مسالما فليكن من دأبه الحذر
بعد أن أتمت مادلين هذا الكلام ظهرت على وجهها علامات الانقباض واليأس؛ فوضعت رأسها بين يديها وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، ولم تنتبه إلى استئناف حديثها واستطراد قصتها، ودام الصمت أكثر من عشرة دقائق، والسائح ينظر إليها بعين الشفقة والحنان، وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ؛ لأنه رأى في حالة هذه المرأة المسكينة ما يثير الأشجان ويهيج العواطف.
وبعد برهة قصيرة رفعت الأرملة رأسها وعادت إلى إتمام قصتها بلهجتها المعهودة فقالت: وبينما كنت يا مولاي أتمتع بلذة هذا العيش الهنيء، وأذوق طعم الراحة والحب، ما أشعر إلا وقد هبت عواصف الانقلاب، فأبادت كل ما بنيته من الآمال والأحلام، وهدمت دعائم الهناء والسعادة التي كنت أعلل بها النفس في مستقبل الأيام، ذلك أنه بينما كنت أنا وموريس ووالدي جالسين ذات ليلة في حديقة القصر بعد تناول العشاء تحت ظل شجرة كثيفة الأغصان، وقد ساد السكون والهدوء، وهبت نسيم الشمال تملأ النفوس انتعاشا، وتفعم القلوب فرحا وابتهاجا، وحبيبي موريس قد قبض بيديه على يدي وطفق يداعبني بلطفه المعهود، وأنا أنظر تارة إليه وطورا أرفع رأسي إلى السماء، فأرى الجو صافيا والنجوم تتلألأ في القبة الزرقاء، والطيور تملأ بغنائها الفضاء، فلم أشعر إلا وقد أقبلت علينا والدتي مهرولة وعلى وجهها سمات الحيرة والاندهاش؛ فنظر إليها والدي على بعد نظرة الحزن والانقباض، ونهض حبيبي موريس على قدميه لاستقبالها، فتبعته أنا وسرت مسرعة نحوها، وبعد أن استقر بوالدتي المقام التفتت إلى والدي فقالت: ألعلك أخبرت مادلين وموريس بما اتفقنا عليه اليوم؟ - إني لم أفاتحهما في هذا الأمر بعد؛ لأني لم أشأ أن أكدر صفاءهما في هذه الفرصة السعيدة.
إذن؛ فالواجب علي أنا أن أخبرهما بحقيقة الحال؛ لأنه لا فائدة في الصمت والانتظار.
قالت ذلك ثم التفتت إلينا ووجهت لنا الحديث قائلة: اسمعي يا مادلين ما أقصه عليك الآن؛ لأن كلامي لا يخلو من الخطارة والأهمية كما تعلمين فأنتما قد بلغتما سن الرشد، وعرفتما حلو العيش ومره؛ فيجب عليكما أن لا تضيعا الزمن سدى، وتقتلا الوقت فيما لا يفيد ولا يجدي؛ لأن من كان مثلكما عليه أن يوجه نظره دائما إلى مستقبله ويبذل جهده في تدبير شئونه وأحواله؛ ليضمن لنفسه الراحة والسعادة في المستقبل، وإني أعذركما على إغفال هذه الواجبات إلى الآن؛ لأنكما تعتمدان على والديكما وتكفيان نفسكما مئونة هذا التعب والاشتغال؛ ولذا كان من الواجب علينا نحن أن نذكركم بهذه الأمور، ونسعى فيما يعود عليكم بالنفع والفائدة.
فلما انتهت والدتي في كلامها إلى هذا الحد خفق فؤادي واصفر وجه موريس؛ لأن قلبنا كان يحدثنا بوقوع خطر قريب.
واستمرت والدتي في الحديث؛ فقالت: والنتيجة أني يا مادلين قد دبرت لكما ما يضمن راحتكما وسعادتكما في المستقبل، وذلك أننا عولنا على إرسال موريس إلى جهة «دي جانيريو» بوظيفة كاتب أول في إحدى المحلات التجارية الشهيرة، وإني أؤمل أنه سوف يصل بجده واجتهاده وحسن تصرفه إلى درجة عظيمة من التقدم إن شاء الآن كل شيء من هذا القبيل؛ فلما سمعنا هذا الكلام انقضت على رأسنا صواعق الدهشة والانزعاج، وصرخت أنا بحزن مستغيثة بوالدي.
أما موريس فتقدم إلى والدتي فجثا أمامها على ركبتيه وناداها بلطف: رحماك يا أماه ؛ فأنا أحب ابنتك مادلين، ولا أستطيع فراقها، وعند ذلك تشددت قواي وانتعشت في روح الأمل؛ فاندفعت أمام والدتي وناديتها بصوت جهير: وأنا أحب موريس يا أماه؛ فارحمينا يرحمك الله.
فلم تهتز والدتي لكل هذه الاستغاثة، مع أن والدي الشفوق تأثر من هذا المنظر المريع، وسالت من عينه العبرات رغما عن كثرة محاولته في إخفائها، فالتفتت إلينا تلك الأم القاسية وصرخت في وجهنا بصوت مخيف، ثم التفتت إلى موريس فقالت له بوجه عبوس: ما هذا الحال يا موريس، إني أعلم أنكما تحبان بعضكما، ولكن ما الفائدة من هذا الحب الموهوم، وأنت تعلم أن لا فائدة لك من ذلك ما دمت لا تنتظر التزوج بها؛ فإنك في حالة من الفاقة والفقر لا يرجى معها إتمام هذا الزواج، وابنتي ليست غنية بهذا المقدار حتى يسوغ لك أن تطمع في الحصول عليها؟
أجاب موريس: إني يا سيدتي سأتجشم المصاعب وأشق عباب المخاطر والأهوال، وأركب البحار، وأشتغل آناء الليل وأطراف النهار، وأدك الجبال إذا لزم الحال حتى أصبح في حالة من السعة واليسار تخول لي حق الاقتران بحبيبتي مادلين. - إن الغنى يا موريس لا يأتي دفعة واحدة، ولا بد من الصبر الطويل حتى تنال ما تريد، ولا يصح أن تبقي ابنتي رهينة إشارتك طول هذه المدة على غير جدوى.
Shafi da ba'a sani ba