أيضا)؛ ومن ثم فقد قررت أن تتركه لزوجته، وطلبت منه تفاصيل الزواج، فقال لها إنه تزوجها بالتوكيل وإنها سوف تحضر إليه يوم السبت 27 أغسطس، وقال إنه لا يدري ما الذي جعله يحدد هذا الموعد؛ إذ كان حائرا مضطربا؛ لأنه يخشى أن تكتشف الحقيقة ولذلك فكر في أن يسافر إلى مصر وأن يتزوج فعلا ولكن الأحداث لم تمهله؛ إذ قالت له برنة صدق لم يعهدها في فتاة من قبل: «فلنسافر معا إلى حي البحيرة أسبوعا أو أسبوعين، ثم أتركك قبل موعد وصول زوجتك بفترة «معقولة»، على الأقل حتى تعتاد أن تنسى اسمي ولا تخاطبها بما كنت تناديني به (وهو كاثي)» ووافق عبده؛ لأنه كان كما يقول يشعر بأنه قد وقع في فخ لا فكاك منه، وكان الحل الذي اقترحته «معقولا» وفعلا سافرا أسبوعا وقضيا ساعات جميلة كانت فيها مثال العاشقة المخلصة، تسهر على راحته وتفعل كل ما يتمناه حتى دون أن يطلبه، حتى تساءل ذات يوم بينه وبين نفسه لماذا لا يتزوجها؟ وكان يعجب منها حين تصحو مبكرا وتكتب ما يشبه الخطابات الموجهة إليه، وكثيرا ما يلمح الدموع في عينيها خلسة، وإذا سألها قالت له: «لا .. لا شيء.»
ماريون زميلتنا في العمل في كوينز هاوس.
وما إن عادا من الرحلة، وكان ذلك يوم الجمعة 12 أغسطس حتى اتفقا على زيارتي في اليوم التالي، وكانت قد سمعت كثيرا عن محمد الذي يعتبره «عبده» أخا أكبر يشتهر «بتعقله واتزانه»، واتخذت جميع إجراءات رحيلها إلى منزل والدها، وجاءا إلي وكان ما قصصته عند مقابلتهما. وقلت لعبده إنها كانت تبذل محاولة أخيرة لإقناعه، ولكنه قال إنها ذات إرادة حديدية «وكان يمكن أن أتزوجها لولا شخصيتها المسيطرة» وانطلق يرسم في خياله ما كان يمكن أن يحدث له لو تزوجها وعاد بها إلى القاهرة، وقلت برنة الملاحظة العابرة إنها كانت ستكتشف كذبه عليها، فقال دون مبالاة: «لقد حدثتني كاثلين عن رواية قرأتها للكاتبة ميوريل سبارك
Muriel Spark
اسمها بوابة مندلبوم تصور فيها اليهود والعرب في القدس، وتصور فيها إحدى الشخصيات (واسمه علي) على أنه كذاب بالطبع والسجية، وقالت لي أكثر من مرة إنها تعرف أن العرب كذابون!»
وفجعني ما أسمع! «هل وطنت نفسها إذن على أنك كذاب بطبعك وسجيتك لأنك عربي؟ ولماذا لم تناقشها في ذلك؟» وهز كتفيه غير مكترث بحماسي ثم غمغم: «كثيرا ما كنت أكذب عليها في أشياء صغيرة فتضحك، وكانت دائما تقول: «لا يهمني ما تكذب علي فيه ما دام حبك صادقا، ودلائل صدقه واضحة ساطعة!» إنها فتاة عجيبة يا عم عناني! ولو كان الإنجليز جميعا مثلها لخرب العالم!» ونظر في الساعة ثم نهض، فنهضت وأنا أدرك أنه يريد الخروج ل «شم الهواء»، وخرجنا وقال لي ونحن في الطريق إلى محطة القطار: «مرت بي لحظات قلق حين كنا نزور الكنائس فأصلي بالعربية؛ فأنا أصلي كثيرا، وكنت أخشى أن تسألني إذا كان يجوز للمسلم أن يصلي في الكنيسة، ولكنها لم تسأل هذا السؤال أبدا!»
وعندما وصلنا إلى المحطة قلت له: «هل ستحاول الاتصال بها من جديد؟» فرد ضاحكا «وأخون زوجتي معها؟!» فقلت بنفس النبرة الضاحكة: «لا بد أن أراها حين تصل يوم 27 منه!» فقال «ضروري .. أمال!» وهمست وأنا أصافحه حين وصل القطار: «ولا تنس أن تختار لها اسما طريفا!» ويبدو أن ضجيج القطار طمس صوتي، فقال وهو يجري للحاق به «ماذا؟» فصحت «ولا يهمك .. مع السلامة!» ومضى القطار بعبده، وعدت إلى الغرفة، وكانت الساعة قد جاوزت الخامسة، فوجدت أنه قد ترك خطابات كاثلين وبعض أوراقها، ولا أدري إن كانت قد تركتها هي معه عامدة أم سهوا، فوضعتها على رف عال بجوار الكتب، وهبطت إلى غرفة التليفزيون لأتابع أنباء الثورة الثقافية في الصين.
6
يوم الخميس 8 سبتمبر 1966م «موعد وصول حبيبتي» كان ذلك ما كتبته في المفكرة، وذهبت مبكرا إلى المطار، كان الجو صحوا، وكان في السماء سحابات لا تقوى على حجب ضوء الشمس وذهبت إلى مكان انتظار القادمين، وظللت واقفا لا أجرؤ على تحويل عيني عن الباب الذي يخرجون منه، وفي نحو الواحدة ظهرا رأيت نهاد تهبط السلم وهي ترتدي نظارة شمس وتحمل العود في يدها، وكنت قد أوصيتها بإحضاره، وكان حمله مربكا ولم تكن قد اعتادته، فتعثرت وكسر كعب الحذاء، وقلت للحارس: «هذه زوجتي!» فابتسم وقال: «تفضل.» فهرعت إليها لحمل العود، ولم نلبث أن أخذنا الحقيبة وخرجنا إلى الأتوبيس.
وبعد الدردشة العابرة قالت لي: «أين العمل؟ ألم تعدني بأنني سأعمل؟» وضحكت وقلت لها: «ضروري إن شاء الله.» وكان حوارنا يتحول إلى الإنجليزية بسهولة ويسر، وما لبثنا أن وصلنا إلى الغرفة التي كنت قد اهتممت اهتماما بالغا بتنميقها، وكانت نهاد رغم سهر الليلة السابقة متعطشة لرؤية المنطقة والحديقة وكل ما سمعت عنه في خطاباتي، فخرجنا للغداء ثم للنزهة، وصحبتها إلى مكان سوق السبت الذي يبيع المزارعون فيه منتجاتهم بأسعار زهيدة، (قفص الطماطم بخمسة شلنات وكيلو الموز بشلن ... إلخ) ثم سرنا في شارع
Shafi da ba'a sani ba