ترعد الحربة في يده، وهو خفيف الحركة موفور النشاط، يسعى هنا وهناك، يحرض هذا وذاك، وفريق من المسلمين يرقبونه ويتحدثون ببلائه، بعضهم يصحب جيش علي ولكنه لا يقاتل كخزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول لعمار: «تقتلك الفئة الباغية.» ورأى عمارا يقاتل مع علي فهو يرقب عمارا ليرى آخرته. وبعضهم مع معاوية يشهد الحرب ولا يشارك فيها، بلغته مقالة النبي في عمار فهو يرقب عمارا وينتظر آخرته، ومن هؤلاء هني مولى عمر بن الخطاب رحمه الله. في ذلك اليوم قاتل عمار وهو على رأس كتيبته حتى كانت العصر، فلما جعل الأصيل ينشر أشعته الشاحبة الحزينة على المقتتلين اشتد نشاط عمار وأخذه شيء يشبه أن يكون شغفا بالموت، فجعل يحث من حوله على القتال ويصيح: الجنة تحت أطراف العوالي. اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، وكان صائما. فلما وجبت الشمس قال: اسقوني. فجيء بشربة من لبن، فلما رآها ضحك وشرب، ثم قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «آخر زادك من الدنيا لبن حتى تموت.» ثم جعل يحرض الناس ويعيد مقالته: الجنة تحت أطراف العوالي، الظمآن يرد الماء، الماء مورود، اليوم ألقى الأحبة: محمدا وحزبه.
وقد انكشف أصحاب علي شيئا، فلم يوهن ذلك من نفس عمار، ولم يبلغ من يقينه شيئا، وإنما جعل يقول: والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنهم على ضلالة.
وكانت راية معاوية مع عمرو بن العاص، فجعل عمار ينظر إليها ويقول: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات وهذه الرابعة. وكانت راية علي مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان هاشم أعور، فكان عمار يحثه، يغلظ عليه مرة فيقول: تقدم يا أعور. ويرفق به مرة أخرى، فيقول: تقدم يا هاشم فداك أبي وأمي، وكان هاشم يقول له: رحمك الله يا عمار، إني إنما أزحف باللواء وأرجو أن يفتح الله علي ويبلغني ما أريد، وإن في العجلة الهلكة. فيقول له: تقدم فداك أبي وأمي. وما يزال به حتى يتقدم، فإذا رأى عمار صاحب الراية يتقدم بها صاح بمن حوله: من رائح إلى الله؟ من رائح إلى الجنة؟ ثم اندفع فقاتل حتى قتل.
وقد رأى خزيمة بن ثابت مصرع عمار، فقال: الآن استبانت لي الضلالة، ثم دخل فسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
وأما هني مولى عمر بن الخطاب، فقد عرف عمارا حين أسفر الصبح، فأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص وهو جالس على سريره ومن حوله نفر يتحدث إليهم، فقال هني: أبا عبد الله. قال عمرو: ما تشاء؟ قال هني: انظر أكلمك. فقام عمرو حتى خلا إليه.
Shafi da ba'a sani ba