إنه لم يكن يعرف هو نفسه ماذا سيفعل إذا تلقى مثل تلك الدعوة. كانت حجرة العد ولغتها مألوفة له، أما غرفة الصالون فكانت أرضا غير مستكشفة ولغتها مجهولة له. لقد فوت على نفسه شيئا وهو في طريقه إلى الثراء، وكان الأوان قد فات الآن كي يعود لتعويض ما فوته. لقد سمع أمس أحد الموظفين، الذي لم يكن يعلم أنه على مسمع من السيد دينهام، وهو يشير إليه ب «الرجل العجوز». شعر دينهام بأنه لطالما كان في ريعان شبابه، لكن تلك الجملة وعلى الرغم من أنها قيلت على محمل الهزل تماما، جعلته يشهق ألما.
وبينما كان يسير الآن عبر المتنزه، وبعيدا عن الشوارع المزدحمة، خلع عنه قبعته ومرر أصابعه في شعره الأشيب، ونظر إلى يديه بعد أن فعل ذلك، وكأن شيبته ستخرج في يده وكأنها صبغة لم تجف بعد. تذكر فتاة كان يعرفها ذات يوم، والتي كانت ربما ستتزوج به لو أنه طلب منها الزواج؛ حيث كان يشعر بنزعة نحو ذلك. لكن كانت تلك هي غلطة آل دينهام دائما. لقد تزوجوا جميعا وهم في سن صغيرة، عداه هو، وهكذا غاصوا أكثر في مستنقع الفقر الموحل، واستبدت بهم الضغوط بفعل ذريتهم المتزايدة بسرعة. وتذكر أن تلك الفتاة قد تزوجت بخباز. أجل، كان ذلك منذ زمن طويل. ولم يكن الموظف مخطئا حين قال بأنه رجل عجوز. وفجأة ظهرت أمام مخيلته فتاة أخرى، وهي فتاة عصرية، تختلف تماما عن الفتاة التي تزوجت بالخباز. كانت تلك هي المرأة الوحيدة في العالم التي يوجد بينهما مجال للحديث، وكان يعلمها فقط لأن أناملها الرقيقة والرشيقة كانت تعزف مقطوعة العمل الوحيدة ذات الوتيرة الواحدة على الآلة الكاتبة الموجودة في مكتبه. كانت الآنسة جيل جميلة بالطبع، كحال كل الفتيات اللائي يكتبن على الآلة الكاتبة، وكان من المعروف عنها في المكتب أنها تتحدر من عائلة ثرية ساء حالها. وكان مظهرها الذي يوحي بالاستقلالية يعزز من تلك القناعة لدى الجميع، وجعل موظفي المكتب لا يجرءون على الاقتراب منها، فظلوا على مسافة منها. كانت فتاة رشيدة أدركت أن الآلة الكاتبة تدر مالا أكثر من البيانو؛ ومن ثم حولت مهارة أناملها البيضاء إلى الآلة الكاتبة. جلس ريتشارد دينهام على مقعد في المتنزه وسأل نفسه: «لم لا؟» لم يكن من سبب يمنعه من ذلك سوى أنه شعر أنه لم يكن يملك الشجاعة. ومع ذلك، اتخذ قرارا يائسا.
في اليوم التالي، سار يوم العمل كالمعتاد. جرى الرد على الخطابات، وحان الوقت الذي تدخل فيه الآنسة جيل لكي ترى إن كانت هناك أوامر أخرى اليوم. تردد دينهام. وشعر إلى حد ما أن المكتب ليس بالمكان المناسب لعرض زواج، لكنه كان يعلم أنه سيكون في وضع غير مؤات في أي مكان آخر. ففي المقام الأول، لم يكن لديه عذر منطقي يجعله يدعو الشابة إلى منزله، وفي المقام الثاني، كان يعلم أنه حتى لو اصطحبها إلى المنزل فسوف يصيبه صمت مطبق؛ ومن ثم، لا بد أن يحدث هذا في المكتب وإلا فلن يحدث في أي مكان على الإطلاق.
