بعد، فقد ورد علي كتاب مروان بن الحكم من ساعة حين وقعت النازلة، تصل بها البرد (3) بسير المطي الوجيف (4)، يتوجس (5) كتوجس الحية الذكر خوف ضربة الفأس وقبضة الحاوي (6)، ومروان لا يكذب أهله، فعلام الافكاك (7) يا بن العاص ولات حين مناص؟ وذلك إنكم يا بني أمية عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة، فينكركم من كان بكم عارفا، ويصد عنكم من كان لكم واصلا، فتتفرقون في البلاد، وتتمنون لمظة (8) المعاش.
ألا وإن أمير المؤمنين عتب عليه فيكم، وقتل في سببكم، فقبيح القعود عن نصرته، والطلب بدمه! وأنتم بنو أمية، ودون الناس منه
Shafi 77
رحما وقربا وطلاب ثأره، فأصبحتم متمسكين [بشظف معاش زهيد] (1) قليل ينزع منكم عند التخاذل، وضعف القوى.
فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب البرد في الجسد النحيف، وسر سير النجوم تحت الغمام، واحشد حشد (2) الذرة في الصيف لأنجحارها في الصرد، فقد أيدتكم بأسد وتيم، وكتب في آخر الكتاب (3):
تالله لا يذهب شيخي باطلا حتى أبير مالكا وكاهلا القاتلين الملك الحلاحلا خير معد حسبا ونائلا وكتب إلى عبد الله بن عامر:
أما بعد، فإن المنبر مركب ذلول سهل الرياض لا ينازعك اللجام، وهيهات ذلك إلا بعد ركوب اثباج (4) المهالك، واقتحام أمواج المعاطب، فكأني بكم يا بني أمية شعارير (5) كالأوراق تقودها الحداة (6)، أو كرخم الخندمة (7) تذرف خوف العقاب، فثب الآن قبل أن
Shafi 78
يستشري الفساد، وندب السوط جديد، والجرح لما يندمل، ومن قبل استضراء الأسد، والتقاء لحييه على فريسته، وساور الأمر مساورة الذئب الأطلس (1) كسيرة القطيع، ونازل الرأي، وانصب الشرك، وأرم عن تمكن، وضع الهناء مواضع النقب (2)، واجعل أكبر عدتك الحذر، وأحد سلاحك التحريض، وأغض عن العوراء، وسامح عن اللجوج، واستعطف الشارد، ولاين الأشوس (3)، وقو عزم المريد، وبادر العقبة، وأزحف زحف الحية، واسبق قبل أن تسبق، وقم قبل أن يقام لك، واعلم أنك غير متروك ولا مهمل، فأني لك ناصح أمين، والسلام.
ثم إنه كتب في أسفل الكتاب هذه الأبيات شعرا (4):
عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته، ما شاء أن يترحما تحية من أهدى السلام لأهله إذا * شط دارا عن مزارك سلما فما كان قيس هلكه هلك واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما وكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
أما بعد، يا ابن عقبة: كن الجيش، وطيب العيش، أطيب من سفع
Shafi 79
سموم (1) الجوزاء عند اعتدال الشمس في أفقها، إلا أن أخاك (2) عثمان أصبح منك بعيدا، فصرت بعده مزيدا، فأطلب لنفسك ظلا تأوي إليه فتستكن به، فأني أراك على التراب رقودا، وكيف بالرقاد بك؟ لا رقاد لك! فلو قد استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام يفزع من ظل الطائر، وعن قليل تشرب الرنق (3)، وتستشعر الخوف (4)، ألا وإني أراك فسيح الصدر، مسترخي اللبب (5)، رحوا الحزام، قليل الاكتراث، وعن قليل يجتث أصلك، والسلام.
وكتب في آخره هذين البيتين شعرا (6):
اخترت نومك أن هبت شامية * عند الهجير وشربا بالعشيات على طلابك ثأرا من بني حكم * هيهات من راقد طلاب ثارات وكتب إلى يعلى بن أمية:
أما بعد، أحاطك الله بكلاءته، وأيدك بتوفيقه، كتبت إلي صبيحة ورد علي كتاب مروان بن الحكم، يخبرني باستشهاد أمير المؤمنين وشرح الحال، وأنه قد طال به العمر حتى نقضت قواه، وثقلت نهضته،
Shafi 80
وظهرت به الرعشة في أعضائه، فلما رأى ذلك منه أقوام لم يكن لهم عنده موضعا للإمامة والأمانة، وتقليل الولاية، وثبوا إليه وألبوا عليه، فكان أعظم ما نقموا عليه وأعابوه به، ولايتك اليمن، وطول مدتك عليها، ثم ترامى بهم الأمر حالا بعد حال، حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادرا بها الموت (1)، وهو مع ذلك صائم، معانق المصحف، يتلو كتاب الله تعالى، فقد عظمت مصيبة الإسلام باستشهاد صهر (2) الرسول، والإمام المقتول على غير جرم سفكوا دمه، وانتهكوا حرمته، وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا، وطلب ثأره لازم علينا، فلا خير في امرئ يعدل عن الحق، ويميل إلى الباطل، عن نهج الصدق، النار ولا العار، ألا وإن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه، فشمر أطرافك لدخول العراقين (3)، فأني قد كفيتك الشام وأهلها، وأحكمت أمرها، واعلم أني كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة لاجتماع رأيكما لإظهار الدعوة لطلب دم عثمان، وكتبت أيضا إلى عبد الله بن عامر، يمهد لكم أهل العراقين ويسهل لكم حزونة عتابها واعلم أن القوم قاصدوك بادئ بدء، لاستنزاف (4) ما حوته يداك من المال ، فاعلم ذلك واعمل على حسبه، أيدك الله تعالى بمشيئته والسلام، وكتب في أسفله هذه
Shafi 81
الأبيات شعرا (1):
ظل الخليفة محصورا يناشدهم * بالله طورا، وبالقرآن أحيانا وقد تألق أقوام على حنق عن * غير جرم، وقالوا فيه بهتانا فقام يذكرهم وعد الرسول له * وقوله فيه إسرارا وإعلانا فقال: كفوا فإني معتب لكم * وصارف عنكم يعلى ومروانا فكذبوا ذاك منه، ثم ساوره * من حاض لبته ظلما وعدوانا في أجوبتهم لمعاوية، قال:
فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية: أما بعد، فقد وصل إلي كتابك، فنعم كتاب زعيم العشيرة، وحامي الذمار (2)، فأخبرك أن القوم على سنن استقامة [إلا شظايا شعب] (3) شننت بينهم مقولي (4) على غير مجابهة، حسب ما تقدم من أمرك، فإنما كان ذلك دسيس (5) العصاة ورمي الجذر من أغصان الدوحة، ولقد طويت أديمهم على نغل (6) يحلم منه الجلد، كذبت نفس الضان بنا ترك المظلمة، وحب الهجوع إلا تهويمة (7) الراكب العجل، حتى تجذ الجماجم جذ [العراجين
Shafi 82