أي الحياة معا دون زواج، وكان يفضل ذلك النظام على الزواج؛ لأن الزوج أو الزوجة فيه لا يتعرضان لضغط «المؤسسة» وتبعاتها المالية، ويتوهمان (في رأيي) أنهما أحرار. ولا داعي للإفاضة في رأيي هنا، فقد قلته ذات مرة لعلي النشار، المهندس العبقري الذي تزوج إنجليزية وهاجر معها إلى أمريكا؛ إذ قلت له: «إنني أدعو لكل من أحبه أن يرزقه الله زوجة مثل نهاد.» وكان رده أن الاستثناءات لا يقاس عليها!
عندما التحق توم هيتون بقسم الترجمة كان يواجه صعابا كثيرة في فهم اللغة العربية، وكان يلجأ إلي حتى أشرح له، كما كان يكتب إنجليزية غير نقية، وغير سلسلة، وكان مرد ذلك في رأيي إلى طول عمله بالتعليم؛ فتعليم اللغة الإنجليزية يورث المرء قدرا كبيرا من التزمت فيما يتصور أنه صحيح أو خطأ، بل ويحد من النماذج اللغوية التي يتصور فيها الصحة، مما يقطع الأسباب بينه وبين اللغة الحية على ألسنة الناس وفي الصحف، وكان يدهش للسلاسة التي أكتب بها تلك اللغة، خصوصا حين اطلع على الفصل الأول من رسالة الدكتوراه وحديثي عن تنوع الأساليب الشعرية بتنوع الأنواع الشعرية في أواخر القرن الثامن عشر. وكانت هيلاري وايز المتخصصة في علم اللغة ومؤلفة كتاب «النحو التحويلي للعربية المصرية» ما تزال تجمع المادة عن العامية، وتتصل بي أنا ونهاد حتى نزودها بالمعلومات التي تريدها عن تلك «اللغة» (أو عن ذلك المستوى اللغوي) وأذكر أنها زارتنا ذات يوم في المنزل، فاطلعت على تحليلي للأساليب المذكورة وعجبت كيف يتسنى لي أن أقيم تلك الفروق بين أسلوب السرد مثلا وأسلوب الوصف وأسلوب التأمل، واقترحت علي أن أستعين بالكمبيوتر في الإحصاءات فقلت لها إنني أتصدى للنصوص الحية، لا لعدد من الكلمات التي تحصى وتعد، فقالت ولكنك تحصي الصفات وتصنفها وتحصي الأفعال والتراكيب وتصنفها، فجعلت أشرح لها كيف أفعل ذلك من داخل النص لا من خارجه، ولكنها أصرت على أهمية الكمبيوتر في ذلك الجهد، وهو ما لا أسيغه حتى الآن.
وفي يونيو كنت قد كتبت الفصل الثاني في صورته الأولى، وكنت كشأني دائما طموحا لا أغفل أدق التفاصيل (وكان أستاذي السابق رحمه الله يقول لي إنك تبغي الكمال فيما لا كمال فيه) وما إن حل أول يوليو حتى وصلنا خطاب من الدكتور نوح الذي كان قد انتقل إلى إدنبره مع أسرته يدعونا إلى زيارته، وكانت فرصة ذهبية لقضاء أيام عطلة في شمال إنجلترا وفي اسكتلندا، فأخذنا الأتوبيس السياحي أنا ونهاد الذي يغادر محطة فكتوريا في الثامنة مساء ويصل إلى إدنبره في الفجر، وغلب النعاس نهاد في أول الطريق، ثم استيقظت في نحو الثالثة وهي تقول لي (وقد غفوت من اهتزاز الأتوبيس): انظر الجبال وألوان الشفق في حي البحيرات! كان مشهدا يخلب اللب، وأفاق معظم الركاب وأخذوا يشهقون للجمال المذهل، وبعد ساعة تقريبا وصلنا إلى إدنبره، وضوء الصباح يتسلل من وراء الجبال، ولم تلبث الشمس أن طلعت، فذهبنا إلى منزل الدكتور نوح، وكان قد استأجر منزلا كاملا، فأيقظنا أهل الدار، وأوصلتنا «فتان» زوجته إلى غرفتنا (إذ أصروا على استضافتنا لديهم) فنمنا ساعة أو ساعتين، ثم صحونا في نحو التاسعة لنبدأ اليوم الجديد!
في رحلة إلى الجنوب عام 1973م.
وسمعنا ونحن نشرب الشاي الدكتور نوح يقول لزوجته هل أتى الدكتور حامد باللحم؟ وردت عليه ردا لم أسمعه، ثم جاءت الفتاتان راندا ورحاب مع خالد الصغير ليسلموا علينا، وطبعا سألته عن موضوع حامد! كان حامد يدرس الطب في إدنبره، وينطبق عليه تماما قول طه حسين في الأيام: «قضى عشرين سنة لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفر بها.» وكان قد اكتشف أن العرب والمصريين يحبون الكوارع و«لحمة الرأس» والسقط، فصار يعمد في الصباح الباكر إلى السلخانة؛ حيث يقابل صديقا باكستانيا يذبح الحيوانات بالطريقة الإسلامية، فيزوده بهذه الأشياء مقابل قروش زهيدة، ثم يمر بها على بيوت العرب والمصريين لتوزيعها عليهم، بأسعار «معقولة»، وتدريجيا أصبح يأتيهم باللحم كذلك مقطعا بالطريقة الشرقية، فراجت تجارته، واشترى منزلا، لكنه لم ينس أبدا دراسة الطب، فإذا قال له أحدهم: «عد إلى مصر.» غضب غضبا شديدا وقال: كيف أعود دون الدكتوراه؟
وبعد نزهة في ربوع إدنبره عدنا إلى المنزل لنستمع إلى أخبار حرب الاستنزاف، وكانت تلك أيام إسقاط الطائرات الفانتوم الإسرائيلية، وكان الدكتور نوح لديه راديو رائع نسمع فيه مصر بوضوح، وكانت أجهزة الإعلام البريطانية تشير إلى إسقاط هذه الطائرات بنسبة الفضل لا إلى مهارة المصريين بل إلى عظمة الأسلحة السوفيتية، وكنا نغتاظ مما يقوله المذيع مثلا من أن «الصواريخ السوفيتية أسقطت الطائرات الإسرائيلية» وهو لا يقول «السوفيتية الصنع» ولا «الطائرات الأمريكية» كأنما كان الاتحاد السوفيتي هو الذي يتصدى لإسرائيل! ومع ذلك فقد كان العرب جميعا جذلين مستبشرين، وبعد السياحة في اسكتلندا بدأنا جولة في حي البحيرات، وزرنا كوكرماوث
Cockermouth
مسقط رأس وردزورث، وكنت أنطق اسم البلدة النطق الشائع في جنوب إنجلترا؛ أي بإدغام الميم والثاء، ولكن أهل البلدة كانوا ينطقون الاسم «ماوث» (بمعنى مصب، وهي اللاحقة التي تدخل على أسماء الأنهار) فعجبت لذلك، ثم ذهبنا إلى كيزيك
Keswick
وسرنا على الأقدام (مثل الشاعر) حول بحيرة صغيرة محيطها 11 ميلا قطعناها في ثلاث ساعات، ثم زرنا بحيرة وندرمير
Shafi da ba'a sani ba