ومولىً كأنَّ الشّمسَ بيني وبينهُ ... إذا ما التقينا لَسْتُ مِمَّنْ أُعاتِبُه
وأما بيت الحماسة:
إذا أبصَرْتَني أعرَضْتَ عني ... كأنَّ الشَّمْسَ من قِبَلي تَدورُ
فهو في المعنى مثله وفي اللفظ دونه وقد اختلف في تفسيره. وقد ذكر أبو تمام الشمس في أبيات وأجاد لفظًا ومعنى قال:
بيَّنَ البينُ فَقْدَها فَلَمَّا تَعْ ... رِفُ فَقْدًا للشمسِ حتى تَغَيَّبا
وقال:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ ... لدِيباجَتَيهِ فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
فإنّي رَأيتُ الشّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً ... إلى النّاسِ أنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ
وقال أيضًا:
حَطَّتْ بِتُربةِ الإسلامِ أرْحُلَها ... والشَّمْسُ قد نَفَضَتْ وَرْسًا على الأصْلِ
قال أبو القاسم: اعلم أن المعاني مطروحة نصب العين وتجاه الخواطر يعرفها نازلة الوبر وساكنة المدر والقرائح تشترك فيها، وإنما المعنى في سهولة مخرج اللفظ وكثرة الماء وجودة السبك. وأنا أنشدك أبياتًا معناها واحد إلا أن تفاوتها في اللفظ عظيم، قال الأعشى:
لعمري لقد لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاعٍ تَحَرَّقُ
تُشَبُّ لِمَقرورينِ يَصطَلِيانِها ... وباتَ على النَّارِ الندى والمُحَلِّقُ
وقال آخر:
له نارٌ تُشَبُّ بِكُلّ وادٍ ... إذا النيران أُلْبِسَتْ القِناعا
وقال آخر:
وقلت له أقْبِلْ فإنّك راشد ... وإنّ على النار الندى وابنَ ثامِل
وقال الحطيئة:
متى تأتِهِ تعشو إلى ضوءِ نارِهِ ... تجد خَيْرَ نار عندها خيْرُ مَوْقِدِ
والمعنى واحد والشعراء شركاء فيه إلا أن الحطيئة غيّر في وجوه الكل بجودة النظام وانبساط اللفظ.
وقال المتنبي:
إليك طعَنَّا في مدى كل صَفصَفٍ ... بكل وآةٍ كلُّ ما لقيَتْ نَحْرُ
قال أبو الفتح: أي سرنا على هذه الإبل فبلغنا من قطع الأرضين الواسعة ما تبلغه الطعنة إذا صادفت نحرًا أي فأغنينا كل الغناء.
قال أبو القاسم: الوآة تأنيث وأى، وأكثره نعت الخيل. قال الأسعر الجعفي:
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عَنَدٌ وأى
ومعنى البيت أنه أسرع بها السير في قطع المسافة فكانت كالطعنة في النحر وأراد بالنحر المنحور كالسكب بمعنى المسكوب. وقال في أخرى يصف فرسًا:
وأصْرَعُ أيَّ الوحشِ قَفَّيتُهُ بِهِ ... وَأنْزِلْ عنهُ مثلَهُ حينَ أركَبُ
وأول هذه القصيدة:
أطاعِنُ خَيلًا من فوارسها الدَّهْرُ ... وحيدًا وما قولي كذا وَمَعي الصَّبرْ
وقد عرب المتنبي بهذا النظام لأن المصراعين مختلفان في الجزالة والركاكة. وكذلك بيته الآخر:
أعلى الممالكِ ما يُبنى على الأسَلِ ... والطَّعْنُ عِنْدَ مُحبّيهنَّ كالقُبَلِ
وقال المتنبي:
يَقيدانِ في أحَدِ الهَوادِجِ مُقْلَةً ... رَحَلَتْ وكانَ لها فؤادي مَحْجِرا
قال أبو الفتح: أي لما فقدتها فكأني فقد قلبي ضياءه فبقيت ذاهلًا ساهيًا.
قال أبو القاسم: معنى هذا البيت أن هذه المرأة كان محلها قلبي تراه مقلة وجعل الفؤاد محجرًا لصنعة الشعر كما قال العلوي:
ظِباءً مكانِهُنَّ النُّفوسُ ... نوافرُ عن مقلة الرامقِ
وقال المتنبي:
وتَرى الفَضيلةَ لا تَرُدُّ فضيلةً ... الشمس تشرق والسحابَ كَنْهورا
قال أبو الفتح: أي إذا رأتك هذه المرأة رأت منك الفضيلة مقبولة غير مردودة كالشمس إذا كانت مشرقة والسحاب إذا كانت كنهورا وهي القطع من السحاب العظام تريد وضوح أمره وسعة جوده.
قال أبو القاسم: رواية أبي الفتح بضم التاء ولا يصح للبيت معنى على هذا وإنما الرواية الصحيحة التي قالها المتنبي لا ترد بفتح التاء. ومعنى البيت أن فضيلتك في علوم العرب لا ترد فضيلتك في علوم العجم لتناسب الفضائل كما أن الشمس تشرق في أفق من السماء والسحاب في أفق آخر. والكنهور ذكر أبو عبيد في الغريب المصنف أن الكنهور قطعة من السحاب منفردة في جانب من السماء ولم ينشد فيه شيئًا، وقد قال فيه الشماخ:
على أمّ بيضاءَ السَّلامُ مُضاعفًا ... عليهنّ وَلْتُسْقَ السّحابَ الكَنهورا
1 / 14