كانت التطورات جادة وتتطلب تفكيرا عميقا، فجلسنا على أحد المقاعد الخشبية في الحديقة للنظر في جميع الاحتمالات، وكانت اقتراحاتي كلها مرفوضة، لا لأن عبده يرفض الارتباط بكاثلين ولكن لأنه يريدها ولا يريدها في الوقت نفسه، وهو لا يريد أن يقول الحقيقة حتى ولو كانت فيها نجاته، وعندما غربت الشمس بدأنا نحس نسمات البرد الخفيفة، فاقترحت عليه أن يأتي معي إلى غرفتي، ولكنه كان يخاف أن تكون في انتظاره؛ ومن ثم أعطاني عنوانه السري الجديد ورقم تليفونه ورحل.
وعندما عدت إلى الغرفة نحيت أوراق الرسالة والكتب جانبا، وجلست إلى المكتب أقرأ رسائلها إليه، بعد أن وضعتها في تسلسلها الزمني الصحيح، وفقا لتواريخ إرسالها، وبدأت بالرسالة التي تحكي فيها قصة غابة وندسور، ولاحظت أن فيها فقرات تكاد تكون منقولة بالحرف من رواية عشيق الليدي تشاترلي للكاتب د. ه. لورانس
D. H. Lawrence’s Lady Chatterly’s Lover ، التي أخرج لها الدكتور أمين العيوطي ترجمة عربية ممتازة في الثمانينيات، كما كانت بها فقرات تقطع بأن كاتبتها موهوبة، وأنها تمثل نمطا فريدا من التفكير الرومانسي كان الدكتور شفيق مجلي قد حدثني عنه في مصر في الستينيات، فلم أكد أصدقه. وسوف أقتطف من هذه الرسالة التي ما زلت أحتفظ بها فقرة قصيرة: «إنك تخاف يا حبيبي من القيود والمحاذير التي وضعها الناس لأنفسهم، وهي قيود ينسبونها إلى الدين أو إلى الأديان، ولكنك إذا رجعت إلى اليهودية أقدم الأديان لوجدت أصل هذا الخلط؛ الإنسان لا يستطيع التفكير المجرد، ولا يستطيع الاتصال بروح الكون، وهو لا يستطيع إدراك المعنى إلا إذا رآه مجسدا في رمز، ونحن لا نعرف معنى الروح البيولوجية إلا عند تأمل الخلية الحية. تعرف هذا مثلما أعرفه؛ ولذلك كان اليهود يرون أن الله لا يعبد إلا في معبد، فألبسوا المعبد ثوب القداسة وجعلوه مكانا إلهيا، مثلما فعلنا نحن بالكنيسة ومثلما فعلتم أنتم بالمسجد (حسبما تقول ممتاز) ولذلك أيضا صب كل رجال الدين همهم على الجسد؛ لأنهم رأوا فيه رمزا للروح؛ أي إنهم تصوروا أن الروح تسكن فيه فحرموا هذا وحللوا ذاك، ولكن الجسد والروح شيء واحد، والخلية إذا لم تكن حية لم تعد خلية؛ أي إن الحياة صفتها الأساسية، ونحن لا نتعامل مع مادة مضافا إليها (
plus ) روح، بل مع حياة إذا قتلتها لم تعد موجودة، وهذا هو ما قلته لك حين غبنا عن الوعي تحت الشجرة أول مرة، لقد امتزجنا فأصبحنا حياة واحدة، ولاحظ أنني لا أقول جسدا واحدا، وكانت تلك الحياة الواحدة هي التي تكررت بعد ذلك ثلاث مرات، ولا أستطيع أن أتصور بعد ذلك كيف تتكلم عن الإسلام أو المسيحية!»
وقلت في نفسي «ما أشد جرأتك يا عبده أفندي!» وظللت أقرأ خطابات تتكرر فيها هذه المعاني حتى وصلت إلى الخطاب الأخير، وكان الخط رديئا فالواضح أنه كتب على عجلة، ولكنني ثابرت حتى قرأت العبارة المذهلة التالية: «أخبرت والدي بأنك مسلم، فلم يعترض، وتساءلت والدتي: هل هذا معناه أنه ليس كاثوليكيا؟ فرد عليها قائلا: «طبعا يا جاهلة .. المسلمون مهذبون.» (
decent ) وقالت أمي: لا بأس، ما دمت متأكدا أنه ليس كاثوليكيا! أبشر يا حبيبي، لسوف نحقق أحلامنا. وأرجوك أن ترد على خطاباتي.»
وأسرعت إلى التليفون، لكنه لم يكن قد وصل بعد، ثم فكرت في الذهاب إليه بنفسي، لكني تساءلت ماذا عساي أن أفعل لو كنت مكانه؟ ولما لم أجد إجابة شافية، ضممت الخطابات بعضها إلى بعض، باستثناء خطاب الغابة، ووضعتها في الدرج، وقررت الانتظار إلى الصباح.
الفصل الثالث
الخريف الجميل
1
Shafi da ba'a sani ba