وأخيرا قال: «تفضلي بالجلوس يا آنسة جيل. أردت أن أستشيرك بشأن أمر ما ... أمر يخص العمل.»
جلست الآنسة جيل، وبتلقائية أخرجت الدفتر الصغير ووضعته على ركبتها لتدون تعليماته. ورفعت نظرها إليه في انتظار ذلك. فمرر دينهام أصابعه بين شعره بطريقة تنم عن الارتباك.
بدأ دينهام حديثه قائلا: «أفكر في الحصول على شريك. فالعمل مزدهر الآن. وفي الواقع، كان كذلك منذ فترة طويلة.»
قالت الآنسة جيل بنبرة استفهام: «حقا؟» «أجل، أعتقد أنني يجب أن أحصل على شريك. وهذا هو ما أردت أن أحدثك بشأنه.» «ألا تعتقد أن من الأفضل أن تستشير السيد روجرز؟ إنه على دراية بشئون العمل أكثر مني. لكن ربما تريد أن يكون السيد روجرز شريكا لك؟» «لا، ليس روجرز. هو رجل صالح. لكنه ليس روجرز.» «إذن، أعتقد أن في أمر مهم كهذا كان السيد روجرز، أو شخص يضاهيه في الإلمام التام بشئون العمل، سيتمكن من إسدائك نصائح قيمة.» «إنني لا أنشد النصيحة على وجه التحديد. لقد اتخذت قراري بأن أتخذ لي شريكا، إذا كان الشريك لديه الرغبة في ذلك.»
مسح دينهام جبينه. كان الأمر يزداد صعوبة أكثر مما توقع.
سألته الآنسة جيل وهي تتلهف لمساعدته: «إذن، هل تتعلق المسألة برأس المال الذي سيقدمه شريكك؟» «لا، لا. لا أريد رأس مال. لدي ما يكفي لكلينا . والعمل مزدهر للغاية آنسة جيل، و... ولطالما كان.»
رفعت الشابة حاجبيها تعبيرا عن اندهاشها. «من المؤكد أنك لا تنوي أن تتقاسم أرباحك مع شريك لن يقدم أي رأس مال في العمل، أليس كذلك؟» «بلى، بلى، لا أنوي ذلك. فأنت ترين - كما قلت - أنني لست بحاجة إلى المزيد من رأس المال.» «أوه، إذا كانت المسألة كذلك، فإنني أرى أنك ينبغي أن تستشير السيد روجرز قبل أن تلزم نفسك بشيء.» «لكن روجرز لن يفهم.» «أخشى أنني لا أفهم أيضا. يبدو لي أن من الحماقة أن تفعل ذلك، هذا إذا كنت تريد نصيحتي.» «أوه، أجل، أريدها. لكن الأمر ليس بهذه الدرجة من الحماقة كما تعتقدين. كان ينبغي لي أن أتخذ شريكا منذ وقت طويل. هذا هو الخطأ الذي وقعت فيه. ولقد عقدت العزم على ذلك.» «إذن لا أرى أن في مقدوري أن أفيدك، إذا كنت قد عقدت العزم بالفعل.» «أوه، بل يمكنك أن تفيديني. ولكن أخشى قليلا أن عرضي لن يحوز القبول.» «من المؤكد أنه سيحوز القبول لدى أي رجل رشيد. لا يمكن أن تخشى من رفض عرض كهذا! مثل هذه العروض لا تقدم كل يوم. سيحوز القبول.» «أتعتقدين ذلك حقا آنسة جيل؟ يسعدني أن يكون هذا هو رأيك. والآن، ما أريد أن أستشيرك بشأنه هو صيغة العرض. أريد أن أصوغه بأسلوب رقيق، حسنا، وحس مرهف، كما تعلمين، حتى لا يقابل بالرفض، ولا يمثل أي إساءة.» «فهمت. تريد مني أن أكتب له خطابا؟»
Shafi da ba'a sani ba