وقد شغلني موضوع العامية شهورا؛ لأنني كنت أستمع بشغف إلى حكايات الناس في المسجد، وأتمنى أن أكتبها؛ فمعظمها يصلح قصصا خيالية مثل ألف ليلة وليلة، خصوصا حكايات «جنايني» (بستاني) اسمه ظفر (ولم أعرف له اسما آخر) إذ كانت جعبته حافلة دائما، وكان يروي مغامراته أثناء قضائه فترة التجنيد الإجباري في فرقة ضربت خيامها في منطقة قناة السويس، وكان يقص علينا كيف كان هو وزملاؤه يسرقون المؤن والذخائر من الإنجليز، وكيف يحفرون السراديب والخنادق ويضعون اللون الأسود على وجوههم حتى لا يراهم الأعداء، وكيف سرقوا ذات يوم دبابة كاملة! (وكم كانت دهشتي حين كبرت وقرأت الطبري - تاريخ الرسل والملوك - فوجدت الكلمة نفسها بمعنى آلة الحرب التي تدق الحصون ويختبئ فيها الرجال في الجزء الرابع!) كانت أقاصيصه تصلح مادة للتاريخ والأدب جميعا، وقد خرج علينا محمد حسنين هيكل في «ملفات السويس» بتفسير لها يقول إن الإنجليز كانوا على علم بالسرقات وكانوا يسهلونها للمصريين بغية الضغط على حكومتهم للجلاء عن القاعدة. على أي حال، كانت القصص بالعامية وتحويلها للفصحى يفقدها شيئا كنت أجهله، وأعرف الآن أنه، بلغة النقد الحديث، البعد الثقافي، فالثقافة ذات ارتباط وثيق بالزمان والمكان، والإحالة إلى الفصحى تحيل القارئ إلى مكان آخر وزمان بعيد! ولذلك فأنا أقول هذه الأيام إن الترجمة إلى العامية من لغة أجنبية أقرب إلى التمصير والتحديث منها إلى الترجمة.
وعندما اكتشف تلاميذ الفصل ثالثة «ب» أنني ذو ولع بالكتابة واللغة العربية، قالوا لي إن إمام الفصحى في المدرسة طالب اسمه فوزي أبو العلا، فهو خطيب مفلق، ومتحدث ذو بيان ساحر، وإن علي إن شئت الاستزادة أن أصادقه. ولكن فوزي كان يصادق تلاميذ من الكبار، ويستنكف مصادقة الأوائل العاكفين على الدروس، فكنت أقترب منه حذرا فأسمعه يغني لأم كلثوم، أو ينشد شعر شوقي الذي تغنيه، أو يكتب على السبورة في مدخل المدرسة أبياتا لشوقي يغنيها عبد الوهاب، وأذكر منها قصيدة دمشق. وحاولت الاقتراب ولاقيت الصدود، ونصحني سمير نور، ابن أحد حلاقي الصحة الرئيسيين (الآخر هو مصطفى عابدين)، أن أطلعه على شيء من شعري، وأومأت برأسي موافقا ولكن لم يكن لدي سوى البيتين القديمين، فأضفت إليهما بيتا هو:
هل كنت تسمع والأنسام تلعب بي
والليل يحضنني والبدر يرعاني
ودفعت بالأبيات الثلاثة إليه فأشرق وجهه، وقال لي: اليوم هو الخميس الأول من الشهر، وأم كلثوم ستغني في الإذاعة ثلاث وصلات، أراهنك على أن الأغنية الأولى هي: ياللي كان يشجيك أنيني (رامي والسنباطي)، والثانية هي النيل (شوقي والسنباطي)، فسألته: والثالثة؟ فضحك وقال: نكون نمنا! وقلت له إنني لا أستطيع السهر لسماع أم كلثوم فتعجب وقال: تعال معنا إلى كازينو أبو علفة! وكان ذلك مقهى ريفيا متواضعا أشد التواضع، يضع الكراسي على شاطئ النيل، ويقدم الشيشة (النارجيلة) للزبائن والشاي المغلي (بنصف قرش) أو الشاي الكشري؛ أي غير المغلي (بقرش كامل)، والقهوة للأغنياء (بقرش ونصف).
