5
تخرج أحمد مختار الجمال، وعمل بالخارجية، وأورثني مجلة الحائط «أضواء». كانت تتكون من ثلاث صفحات فولسكاب متوازية، وينشر فيها كل ما يهم طلبة القسم ولكن باللغة العربية، وكانت تصدر أي تعلق صباح الإثنين، وكانت تنشر أيضا بعض الإنتاج الأدبي من شعر وقصص، إلى جانب الكاريكاتير الذي كنت أحتكر رسمه. ومن خلالها عرفت طلبة القسم في السنوات السابقة واللاحقة، وكنت أنشر صورهم وأخبارهم (من سافر ومن تزوجت!) ثم كون زميل عزيز لي اسمه ناجي رياض أول أسرة من نوعها، وأسماها «سراباند»، وكان رائدها هو الدكتور سعد جمال الدين، وكانت الأسرة تقوم برحلات وتقيم حفلات، كانوا يسمونها حفلات السمر آنذاك، ولكننا لم نكد نبدأ حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر. والغريب أن الدراسة لم تتعطل إلا فترة محدودة، بينما اندفع كثير منا إلى التطوع، وكان مركز التجنيد في المدينة الجامعية، وكان التصنيف يستند إلى المعرفة السابقة بحمل السلاح، ولما كنت ممن سبق لهم التدريب في رشيد وفي الأورمان، فقد أتممت الإجراءات بسرعة، وتلقيت بندقية «لي أنفيلد» عتيقة الطراز، وبعد يومين فهمت أن الهدف هو الدفاع المدني لا الحرب، وفي اليوم الثالث، سرحوا الجميع!
وانطلقت أهيم على وجهي كل يوم في شوارع القاهرة، ملتهب الحماس متقد المشاعر ، ولكن الناس كانت هادئة تعيش حياتها اليومية، دون تغيير يذكر باستثناء صوت جلال معوض وهو يذيع البيانات العسكرية، وأم كلثوم وهي تقول «والله زمان يا سلاحي» ونشيد «الله أكبر»! وكان من أبناء خئولة نبيل رضا شاب رقيق اسمه عز الدين فهمي عبد الخالق، وكثيرا ما كنت أزوره في المنزل أو أتجه معه إلى معهد الموسيقى العربية، وقلت له إنني أريد أن أشتري عودا، فقد برح بي الشوق إلى الموسيقى. فقال إنه يعرف صديقا اسمه مدحت الرشيدي، وإن أباه يملك دكانا لبيع الآلات الموسيقية، ولعله يساعدنا. لم يكن معي سوى جنيه ونصف جنيه اقتصدتها من مصروفي. فذهبنا إلى شارع محمد علي حيث الدكان، ولكن مدحت قال إن أرخص عود بثلاثة جنيهات، وكذلك قال جميل جورجي، ومن ثم اتجهنا إلى محل لا نعرف له وصفا بسبب ما ترك الدهر عليه من آثار البلى ولم نكن على ثقة إن كان مفتوحا أم مغلقا. وطرقنا الباب، وانتظرنا، وطرقنا ثانيا، وأخيرا فتحه رجل هرم، لا شك أنه كان مريضا، فرحب بنا، وذكرنا له حاجتنا فرحب وقال اختاروا ما شئتم. وتناولت عودا عاطلا من الزخرفة والزينة فضبطت الأوتار وهو يرمقني، ثم بدأت أعزف التقاسيم التي أستعين بها في ضبط الأوتار، وهي مقدمة فريد الأطرش (القديمة) لأغنية «أول همسة»، وكانت ويا للعجب من مقام الكرد مع أن الأغنية نهاوند! وسألنا محمود علي (وكان هذا هو الاسم الموجود على لافتة المحل) عن ثمنه فقال ثلاثة جنيهات. واحتج عز بأن العود عاطل فقير، فقال: لن تجدا ما هو أرخص من ذلك. وغلبني الحزن ولكنني مضيت في العزف، فغيرت المقام إلى الحجاز فاحتج قائلا «خليك في الكرد!» وعدت إلى الكرد وظللت أعزف وعز يسمع ويرقب وجه الرجل الذي كان خاليا من أي تعبير، ثم نهض عز، وأومأ إلي أن هيا بنا، وعندها قال الرجل: عشان خاطركم باتنين جنيه. وقلت له يا عم محمود! أنا قبلت، ولكن كل ما في جيبي هو جنيه ونصف، وأعدك أن آتيك بالنصف الباقي حالما يتيسر لي! وغمغم الرجل، لكنه لم يتكلم، ومد يده فوضعت فيها النقود، وخرجنا ونحن نعجب منه. وعندما دارت الأيام وذهبت أسدد الباقي كان المحل مغلقا فسألت أهل الحي فقالوا لي «تعيش انت!» فقصصت عليهم القصة، فقالوا أعط النقود لأرملة المرحوم «حسن أتله» الممثل البدين، وهي تتولى توصيل المبلغ إلى مستحقيه، وفعلت ذلك.
