50

بين شبان مصر فئة معروفة بنزعاتها الوخيمة وأخلاقها الذميمة، ومجالسهم أضحوكة الأضاحيك في خلوها من الجد وإقفارها من معاني الرجولة والاحترام، وهم يجتمعون ويتفرقون لا يحدو بعضهم إلى بعض حب أو إخلاص؛ لأن نفوسهم الوضيعة لا تحب ولا تحب، ولكنها ضرورة الاجتماع ودفع السآمة والنقمة تسوق كلا منهم إلى مساجرة من يكره ومعاشرة من يؤلمه سرورهم ويسره ألمهم؛ ولهذا يدخر كل منهم لصحابته أقصى ما في وسعه من التنغيص والإيجاع، ويتنقل بعضهم في الليلة الواحدة بين عشرة مجالس لا يطمئن إلى مجلس منها، ولكنه يضجر من أحدها فيغشي غيره ليلقي كلمة لمز أو نميمة فيمن كان معهم قبل لحظة. فهو يبغض جلساءه جميعا، وهم لا يلقاهم طائفة بعد طائفة إلا ليشفي نفسه من الغائبين عند الحاضرين، فما أعجبها من مجالس صلتها الكره لا الولاء، ومحورها تبادل الوقيعة والإيذاء، لا تبادل السرور والصفاء. وإنما تنم الوقيعة على شيئين كلاهما شر من الآخر؛ تنم على الضعف فلا يستطيع الرجل أن ينتقم من عدوه إلا بإيغار الصدور عليه، وتنم على سوء ظن الأصحاب، فينجح بينهم السعاة وتروج عندهم الوشاية، وضعف الثقة بين قوم دليل على منزلتهم من الرجولة والمروءة وسلامة الدخلة، فكلهم منتظر منه الخون، مستبعد عليه الوفاء، وهذا أدنأ ما تنحط إليه الأخلاق وتسفل إليه النفوس.

ولو أوعبت ما في نفوس هؤلاء المساكين من الضغن والغيظ والقيح المحقون لهالك الأمر، فحسبتهم يتنافسون على مأرب جسيم أو مأثرة تشخص إليها الأبصار ، ولكنك متى حدثتهم عن هذه المآرب والمآثر وجدتهم يضحكون منها ويخجلهم أن يظن بهم الاشتغال بها والاكتراث لها وأخذها مأخذ الجد والحقيقة؛ لأن ذلك في نظرهم غفلة وجهل بفرص الحياة، وما فرص الحياة في نظرهم؟ اللذة التي يبحثون عنها في كل مكان فلا يجدونها، ولا عجب! فإن اللذة أبعد ما تكون ممن بعدها الغرض الوحيد من الحياة، وأخوف ما نخافه أن تكون هذه الروح الخبيثة قد سرت من الطبقة المترفة إلى العامة - وهم صميم الأمة وبنيتها العضلية - فيموت في نفوسهم الجد ويملكهم العبث والخفة.

ويسوءنا أن نرى بوادر هذه الروح في عامة المدن والبلدان الصغيرة، فقد أصبحوا لا يجلون شيئا عن اللهو والعبث، ولا يرفعون الدين ولا الآداب عن المجانة والرعونة: يؤذن المؤذن فيتطرب في أذانه كأنه يدعو الناس إلى وليمة عرس لا إلى الوقوف بين يدي الله، ويقرءون القرآن تلحينا كأنهم يترنمون بأنشودة غرامية، ويذكرون الله فيرقصون رقص المخنث في مواخير الفجور! ويمشون وراء الميت فلا يذهلهم الموت بسلطانه ورهبته عن التنصت إلى أولئك المنشدين الذين يتسابقون في التنغيم والترخيم لإطراب المشيعين! وهذه هي الأشياء التي إن لم يشعر بجلالها العامة فما هم بشاعرين بعدها بمظهر من مظاهر الجلال، والإحساس والجلال كما لا يخفى عنوان عاطفة الاحترام وتقدير العظمة بين الناس. فكيف يكون في الأمة من يحترم إذا لم يكن فيها من يحترم؟! ألا إن الذل لأفضل من هذه الحالة؛ لأن الذل في جانب يشعر بالبطش في الجانب الآخر، ولكن السفاهة في عامة قوم تشعر بالضآلة في خاصتهم، وما ظنك بأمة تلبسها الحقارة والصغار من أعلاها إلى أسفلها؟!

لو كانت الأمة المصرية كلها على هذا النمط الذي وصفنا؛ لجزمنا بموتها موتا قلما تحيا بعده، ولكنها لوثة أصابت المدن وسلم منها الريف، فبقي رجاله بنجوة من هذا النزق الذي داخل رءوس أهل الحضر ومسخ قلوبهم، وربما أنكرت عليهم بعض العيوب، ولكنها عيوب الصحة لا عيوب المرض، فإن كنا نرجو لمصر سلامة، فبهؤلاء تعقد سلامتها وهؤلاء هم عتاد مصر في ثروتها الأدبية كما هم عتادها في الثروة المادية، وما كان أولى المشرفين على التربية عندنا بإنشاء المعاهد العلمية في القرى ليتخرج منها أبناء الريف؛ صحيحة أبدانهم مطهرة قلوبهم قويمة طبائعهم وأفكارهم، إذ الرجاء قليل في نبوغ أفراد من سكان الحضر يرأبون صدع هذه الأمة ويتداركون خللها، والاختبار حتى في الزمن الأخير يدل على أن أكبر نوابغ مصرهم الذين نشئوا في القرى والكفور ولم يشبوا من طفولتهم بين جلبة المدن وغواية ملاهيها. هذا أيام كانت مصر أشبه بالقرى منها بالحواضر الحاشدة، فما بالك بها اليوم!

1

وقد اجتمعت فيها سيئات المدنيتين والتقت عندها عقابيل الداء القديم وأعراض الداء الجديد؟

كم ذا أعاشر من صحبي وأعدائي

من ليس يعقل آمالي وآرائي

قوم على كثب

2

Shafi da ba'a sani ba