Fuskar Wani Bangaren Almasihu
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
Nau'ikan
ولقد أدان يسوع سعي البشر المحموم إلى مراكمة الثروات والإقبال على الاستهلاك: «فلا تهتموا فتقولوا ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نلبس؟ فهذا كله يطلبه الوثنيون، وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون هذا كله، فاطلبوا الملكوت وبره قبل كل شيء، تزادوا هذا كله.» (متى 6: 31-33). هذا الكلام طبقه يسوع على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه، فترك أسرته وبيته في سبيل دعوته، وراح يتجول في القرى والبلدات غير آبه بما يأكل أو يشرب أو يلبس: «وبينما هم سائرون، قال له رجل في الطريق: أتبعك حيث تمضي، فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطير السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له ما يضع رأسه عليه.» (لوقا 9: 57-58)، وعلى من يتبعه أن يحتذي حذوه، ويقطع كل روابطه بالعالم القديم، ويتخلى عن كل ما يشده إليه: «وقال لآخر: اتبعني، فقال: سيدي ائذن لي أن أمضي أولا فأدفن أبي، فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم. وقال له آخر: أتبعك سيدي، ولكن ائذن لي أولا أن أودع أهل بيتي، فقال له يسوع: ما من أحد يضع يده على المحراث ثم يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله.» (لوقا 9: 59-62)، وعندما أرسل اثنين وسبعين تلميذا للتبشير في الأمصار قال لهم: «اذهبوا فها أنا ذا أرسلكم كالحملان بين الذئاب، لا تحملوا صرة ولا مزودا ولا نعلين.» (لوقا 10: 3-4). وتطبيقا لهذه التعاليم كانت حلقة التلاميذ المحيطة بيسوع عبارة عن مشاعة صغيرة لا يملك أحد فيها شيئا لنفسه، وكان لها أمين صندوق يحتفظ بالمال القليل المتوفر وينفق منه على احتياجاتها.
مثل هذا الانقلاب على القيم القديمة لن يحصل بيسر وسهولة، ولا بد من الصراع بكل عنف وشراسة؛ لأن حركة يسوع هي حركة راديكالية من شأنها تمزيق المجتمع القديم تمهيدا لإحلال المجتمع الجديد، قال يسوع: «لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا، جئت لأفرق بين المرء وأبيه، والبنت وأمها، والكنة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته.» (متى 10: 34-36)، والعالم القديم يجب أن يحترق ليخرج من رماده العالم الجديد: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت، أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف، فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان يخالفان ثلاثة.» (لوقا 12: 49-52)، من هنا لا يكفي أن يقطع أتباع يسوع كل رابطة تشدهم إلى المجتمع المتآكل الذي يهدفون إلى تغييره، بل أن يلبسوا الأكفان وهم على قيد الحياة استعدادا للموت في أي لحظة: «من لم يحمل صليبه ويتبعني ليس جديرا بي، من حفظ حياته يفقدها، ومن فقد حياته في سبيلي يجدها.» (متى 10: 39)، وقال أيضا: «فملكوت السموات ما زال في جهاد منذ أيام يوحنا المعمدان إلى اليوم، والمجاهدون يأخذونه عنوة.» (متى 11: 12).
تمثل المجتمع القديم وقيمه في الوثنية التقليدية التي فقدت روحها خلال الفترة الهلينستية، وتحولت إلى عبادات شكلانية، كما تمثلت في اليهودية وشريعتها البالية، التي تكمن خصوصيتها في أنها شريعة طقوس ترمي بالدرجة الأولى إلى تأسيس الطرائق التي يحب الإله يهوه أن يبجل بها، ونوع الأضاحي المقربة إليه، والحفاظ على السبت، والاحتفالات الدينية الدورية، والطقوس والعبادات التي يتوجب إقامتها، وما يجوز وما لا يجوز في كل مناحي الحياة، حتى زادت القواعد التي تقيد حياة اليهودي وسلوكه اليومي عن 600 قاعدة، لقد كان الشغل الشاغل لليهود خلال القرون الخمسة السابقة للميلاد، وهي فترة تشكل الديانة اليهودية، هو الحفاظ على تفردهم الديني بأي ثمن، وهذا ما أدى إلى إنتاج ظاهرتين مهمتين في الحياة الدينية اليهودية، أولاهما التنظيم الكهنوتي، والثانية الحرص على الالتزام بالشريعة التي اعتبرت حاجزا يفصل بين اليهود وبقية الأمم، وحارسا على إيمان إسرائيل، ولكن يسوع هدد ركني السلطة اليهودية هذين، أي الشريعة وحراسها من الكهنة، والكتبة، والناموسيين (علماء الشريعة)، والفريسيين، الذين يمثلون النخبة المتعلمة من المجتمع اليهودي.