وذهبت للسهر مع الشلة، وكان ذلك بمثابة تخرجي من مرحلة الطفولة ومن الإخوان ومن حياة العزلة، ولكن البعوض كان جائعا جوعا غير مسبوق، فجعل يمتص دمي وأنا صابر حتى إذا بدأت قصيدة النيل عدت أدراجي، والمثل السائر يتردد في ذهني «ولا بد دون الشهد من إبر النحل!» لم ينقطع صوت أم كلثوم المنبعث من المقاهي حتى وصلت المنزل ونمت هربا من آلام البعوض، ولكن فرحتي بالتخرج أنستني كل شيء. وتمنيت لو من الله علي ببيت آخر أو بيتين يؤكدان «أوراق الاعتماد»، ولكن القريحة كانت قد نضبت.
كان يوم الجمعة يوم راحة للجميع. وكانت والدتي لا تطبخ في هذا اليوم بل تعطيني عشرة قروش أشتري بثمانية أو تسعة أقة سمك (1,248 كيلوجرام)، وآخذه إلى الفرن حيث يشوى بنصف قرش، وأشتري بما يتبقى خضروات السلطة (طماطم وخيار وليمون وجرجير). كنت نسيت أحداث الليلة البارحة، وإن كانت أنغام «ياللي كان يشجيك أنيني» ما تزال تصعد بي إلى السماء، واتجهت قبل الصلاة إلى السوق لأشتري السمك، فإذا بفوزي أبو العلا مع الشلة يتسامرون، فخجلت أن أشتري السمك أمامهم، وترددت كثيرا، ثم ذكرت أن ثمة سوقا أخرى للسمك في «قبلي» فذهبت إليها، وصليت في مسجد آخر، وصنعت مثلما أصنع كل جمعة. ولكنني أحسست أن التخرج له ثمن أكبر من طاقتي، خصوصا عندما طلب مني إبراهيم شحتوت، وهو من دعائم الشلة، أن أتخلى عن الجلباب وأرتدي الحلة مثل بقية المحترمين!
فعلت مثلما فعلت مع الإخوان؛ إذ أظهرت الموافقة، وأضمرت الخلاف، وقررت أن أعود للحرية. وانتهزت فرصة انتهاء العام الدراسي وعدم الحاجة إلى ارتداء البدلة صباحا، وأصبح الجلباب هو زيي ليلا ونهارا. ولاحظت أن جدران البلدة ألصقت عليها صور شخص اسمه عبد الحليم حافظ، فسألت سمير نور فقال إنه مطرب جديد، وذات يوم وكنا في يوليو 1952م رأيت في الصحيفة إشارة في برنامج الإذاعة إلى أغنية اسمها «على قد الشوق»، فاتجهت إلى سمير نور، وكنا في مسجد المحلي نصلي العصر، ها هو المطرب سوف يغني اليوم، فقال بثقة لا لا .. هذا خطأ .. الأغنية اسمها «على مدد الشوف». وطبقا للقواعد الريفية أمن الباقون على كلامه، فلزمت الصمت، ثم انتظرت موعد الأغنية وكانت كما جاء في الصحيفة. من هذا المطرب؟
ولم تمض أيام حتى قامت الثورة، وبدأ الناس يتساءلون عما حدث، وقالت جدتي ماذا حدث للملك؟ «حسرة على شبابه .. ملك ويعملوا فيه كده؟» وكنت أنا نفسي لا أدري ماذا حدث؛ فالصحف تصف التأييد الشعبي الساحق، واللواء محمد نجيب يبتسم ابتسامته الساحرة، وعلي ماهر باشا مكلف بتشكيل الوزارة الجديدة، ولا أحد يعرف ما يكون. وناداني أحد معارف والدي وكان يجلس إلى منضدة صغيرة في مقهى كبير بشارع السوق وقال لي: «محمد أفندي! قل لي! الثورة دي حتعمل إيه؟ حتفتح مطاعم مثلا؟» ولم أعرف ماذا أقول. قلت له إنها ستزيل الفساد وتصلح الأحوال. فرد في يأس «يعني مش حتفتح مطاعم؟!»
6
Shafi da ba'a sani ba