قال الشيخ: المعنى محجوب، وإذا جاءت العبارة ولم تكشفه بقي المعنى في حجابه. وقول أبي الفتح متشاكل للفظ المتنبي بلا تفسير. وإنما المعنى: إن الوشاة عجبوا من اللاحين حيث كلفوه الصبر عن خلته وهو لا يستطيعه فكان عجبهم أنهم طلبوا منه ما لا يقدر عليه. ومثله قول البحتري:
يُكَلِّفُني عَنْكَ العُذولُ تَصَبُّرًا ... وَأَعْوَزُ شَيءٍ ما يُكَلِّفُنيه
قال المتنبي:
إنَّ المُعينَ على الصَّبابةِ بالأسى ... أوْلَى بِرَحمةِ ربِّها وإِخائِهِ
قال أبو الفتح: أي على ما بي من الصبابة بالأسى أي ى معونة لي عنده غير أنه يحزنني فهذا معونته إياه ومثل) على الصبابة (قول الأعشى: وَأَصْفَدَني على الزَّمانَةِ قائِدًا أي على ما أنا فيه من الزمانة. وليس معنى على الصبابة هاهنا كقولك أعنت زيدًا على عمرو لأنه لو أعانه على الصبابة لكان معه لا عليه، وأنت قد تراه يتظلم في هذا البيت منه إلا على الصبابة بأن زادني عليها تحزنًا.
قال الشيخ: معنى بيت المتنبي: إن الذي يصيرني على ما بي من الشوق والهوى ولا أستطيعه هو أولى بأن يرق لي ويساعدني على شجوي.
قال المتنبي:
فَتَبيتُ تُسئِدُ مُسئدًا في نيِّها ... إسآدَها في المَهمَهِ الأنضاء
قال أبو الفتح: الإسآد إغذاذ السير ويقال لسير الليل خاصة. والني الشحم. ومسئدًا منصوب على الحال من الضمير في تسئد وهي حال مؤكدة لعاملها وفاعله المرفوع الأنضاء. أي فتبيت تسير سائرًا في نيها الأنضاء سيرًا في المهمه أي تقطع الفلاة شحمها كما تقطع هي الفلاة، وهذا الذي حصلته عن أبي الطيب.
قال أبو القاسم: تفسير هذا البيت قول أبي تمام الطائي ومنه أخذ المتنبي إلا أنه عقّد الألفاظ وعوّصها وأظلم المعنى. وبيت أبي تمام:
رعته الفيافي بعدما كان حقبةً ... رعاها وماءُ الروض ينهلُّ ساكبُه
وأبو تمام أخذ هذا المعنى من بيت العرب أبعده أبو سعيد السيرافي عن أبي بكر محمد بن دريد في كتاب الأبيات للأشانداني وهو:
وَذاتِ مَاءَين قَدْ غَيَّضْتُ ماءهما ... بحيثُ تُستِمْسَكُ الأرماقُ بالحَجَرِ
رَدَّتْ عَوَاريَّ غيطانِ الفلا وَنَجَتْ ... بِمِثْلِ إيالَةٍ من يابِسِ العُشَرِ
قال المتنبي:
حتَّى إذا لم يدَعْ لي صدقُهُ أملًا ... شَرِقْتُ بالدمعِ حتى كادَ يتشرَّقُ بي
قال أبو الفتح: أي كثر دمعي حتى صغرت أنا بجنبه بالإضافة إليه.
قال أبو القاسم: معنى هذا البيت أنه لما أتاني نعي المتوفاة نزفت دمعي بالبكاء حتى لم يكد يجري وبقي حائرًا في الجفن فكدت أقضي نحبي فيجف الدمع بي، وليس للكثرة والقلة معنى كما ذكره أبو الفتح. وللشعراء في ذكر الدمع والعين أساليب حسان. فمن أحسن ما ذكروا قول أبي حية النميري وهو أول من افترعه:
نَظَرْتُ كأنّي مِن وَراءِ زُجاجَةٍ ... إلى الدَّارِ مِن فَرْطِ الصَّبابةِ أنْظُرُ
وقال بعض العرب:
وَمِمَّا شَجاني أنها يومَ أعرضَتْ ... تولَّت وماءُ العينِ في الجفنِ حائِرُ
وتبعه بشار فقال: أقولُ وَقَدْ غَصَّتْ جُفوني بِمائِها وقال ابن حبيبات:
أُلِمُّ بالبابِ كي أشكو فَيَمنَعُني ... فيضُ الدّموعِ على خدي من النَّظَرِ
أقبَلْتُ أطْلُبُها والقَلْبُ مَنْزِلُها ... أعْجِبْ بِمُقْتَرِبٍ مِنّي على سَفَرِ
وقال البحتري:
وَقَفْنا وَالعُيونُ مُشْغَلاتٌ ... يُغالِبُ دَمعَها نَظَرٌ كَليلُ
نَهَتْهُ رُقَيَّةُ الواشينَ حَتَّى ... تَعَلَّقَ لا يَغيضُ ولاَ يَسيلُ
وقال المتنبي:
عَشيَّةَ يَعدونا عن النَّظَرِ البُكا ... وعن لذَّة التَّوديعِ خوفُ التَّفَرُّقِ
فهؤلاء كلهم وصفوا حيرة الدمع وكلهم قاصرون عن أبي حية. وأما في معنى تدارك سيلانه فليس فوق قول قيس شيء أنشدناه المرزباني عن عمر بن شبة عن الأصمعي، قال:
وَنُريكَ وَجْهًا كالوذّيلةِ لا ... ظَمآنُ مُختَلِجٌ وَلا جَهْمُ
واخترت في صفة العيون قول عدي:
وَكَأنَّها بَينَ الظباءِ أعَارَهَا ... عَيْنَيْه أحْوَرُ مِن جآذِرِ جاسِمِ
وَسْنانُ أقْصَدَهُ النُّعاسُ فَرَنَّقَت ... في عينهِ سِنَةٌ وليسَ بِنائِمِ
واخترت في نعت الدمع قول قيس:
1 / 8