قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد (النحل: 26)، والآية هنا تهدد أهل مكة ترهيبا، وتذكرهم أنه مهما بلغ مكرهم، فلن يطاولوا مكر السابقين من أصحاب الحضارات السامقة، وأولئك الذين بلغوا من العتو حدا قاموا يبنون معه برجا صاعدا إلى السماء، يبغون مناوأة رب السماء ومنافرته، فرد الله عليهم مكرهم، وأبطل كيدهم بأن هدم برجهم على رءوسهم من قواعده، والقصة ترويها كتب التفسير والأخبار عن محاولة صعود ملك هؤلاء القوم إلى السماء ليقتل إله النبي «إبراهيم». ولما لم يسعفه البرج لبعد سماء الرب عن المطاولة، هداه فكره إلى الصعود بأول مركبة فضائية في تاريخ البشرية، فمن قمة البرج، جلس في صندوق تحمله أربعة نسور أشداء. وقد عقب الله تعالى على تلك المحاولة بقوله:
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (إبراهيم: 46). ويشرح «الثعلبي» الآيات المبينة بقوله: إن الجبال قد سمعت خفقا شديدا قادما من السماء، فظنت أن أمرا جللا قد حدث في السماء، أو أن الساعة قد دنت وحان وقت القيامة، فكادت تزول أي تتزلزل فزعا وفرقا.
104
بينما كانت الحقيقة أنه كان مكر أو اختراع أولئك الكافرين، فكان الصوت المدوي هو صوت المركبة العائدة من مهمتها الاستطلاعية والقتالية. أما رائد الفضاء ذاك، فهو من سجلته لنا كتبنا التراثية كأحد أربعة ملوك حكموا الأرض كلها باسم «النمروذ بن كنعان»، وكانت عاصمته، أي عاصمة الأرض جميعا في ظل ملكه هي موطنه «بابل» بالعراق القديم. وللقصة تفاصيل مشوقة ومنمنمات مثيرة وأحداث مدهشة وعجيبة، وهي في مجملها عظة وعبرة ورعب للكافرين. أما نهايتها فسعادة غامرة للمؤمنين، لما فيها من تصوير للنهاية الفاجعة التي انتهى إليها الملك البابلي وأهله من الضالين.
الآن، وبعد وقت قضيناه مع الملكين المؤمنين: «سليمان بن داود»، و«ذي القرنين»، ومع ما جاء بشأنهما من كلم جليل بالقرآن الكريم، وما لحق الكلم من كلام الأحاديث والتفسير والأخبار والسير في تراثنا الثري بالراسب الثقافي للأمة، إضافة إلى ما عمدنا إليه - وفي العمد قصد - من سرد ما جاء بمقدسات أهل الكتاب حول الملك «سليمان» - ولم يأت فيها خبر عن «ذي القرنين» - بغرض معاينة أخبار الكتاب المقدس المعاينة النافية للجهالة، وبهدف الكشف عما بخبرهم من نكارة، وبغية هتك نكاراتهم التي لبست أردية إسلامية وتزاحمت بها مصادرنا التراثية وعجت؛ ومن ثم فلا بأس هنا، ونحن على موعد مع كافرين من العتاة، أن نستمر على دربنا واثقين، ونلتزم منهجنا غير هيابين، ولكن، لأن للنفس صبواتها الإيمانية، ولأنها تعاف الكفر، ومنه تنفر وتأف، فلا جناح إذن علينا إن قدمنا أمر الكافرين في عجالة نوجز فيها القول، وربما كان ثمة سبب آخر للإيجاز، يدفع إليه قسرا ندرة ما جاء بشأنهما في المصادر. مما جعل الاستفاضة إنشاء لم نعتده مع قارئنا، لكن ما يعزينا أنه ربما حسمنا بشأنهما أمرا، أو أفدنا القارئ من قصتهما خبرا، استجلاء لما في الخبر من عبر.
والكافر الأول «النمروذ بن كنعان» وإن تكبر وتجبر، فلا بأس في ضوء مركزيات الأمم السوالف، وفي ظل المنطق التراثي، لكن النكاية في خبر النمروذ أنه لما ملك الأرض كلها اغتر، وظن أنه لا ند له يدانيه، فتأله وادعى من الأمر ما لا يملك، وربما عذر الرجل عاذر، وهو يراه جالسا على عرش الكوكب الأرضي، ويلبس تاجا لا ينافسه آخر ولا يطاوله، لكن لو لم تأته البينة لكان العذر مقبولا، فقد أرسل إليه رب العالمين يعلمه بأمره، وبأن ملك الله أعظم، وأن النمروذ ليس في ملك الله إلا مخلوقا ضعيفا، وقد حمل الله تلك الرسالة لصفيه وخليله «إبراهيم عليه السلام»؛ ليعرف النمروذ أن هناك من هو أعظم، وأن يعترف له، بأن ينسحب من ميدان الألوهية ويسحب ادعاءه، وإلا أثبت له أيهما هو الرب حقا، وتروي آيات كتاب الله كيف واجه نبي الله «إبراهيم» ذلك الدعي وألزمه الحجة، وأفحمه بالبرهان المبين، بشجاعة تليق بخليل رب العالمين، وذلك في قوله تعالى:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة: 258).
ورغم أن الآية قد تحدثت عن الملك غفلا من أية تسمية أو تعريف، ولم يأت القرآن الكريم باسمه صريحا في أي من آياته، فإننا قد علمنا بأمره وتعرفنا اسمه من شروح المفسرين ورواة الأحاديث، فيشرح الحافظ «ابن كثير» شيخ طبقة المفسرين الآية بقوله: «يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله ، وبين كثرة جهله وقلة عقله، وألجمه الحجة وأوضح له طريق المحجة، قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل واسمه النمروذ بن كنعان ... وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا ... وذكروا أن النمروذ هذا قد استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغى وتجبر وآثر الحياة الدنيا.»
105
وأكد المعنى نفسه «نعمة الله الجزائري» في قوله: «إن النمروذ بن كنعان هو أول من تجبر وادعى الربوبية.»
Shafi da ba'a sani ba