وكان «حضور» العود إلى المنزل حدثا ذا مذاق فريد؛ فقد أحيا في نفسي احتضان عبد الوهاب للعود في فيلم «يوم سعيد»، وبكاءه عليه في «يحيا الحب»، وكان ما ارتبط بالعود في خيالي من ألحان الشعراء وعالمها السحري، فكان ملاذي وجنتي، وبدأت أتردد على عز في منزله القريب من منزلي ليساعدني في فك طلاسم الموسيقى الشرقية، وكان يدرس آلة الكمان، فكنا أحيانا نعزف معا أو نناقش إمكانية «تصوير» بعض الألحان؛ أي عزفها من مكان آخر لتناسب صوت المغني، والصعوبات الناشئة عن التصوير، خصوصا مقام «البيات»، أما عندما كنت أذهب إلى المعهد، فكنت مثل الذي دخل بنفسه إلى عالم خيالي لا يدري إن كان يستطيع تصديقه أم تكذيبه.
رأيت «أنور منسي» عازف الكمان الأشهر، الذي يعزف مقدمة أغنية «الفن» والذي ظهر في فيلم «غزل البنات» وهو يعزف «الصولو» في أغنية «ماليش أمل». وذات يوم ونحن جالسان في «البوفيه» دخلت أم كلثوم! كنت كمن شاهد آية من عند الله سبحانه وتعالى! تلفتت ثم حادثت أحدهم وخرجت، وتهامس الموجودون: البروفة! وجمدت في مكاني حتى أومأ إلي عز أن «قم!» فنهضنا واسترقنا السمع إلى بروفة الأغنية الجديدة، وكان في الفرقة سبعة عشر عازفا للكمان، وصوت أم كلثوم يطغى عليهم جميعا!
كان الليل لا يكفي للشعر والموسيقى، والنهار يضيق بدروس اللغة الإنجليزية! كان للمجلس البريطاني مقر في شارع عدلي، وكنت أتردد على المكتبة فأنقل آراء النقاد الإنجليز في الروايات التي أدرسها في كشاكيل ضخمة. وأظل في المكتبة حتى موعد الإغلاق ثم أذهب إلى المعهد، ثم أعود في ساعة متأخرة فأصحو في الفجر! وبدأت اللغة الإنجليزية تكشف أسرارها لي، فلم أعد أعاني من الصعوبة القديمة في الكتابة، ثم دخل إلينا الفصل ذات يوم أستاذ عاد لتوه من إنجلترا هو المرحوم الدكتور محمود ماهر الذي انتهى نهاية فاجعة لا بد لي من روايتها!
كان الدكتور ماهر يدرس لنا مادة الدراما، وكنت مبهورا بهذه المادة؛ إذ كنا تخطينا «المقدمات» وبدأنا الغوص في دراما القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان يقدس «ألاردايس نيكول» الباحث البريطاني في الدراما، ويبدو في سلوكه وكلامه غائبا عن العالم المعاصر، مستغرقا فيما يقرأ وفي أفكاره، وكانت له أحيانا ملاحظات تفيض بالمرارة ويصعب تفسيرها. سأله أحدنا ذات يوم عن «هامليت» وكيف يمكن أن يكون والد «هامليت» عالما بخيانة زوجته له مع «كلوديوس» (عم هامليت)، وكيف يقول إنها ضالعة مع عشيقها في قتل زوجها؟ وأردف السائل: الأرجح أنه كان يجهل ذلك، إذا كان حدث، وإلا لكان قد وضع حدا لتلك العلاقة الآثمة! وضحك الدكتور ماهر ضحكة فيها ألم، وقال بإنجليزية رفيعة: «وكم من زوج يعرف ويسكت! ماذا عساه فاعل؟ خصوصا إذا كان يحب زوجته ويكره فراقها!» وعندما حاول السائل الاعتراض هب فيه الأستاذ صائحا: وماذا تعرف أنت عن ذلك؟ انتظر حتى تتزوج امرأة جميلة تحبها، وسوف تصبر في ألم!
