يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
وحاولت أن أزيد فلم أفلح، ولم تكن علي واجبات مدرسية، فقضيت بقية المساء أقرأ الشعر حتى غلبني النوم.
وقد اكتشفت في الأيام التالية معنى «زردق»، لكنني لم أشف غليل السائلين أو أفصح لهم عما حدث لي أو يحدث لي؛ فقد كنت مشغولا أيضا بما يحدث في مصر منذ أن بدأت أقرأ الصحف، وأستمع إلى نشرات الأخبار، وأتردد على شعبة الإخوان المسلمين.
كانت الصحف غاصة بأخبار قضية «الأسلحة الفاسدة»، وهي القضية التي أثارها إحسان عبد القدوس في مجلة «روز اليوسف»، وكثيرا ما كانت المجلة تصل إلينا في رشيد قبل أن تصادر أعدادها في القاهرة، فكنا نقرأ ما لا يقرؤه القاهريون، وكانت أحيانا تصل وقد شطب الرقيب فقرات أو مقالات كاملة، وكان الهجوم شديدا على الفساد في الحكومة، وعندما وقعت مذبحة الشرطة في قناة السويس (على أيدي الإنجليز) كان الهجوم لا يتوقف على فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، الذي أمر الشرطة بالمقاومة وهم لا قبل لهم بها، وكان الهجوم يصيب أيضا السيدة زينب الوكيل حرم النحاس باشا، وأحمد عبود باشا، صاحب شركات السكر والبواخر، وفرغلي باشا تاجر القطن، وباختصار كبار الرأسماليين وأصحاب الأراضي الشاسعة مثل البدراوي عاشور وغيره. وكان الأستاذ أنيس مدرس الجغرافيا قد قدم لنا تصوره عن الفرق بين الرأسمالية والشيوعية، فقال إن الأولى تتميز بملكية الأفراد لوسائل الإنتاج، والثانية بملكية الدولة لها، أما الاشتراكية فهي تملك العمال أنفسهم مصانعهم أو مزارعهم؛ ولذلك فهي تجعل العامل هو نفسه صاحب العمل؛ مما يجعله حريصا على نجاحه وصيانته وتطويره. وقال لنا إن العدل الحقيقي هو أن يكون الأجر جزءا من المكسب، وأن يشرف العمال على رعاية أنفسهم صحيا واجتماعيا، وأن تتحدد الأجور تبعا للعمل كما وكيفا، لا على أساس الامتلاك الذي يولد الاستغلال. وكان عبد المنعم درويش (واسمه الأصلي «الصباغ») رحمه الله مدرس التاريخ يقارن نفسه بمصطفى النحاس الذي ضحكت له الدنيا؛ لأنه دخل كلية الحقوق فأصبح قاضيا وسياسيا مرموقا، يرتدي رباط عنق بثلاثة جنيهات، بينما دخل هو كلية الآداب فأصبح مدرسا يرتدي رباط عنق «بعشرة صاغ من على الرصيف!»
ولما كان عطشي للقراءة لا يكاد يرتوي، لجأت إلى حيلة فريدة، فكنت أذهب إلى عطار في السوق الرئيسية اسمه أمين البحة (بتشديد الحاء)، وأقترض منه حزمة من المجلات القديمة التي تباع بالوزن لاستخدامها في بيع العطارة، وكنت أقرؤها ثم أعيدها مقابل نصف قرش فقط، فكنت آتي «بالمصور» و«الاثنين» و«آخر ساعة»، ومجلة الراديو القديمة وبعض الصحف أيضا، وكنت أبدأ بقراءة القصص والشعر، ثم آتي على التحقيقات الصحفية والتعليقات والأخبار التي تكون قد فقدت قيمتها. ولكن الاكتشاف الذي كانت له أكبر قيمة هو مخزن «المقتطف» و«الهلال» و«الكاتب المصري» و«الكتاب» (التي كان يحررها عادل الغضبان) في الطابق العلوي. كانت تنتمي لا شك لأخوالي باستثناء «الكتاب» التي كان والدي يشتريها بانتظام، وفيها وجدت مادة خصبة لخيالي، وقصصا بأقلام مشاهير المستقبل، وأشعارا لناجي والمازني ومحمود عماد؛ ممن كنا نجهل شعرهم في المدرسة. وأذكر من أسماء دار الهلال التي كانت تصادفني كثيرا بنت الشاطئ وأمير بقطر وطاهر الطناحي وعباس علام ووليم باسيلي وصوفي عبد الله وأبو بثينة (الزجال).
كان صيف 1951 ممتعا، لم يعكره لغز زردق (وقد اكتشفت أنه لم يكن زارني كما توهم «الكبار»)، بل كان الصيف رحلة دائبة لا تنقطع على صفحات الكتب والمجلات، وفي العصر كنا نخرج أنا والزملاء للنزهة على الطريق الزراعي الذي تحيطه الكثبان الرملية على الجانبين، ثم نعود فنتوقف قليلا عند «سينما رشيد»، وهو مبنى قديم كان يستخدم جراجا لشاحنات الجيش البريطاني، ثم اشتراه أحد التجار وحوله إلى دار للسينما، ولكن التذاكر كانت غالية، فكرسي البلكون رسميا بتسعة قروش ووديا بستة ونصف، ومنتصف الصالة رسميا بستة ونصف ووديا بقرشين ونصف، أما مقدمة الصالة فهي دكك خشبية خشنة، رسميا بقرشين ونصف، ووديا بقرش صاغ واحد. وكان الفيلم الذي استمر عرضه طويلا وكنا نقف خارج السينما للاستماع إلى أغانيه هو «غزل البنات» دون أن ندفع شيئا، وكان «الكبار» من زملائي يقفون وهم يذرفون الدموع مع أغنية عبد الوهاب الأخيرة «عاشق الروح»، لكنني لم أكن أشاركهم التأثر.
كان والدي في هذه الأثناء يذهب إلى فرع الشركة بالإسكندرية (وكان يسمى المكتب) وكان يعمل معه أيضا عمي عبد المحسن وعمي أحمد، اللذان شاركا خالي بمقدار معين من المال، وكان والدي يصطحبني أحيانا لقضاء أيام معه في الإسكندرية، وكنت أحب هذه الأيام، خصوصا ميل والدي إلى الأكل في المطاعم، وفي وقت مبكر، فما إن تحل ساعة الغداء في الثانية عشرة حتى يقول لي هيا! وكثيرا ما كنا نذهب إلى مطعم مصطفى درويش بائع الكباب، وكانت أشهى الوجبات لا يزيد سعرها عن قروش معدودة. وكان والدي قد تحول اهتمامه أو تحول جانب من اهتمامه إلى الطيور فصار يحدثني عن أنواعها وفصائلها، وخصائصها وألوانها وعاداتها، وكان يتحدث دائما بلهجة من يشاركها حريتها وانطلاقها، وكثيرا ما كان يقضي الوقت في قراءة كتب الطيور الأجنبية في ساعات العمل بالمكتب، أو في رسم صورها الملونة، وجمع المادة الخاصة بالطيور التي تزور مصر، وقد نمت تلك النزعة لديه حتى أصبح يمتلك مكتبة خاصة بالطيور يزيد عدد الكتب فيها عن ألف كتاب بالإنجليزية، ثم وضع المادة في صورة كتاب قام بتلوين لوحاته بنفسه ، واستغرق منه عشرين سنة.
Shafi da ba'a sani ba