وإذا كنا قد لاحظنا عند حديثنا عن موقف الشاعر أحمد شوقي من عزل السلطان عبد الحميد، وثورة الجيش عليه دفاعا عن الدستور، وموقف ولي الدين يكن من نفس الحادث ومعارضته، أو على الأصح رده على قصيدة شوقي «عبرة الدهر» بقصيدة أخرى بنفس العنوان، إذا كنا قد لاحظنا عندئذ أن شوقي لم يبد رأيا محددا حاسما، بل أخذ يلف ويدور وينافق الجميع، فيرثي لعبد الحميد ويتفجع على جواريه، ثم يشيد بثورة الجيش وبطولته، ويتغنى بشجاعة أنور ونيازي وشوكت، ثم ينتهي بمبايعة السلطان الجديد محمد الخامس، مما يبلبل الأفكار، ويزعزع الثقة بالشاعر الذي تقول الحكمة القديمة أنه خليفة الأنبياء، وذلك بينما نرى ولي الدين يسفه رثاء شوقي لعبد الحميد وعطفه على جواريه، ويصيح في قصيدته بأن عزل عبد الحميد لم يكن إلا إيقافا لظلمه وفساده وطغيانه، وانتصارا لدماء الأبرياء وحقوق الرعية.
إذا كنا قد لاحظنا هذا الفارق الكبير بين الشاعرين، فإن الحقيقة تقتضينا أن نعمم خلاصة تلك المقارنة لنقرر أن ولي الدين يكن يعتبر من بين شعراء وأدباء العربية القليلين الذين يمكن أن يوصف أدبهم بأنه أدب ملتزم.
والواقع أن ولي الدين يكن قد كان من أشد الناس إمعانا في الالتزام لا في الأدب فحسب، بل وفي أسلوب حياته، بحيث يمكن القول بأن التزامه في الأدب لم يكن إلا صدى لالتزامه في الحياة، وإذا كان ولي الدين يكن قد تعصب ضد بعض الألفاظ كلفظة «أيضا»، وضد بعض ألوان الزهور كزهرة الليلكيه، ولم يخف كراهيته ونفوره من بعض الأشخاص، كذلك الشخص الذي تحدثنا الآنسة مي أنه غادر وليمة رسمية عندما لمح وجوده فيها، إذا كانت هذه طبيعة ولي الدين يكن في صغار المسائل، فإننا لا يمكن أن نتوقع من رجل في مثل هذه الطبيعة إلا أن يكون صاحب رأي واضح محدد حاسم في كل مشكلة يتحدث عنها، وبذلك يصبح أدبه مثلا قويا للأدب الملتزم.
وبالفعل يعتبر ولي الدين يكن من أولئك الأدباء والشعراء القليلين، الذين يحق لدارسهم أن يبحث عن آرائهم؛ لأنهم قد كانت لهم آراء، بل وكانت لهم فلسفة في الحياة يؤمنون بها، ويتعصبون لها ويفنون في سبيلها، وعند دراسة مثل هذا الأديب الشاعر تأتي دراسة آرائه في المرتبة الأولى بالنسبة لدراسة فنه الأدبي أو الشعري.
وآراء ولي الدين يكن لم تكن مجرد أفكار باردة يرددها في فتور أو يأخذها عن الغير، بل كانت انفعالات فكرية، وهذا الانفعال الفكري الذي نلمسه في أدبه وشعره هو الذي يدخله في مجال الأدب، ولا يبقيه في مجال السياسة والإصلاح الاجتماعي، والبون شاسع بين الأفكار العادية والانفعالات الفكرية، فالأفكار قد تدخل في ميدان الفلسفة أو السياسة أو الاجتماع، ولكنها لا تدخل في مجال الأدب إلا إذا أصبحت انفعالات فكرية.
والانفعال الفكري خليق في ذاته بأن يولد الخصائص الأدبية والمميزات الفنية التي تميز أسلوب الأديب عن غيره من الأساليب.
والانفعال الفكري لا يمكن أن يخضع للتقليد، أو أن يأنس للدروب المطروقة، أو يسكن إلى قوالب التعبير التقليدية؛ وذلك لأن الانفعال ثورة، وكل ثورة تجديد وشق لدروب جديدة، وبحث عن قوالب جديدة توائم هذه الثورة، وتستطيع أن تحتويها.
والانفعال الفكري يخرج بأسلوب صاحبه عن الصنعة المجتلبة؛ لأن المنفعل لا يستطيع أن يفلت من انفعاله ليتسكع في صناعة الألفاظ، وأكبر دليل على هذه الحقيقة هو ما نلاحظه من أن أديبا ذا انفعالات فكرية كولي الدين يكن لا يكاد يتميز أسلوب شعره عن أسلوب نثره، وليس معنى ذلك هو أن ينحدر بأسلوب الشعر إلى مستوى النثر العادي المسطح، بل بالعكس فهو يرتفع بأسلوبه النثري إلى مستوى أسلوبه الشعري في أغلب الأحيان؛ وذلك لأنه يصدر في كلا الفنين عن نفس الطبيعة المنفعلة الحارة، ولعل في هذا التحليل ما يعيننا على فهم ما أحسه صديقه أنطون الجميل بحق، وعبر عنه تعبيرا صادقا بقوله: «مهما حاولنا تصوير نفسه لا نصورها بأقرب إلى حقيقتها مما صورها به صاحبها في شعره وفي نثره أيضا، فهو شاعر في كلا الفنين المنظوم والمنثور، يصوغ كلامه المرسل كأنه الشعر؛ توقيعا وانسجاما وخيالا وروعة معان، حتى لتكاد تستقيم لك جملته شعرا موزونا، ويسبك الشعر كأنه النثر؛ سهولة وطلاقة وطبيعة وانقياد قواف، حتى لو نثرت نظمه ما جئت بأسهل منه، فتبيت بين هذا النثر الأنيق، وذلك الشعر الطلي، لا تدري أولي الدين أشعر في هذا أم في ذاك؛ لأنه ما جرى قلمه إلا بما خفق به قلبه، وتحرك له لبه، وهو في كلا الفنين ذو القلب المتألم مما حوله ولمن حوله؛ لأنه قلب حساس شريف، تخدمه مخيلة ترى ما لا يراه الغير، حتى أصبح كما قال هو عن نفسه:
قلبي يحس وهذه عيني ترى
ما حيلتي فيما يحس وما يرى»
Shafi da ba'a sani ba