وعلمنا بعد ذلك أن الأستاذ يسكن في فيلا خاصة في مصر الجديدة، مع زوجة إنجليزية شغفته حبا، وأنه يغار عليها ويحمل مسدسا يهدد به من يقترب من الفيلا. وتحققنا من موضوع المسدس حين اقتحم الأستاذ غرفة الدكتور محمد يس العيوطي رحمه الله، وكان أستاذا مساعدا آنذاك، وقال له: أنا متخصص في دراما القرنين السادس عشر والسابع عشر، وإن لم تترك أنت تلك المادة حتى أدرس أنا ما تخصصت فيه، فسوف أعرف كيف أنتقم منك! وحينما أجابه الدكتور العيوطي بأنه (أي ماهر) ما زال مدرسا وتكفيه مناهج السنة الأولى والثانية، أخرج د. ماهر المسدس وقال له: «إذن نتخلص منك!» وذهل العيوطي وانعقد لسانه خوفا ودهشة، وقال له: «درس ما شئت!»
وعندما علم العميد الدكتور عز الدين فريد بالقصة استدعى الدكتور رشاد رشدي رئيس القسم، وتباحثا فيما يمكن اتخاذه من إجراءات لتفادي أخطار المسدس، ولكن الأيام التالية أتت بأخبار جديدة، أرويها طبقا لما نشر في صحيفة الأهرام على لسان العميد. يبدو أن بستانيا - يعمل في حديقة الدكتور ماهر - كان من عادته إطالة الوقوف عند حوض زهور معين بالقرب من شباك الزوجة الإنجليزية، وسواء كانت إطالة المكث بسبب الطبيعة الخاصة للزهور أم لأسباب أخرى، فقد أثار ذلك غضب د. ماهر ودفعه إلى تقريع البستاني. وكان للبستاني أخ يصغره بعدة أعوام يساعده في المهام الصغيرة، فعندما سمع الصغير الإهانات الموجهة إلى أخيه أهرع قادما ليسأل ففاجأه د. ماهر بسباب أهدر كرامته، وهو قبطي من صعيد مصر يأبى الضيم، فهجم عليه فأخرج ماهر المسدس وأطلقه عليه فأرداه قتيلا! وعندها فر الأخ الأكبر وماهر خلفه يطلق الرصاص حتى نفد رصاص المسدس، فتحول من المطاردة إلى الفرار، ولكن البستاني أدركه وثأر لمقتل أخيه فورا. رحم الله د. ماهر.
ومع بداية الفصل الدراسي الثاني، وكانت القوات المعتدية قد رحلت، وانجلت الغمة، تبارى الشعراء في وصف الانتصار الذي أحرزه الشعب المصري بقيادة الجيش المصري الذي انسحب انسحابا تكتيكيا من سيناء، وغنت أم كلثوم «صوت السلام»، وبرزت لأول مرة روح القومية العربية التي ألهبها الزعيم الخالد، وتضامن سوريا مع مصر الذي تمثل في قيام عبد الحميد السراج بتفجير محطة تصدير البترول إلى الغرب، وتردد الحديث عن تحول بريطانيا وفرنسا إلى دول من الدرجة الثانية، وسطوع نجم الاتحاد السوفيتي وأمريكا، ودورهما الحاسم في وقف العدوان الثلاثي، وغضب أيزنهاور الرئيس الأمريكي، وإنذار بولجانين الرئيس السوفيتي بضرب بريطانيا وفرنسا بالصواريخ. كان العالم - أو صورة العالم بعد الحرب العالمية الثانية - في تغير مستمر، وكان تركيز الأنظار على مصر يزيد من تعميق الوعي بالانتماء الوطني والقومي، واشترك الفنانون في عدة أغان لحنها عبد الوهاب وشارك في الغناء فيها، وبدا أن عصرا جديدا قد بدأ يغرب، وأن أضواء عصر جديد تلوح في الأفق.
Shafi da ba'a sani ba