لقد عبر يسوع من خلال سلوكه اليومي عن رفضه لشريعة موسى، وأحل محلها شريعة القلب والروح، شريعة تخدم الإنسان بدل أن تستعبد الإنسان: «ومر يسوع في السبت خلال المزارع فأخذ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون، فقال له الفريسيون: انظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ ... فقال لهم: إن السبت جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت.» (مرقس 2: 23-27)، كما عبر في أقوال عديدة عن فساد حراس الشريعة: «الويل لكم أيها الناموسيون تحملون الناس أحمالا باهظة، وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم ... الويل لكم أيها الناموسيون، فقد استوليتم على مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم ولا الذين أرادوا الدخول تركتموهم يدخلون.» (لوقا 11: 46-52).
في رفضه للوثنية التقليدية والشريعة التوراتية، بشر يسوع برسالة شمولية تتوجه إلى العالم أجمع، لا لهذه الفئة الإثنية أو تلك، ولا لهذه الطائفة الدينية أو تلك، فقد قال لتلاميذه في إنجيل متى بعد قيامه: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (متى 28: 19)، وقال في إنجيل مرقس: «اذهبوا في الأرض كلها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين.» (مرقس 16: 15)، وهذه الرسالة الشمولية جوهرها المحبة، محبة الله ومحبة الآخرين: «فسأله واحد منهم، وهو ناموسي ، ليجربه: يا معلم ، ما هي أكبر وصية في الشريعة؟ فقال له: أحبب ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك، تلك هي الوصية الكبرى والأولى، والثانية مثلها، أحبب قريبك حبك لنفسك، بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة كلها والأنبياء.» (متى 22: 35-40)، وقال أيضا: «وصية جديدة أنا أعطيها لكم، أن تحبوا بعضكم بعضا.» (يوحنا 13: 34)، وأيضا: «افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم، هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء.» (متى 7: 12)، وبهذا فقد ألغى يسوع شريعة الطقوس القديمة، وأحل محلها شرع المحبة والأخلاق.
على أن من يقرأ الإنجيل للمرة الأولى ويعجب بهذا الانقلاب الشامل الذي أراده يسوع، يدهش من أقوال ليسوع ترسخ القديم وتكرسه، فقد ورد في إنجيل متى، مثلا، قوله: «لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل، الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة، حتى يتم كل شيء، فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا، وعلم الناس أن يفعلوا مثله، عد صغيرا جدا في ملكوت السموات.» (متى 5: 17-19)، وورد في إنجيل متى أيضا: «إن الكتبة والفريسيين على كرسي موسى جالسون، فافعلوا ما يقولونه لكم واحفظوه، ولكن لا تفعلوا مثل أفعالهم؛ لأنهم يقولون ولا يفعلون.» (متى 23: 1-3)، كما وتصدم القارئ مواقف تتسم بالشوفينية الإثنية والدينية، وتتعارض بشكل صارخ مع تعاليم يسوع الإنسانية، لقد وصف يسوع، في قول منسوب إليه في إنجيل متى، الكنعانيين بالكلاب، ورفض شفاء ابنة امرأة كنعانية في نواحي صيدا، بحجة أنه مرسل فقط إلى بني إسرائيل: «فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه، فقالوا: أجب طلبها واصرفها لأنها تتبعنا بصياحها، فأجاب: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ولكنها وصلت إليه فسجدت له، وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويلقى إلى جراء الكلاب، فقالت: رحماك سيدي، حتى جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها.» (متى 15: 21-27).
