عن أنفسهم بصيد أو طرد أو مجون. وإنما شغلوا بشيء غير ذلك كله؛ شغلوا بتهيئة العذاب وجه النهار، وشغلوا بشهود العذاب وسط النهار، وشغلوا بالتحدث عن العذاب آخر النهار، ولكنهم لم يتحدثوا عنه وحدهم، وإنما تحدثت عنه قريش كلها، ولم تبق في مكة دار إلا ذكر فيها أمر ياسر وامرأته وابنه، وأمر صهيب، وأمر خباب، وأمر بلال. وكانت أحاديث قريش عما صب على هؤلاء الرهط من العذاب مختلفة أشد الاختلاف: فأما شيوخ قريش وذوو أحلامها، فكانوا يجدون في سيرة أبي جهل وأضرابه غلوا في الشر وإسرافا في القسوة، ولكنهم على ذلك كانوا يعللون أنفسهم بأن هذه الشدة قد تخوف محمدا وأصحابه وتردهم إلى شيء من القصد والأناة، وإلى أنها قد تردع
220
الرقيق والمستضعفين وتريهم ما ينتظر الذين يصبون منهم إلى محمد وأصحابه من البأس والضر والعذاب، فكانت ضمائرهم تنكر، وقلوبهم تسكت، وألسنتهم تعرف. وأما الشباب من قريش، فكان أكثرهم يرى في هذا البدع لونا مستحدثا من التسلية والتسرية والاشتغال عن النفس وعما تعودت أن تتلهى به من ألوان العبث والمجون، وفي غرائز الناس ميل إلى الشر، واستحباب للنكر، واستعذاب للعذاب حين يمس غيرهم ويدفعهم إلى فنون من الألم وضروب من الحركات التي يثيرها الألم، وإلى ألوان من الشكاة التي يبتعثها الألم.
وفي قلوب الشباب قسوة وخفة، وفي أحلامهم نزق وطيش.
221
فهم ينظرون إلى من يمتحن في بدنه، ويأتي من الحركة والقول ما يسليهم ويلهيهم، على أنه متاع لأبصارهم ونفوسهم، ولا يقدرون أن هذا العذاب يمكن أن يصب عليهم، وأن هذه الحركات والشكاة يمكن أن تصدر عنهم، فتضحك منهم قوما آخرين، ولو قد وضع الإنسان نفسه موضع الذين يصب عليهم العذاب لجنب الناس شرا كثيرا. فكان أولئك الشباب من قريش يتحدثون ببراعة أبي جهل فيما كان يخترع من ألوان الفتنة والمحنة راضين عنها معجبين بها، وكانوا يتحدثون عن احتمال أولئك الرهط للفتنة في أنفسهم بالجلد والصبر والأناة في كثير من الإعجاب، كما كانوا يتحدثون في عبث وسخرية بما كانت أجسام أولئك الرهط تأتي من الحركات حين يمسها العذاب.
قال الحارث بن هشام لابن أخيه عكرمة بن أبي جهل: ألم تر إلى سمية كيف كان جسمها يتلوى حين كانت السياط تلهبه بغير حساب، دون أن يفتر فمها عن صيحة أو أنة أو شهيق، وهي التي كنا نثيرها إلى الخوف أو نثير الخوف إليها بأيسر ما كنا نأتي من الحركات، نعبث بها ونسخر منها حين نراها تثور كأنما دفعت من الأرض بلولب خفي؟! قال عكرمة: لم أعجب لشيء كما عجبت لزوجها الشيخ الذي مزق جسمه بالسياط وحرق بالنار ليذكر الآلهة بخير، فلم يظفر منه أبي إلا بشتم الآلهة والاستهزاء بها.
أما ابنه عمار فقد سكت صوته، وسكن جسمه للعذاب، وارتسمت على ثغره ابتسامة حلوة مرة، ما أدري أكانت تصور الرضا أم كانت تصور الغيظ! ولكنها ارتسمت في نفسي أشد مما ارتسمت على ثغره، وما أرى أنها ستغيب عني آخر الدهر.
قال صفوان بن أمية: فكيف لو رأيتما بلالا، ذلك الحبشي والفتية من الأحرار والرقيق يتنازعون جسمه يأخذ كل منهم بطرف، كأنما كانوا يريدون أن يقتسموه بينهم، وهو في أثناء ذلك لا يئن ولا يشكو، وإنما يثني على محمد، ويذكر إلهه ذاك بالخير.
قال خالد بن الوليد: أما أنا فقد رأيت من صهيب عجبا، رأيت القوم يعذبونه بالنار وينوشونه
Shafi da ba'a sani ba