في قراءتي المبكرة للعهد الجديد فضلت التغاضي عن مثل هذه الأقوال والمواقف، باعتبارها من إشكاليات الإنجيل التي تتطلب التفسير والتأويل، ولكني بعد الاطلاع المنهجي على نشوء المسيحية وتشكلها خلال القرنين التاليين للميلاد، وما جرى خلال هذه الفترة من صراع بين كنيسة الأمم العالمية وكنيسة أورشليم التي أرادت الحفاظ على بعض الملامح اليهودية في الإيمان المسيحي الجديد، أدركت مدى التأثير الذي مارسه اليهود المتحولون إلى المسيحية على الصياغة الأخيرة للأناجيل الرسمية، وما قادت إليه مثل هذه المداخلات المقحمة على سيرة يسوع من ربط عضوي لكتاب العهد القديم بالعهد الجديد، وما فرضه هذا الربط على المسيحيين من تركة توراتية ثقيلة، كان يسوع قد رفضها بكل وضوح وصراحة، تركة عاد بعض الفرق المسيحية للتوكيد عليها في العصور الحديثة، حتى صار الإيمان بكل ما ورد في العهد القديم جزءا لا يتجزأ من الإيمان المسيحي.
إن الروايات المختلفة للحادثة الواحدة في الأناجيل، وحتى التناقضات في الإنجيل الواحد (مما كان موضع دراسة مكثفة خلال القرنين الماضيين) يمكن تفسيرها باختلاف مصادر الرواة، واختلاف الذكريات التي حفظت عن أقوال يسوع وأعماله، ولكن مثل هذه التناقضات الجذرية التي سقنا بعضها آنفا، والتي تضعنا أمام نوعين من التعاليم لا يمكن التوفيق بينهما على أي صعيد، لا يمكن تفسيرها إلا بالمداخلات اليهودية التي أقحمت عن عمد، من أجل الحفاظ على الخمرة الجديدة التي سكبها يسوع ضمن زقاق قديمة (جمع زق، وهو قربة من جلد تحفظ فيه السوائل) هي زقاق العهد القديم، على الرغم مما قاله يسوع عن استحالة سكب الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، مشيرا بذلك إلى تعاليمه المستقلة عن تعاليم العهد القديم: «ما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، لئلا تشق الخمرة الجديدة الزقاق فتراق وتتلف الزقاق، بل يجب أن تجعل الخمرة الجديدة في زقاق جديدة فتسلم جميعا.» (لوقا 5: 37-38)، و(متى 9: 17).
والحق أقول لكم إن قراءة العهد الجديد لن تستقيم وتعطي مدلولات واضحة ورسالة متماسكة، إذا لم يتم عزل المداخلات اليهودية وفصلها عن سياق النص، وتبيان مدى غرابتها عن المتون الأصلية، وهذا أحد الأهداف الرئيسية التي أسعى لتحقيقها في هذا الكتاب، ولكن دراستي لن تكتفي بذلك لأن الوجه الآخر للمسيح، الذي أحاول نفض ما تراكم عليه من غبار الزمن، ليس الوجه الذي يتجاوز العهد القديم فقط، بل الوجه الرافض للعهد القديم وكل ما يمثله، والرافض أيضا لإله العهد القديم، الذي لم يكن إله يسوع، والذي اعتبرته الكنيسة المسيحية الغنوصية متطابقا مع الشيطان، وبشرت بالأب النوراني الأعلى، أبي الحقيقة، ومخلص الإنسانية.
إن دراستي لنشوء المسيحية والتي ترافقت مع ترجمة ونشر النصوص الغنوصية التي اكتشفت في نجع حمادي بصعيد مصر، ولم توضع بين أيدي الباحثين إلا في أواسط سبعينيات القرن العشرين، قد أوضحت لي، ولكثير من الباحثين، أن الأناجيل الأربعة التي اعتمدت من قبل كنيسة روما في أواخر القرن الثاني الميلادي، لا تحتكر صورة يسوع الحقيقي، التي لا بد لاستكمالها من الرجوع إلى الأناجيل والمؤلفات الغنوصية لمكتبة نجع حمادي، التي شكلت خلال القرون الثلاثة التالية للميلاد الأساس الفكري لكنيسة غنوصية نافست الكنيسة الرسمية لعدة قرون، وادعت حيازتها لتعاليم أخرى ليسوع بثها في حلقة ضيقة من تلاميذه المقربين.
Shafi da ba'a sani ba