وفي رأينا أن هذا الانقسام في المملكة الناشئة، والذي انتهى بانهيارها التام واندثارها، هو ناتج طبيعي، وإفراز منطقي، لمجموعة من الصراعات بين مجموعة من النقائض، تتمثل في أكثر من ثنائية داخل المملكة السليمانية.
ثنائية أولى يمثلها عنصران: العنصر الوطني من أهل المنطقة الأصليين، الذين كانوا يشكلون ممالك صغيرة في هيئة مدن متناثرة، قبل أن تندرج جميعا في المملكة العبرانية، والعنصر الثاني يمثله العبريون الوافدون، والذين شكلوا أمثل نماذج الاستعمار الاستيطاني. هذا إضافة إلى ما تركه العنف الذي صاحب إنشاء المملكة، وما تركه متأججا في صدور أهل البلاد، والذي دعا كاتبا إسلاميا كالدكتور «شلبي» للتعقيب عليه بقوله: «وكان عهد داود - بناء على ما جاء في العهد القديم - غارقا في دماء الضحايا، شديد القسوة.» وعقب عليه «ويلز » بقوله: «وقصة داود بما تحوي من قتل وسفك دماء واغتيالات متلاحقة، يأخذ بعضها برقاب بعض، أشبه بتاريخ أحد الرؤساء المتوحشين، منها بتاريخ ملك متمدن.»
12
وكلا الكاتبين إنما كان يعقب على ما ورد في سفر صموئيل الثاني، الذي يحكي قصة احتلال داود لمملكة عمون (المظنون أنها عمان الحالية)، فأخذ غنائمها وعلى رأسها تاج الملك، ثم قام بإبادة شاملة لكل العناصر الوطنية في المدينة المملكة، أو بنص الكتاب المقدس: «وأخرج الشعب الذي فيها، ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفئوس حديد، وأمرهم في أتون الآجر» (ص12).
وثنائية أخرى يمثلها طرفان: الطرف الأول: الأرستقراطية الحاكمة وما ينطوي في داخلها من رجال المؤسسة السياسية وإدارات الدولة، والطرف الثاني أرستقراطية كهنوتية عريقة قامت وتمكنت منذ أيام النبي «موسى»، ومثلها بيت «لاوي» أو «ليفي» من أسباط بني إسرائيل، حتى استطاع «سليمان» وأبوه «داود» ترويضها وتسييسها، بإخضاع الكاهن الأكبر «أبيثار» لسلطان الملك، وبسط حماية الدولة على الدين، وإلحاق بيت «ليفي» بإدارات الدولة، ليس كهيئة قبلية تقوم بأعمال الكهانة، وإنما بإذابتهم كموظفين تابعين في المؤسسة السياسية، لكن ذلك لم يكن يعني عدم استبطان القسمة القبلية الأولى، وتحفز بيت «ليفي» وترقبه الفرص للقفز على كرسي السلطة.
وكان تسييس الكهانة ناتجا عن تحول العبريين من حالة البداوة إلى حالة الاستقرار، في مناطق زراعية؛ مما حول بعضهم إلى العمل في فلاحة الأرض، والتوحد في كيان مركزي واحد، ربما مهد مع طول الوقت وبالتدرج الطبيعي لنضوج الأوضاع الاجتماعية، إلى تفجير الأطر القبلية، لإقامة المشاريع الكبرى التي تفرضها طبيعة الحياة في بيئة زراعية، لكن مشاريع «سليمان» لم تكن ناتج علاقة طبيعية بالأرض وطبيعتها، ولا ناتج إفراز تلقائي تطوري، كما كان في مصر والرافدين، وهو ما حدث لصالح الاستخدام الأمثل والموحد للطاقات البشرية في تلك الحضارات القديمة؛ لتنظيم الزراعة والسيطرة على المياه وإقامة المشاريع الضخمة ، حيث كانت الأنهار الكبرى (النيل، دجلة، الفرات) وما تكونه من شبكات مائية متعددة الروافد والترع والقنوات، يصعب أحيانا السيطرة عليها وقت الفيضان، بحاجة إلى توحد الشعوب لترويض هذه المياه الهائلة؛ مما أدى لإفراز تلقائي لإمبراطوريات كبرى تتمركز في قوى موحدة ومركزية سياسية، تضم ملايين الرجال للأعمال الكبرى، بينما كانت أرض فلسطين طوال تاريخها على عكس جارتيها تماما؛ ولهذا السبب لم تشهد سوى الدويلات، أو المدن الدول أو المدن الممالك، وذلك لاختلاف بيئة فلسطين الطبيعية، عن البيئة في مصر والعراق، واعتمادها في مجال الفلاحة على الأمطار والنهير (قياسا على أنهار مصر والعراق)، بينما شكل الرعي العمل الأساسي إلى جانب التجارة؛ ومن ثم كان قيام المملكة السليمانية بتفجير الأطر القبلية، ليس استجابة لحاجات طبيعية وإفرازا لمسار تاريخي وتطوري طويل، قدر ما كان استجابة لحاجات شخصية وعنصرية، بشكل قسري ومفروض من أعلى، لإقامة مشروعات ليس للناس فيها ناقة ولا جمل، كالقصور الفارهة مباهاة ومضاهاة للفراعين، وملوك آشور وبابل، ولإقامة هيكل ديني خاص بالقبيلة العبرانية؛ ليمثل الشكل الديني للدولة، ويميز القبيلة القابضة على أعنة السلطان.
هذا بالطبع مع ثنائية أخرى أساسية، ثنائية يهودية يهودية، تمثلها قبائل عبرية دخلت مصر وخرجت متأثرة بعبادات المصريين وأنظمتهم وعاداتهم، وقبائل عبرية أخرى ظلت تحتفظ ببداوتها على الحدود السينائية، حيث قام النبي موسى (عليه السلام) بإجراء عملية المزج بينهما في قادش، لكن الواضح أنه لم يكن صهرا للقبائل أبدا، قدر ما كان نوعا من الائتلاف الكونفدرالي، الذي سرعان ما أبرزت تناقضاته مستجدات الأحداث في المملكة السليمانية، وانتهى بانقسام صنفي القبائل ما بين شمال وجنوب، أو بين إسرائيل ويهوذا.
ونتيجة لقيام المملكة السليمانية على أنقاض المدن الممالك، وتفجيرها القسري للأطر القبلية، نشأت ثنائية أخرى لم تكن تعرفها البلدان الفلسطينية وممالكها الصغيرة؛ إذ لم تكن هناك هوة كبرى تفصل أفراد المجتمع عن السلطات، بينما بات واضحا أن المملكة السليمانية قد أنشأت هوة هائلة بين القبيلة العبرية في جانب، وباقي شعوب المنطقة الأصليين في جانب آخر، والذين تهاوت مدنهم، وأجبروا على الانضواء تحت سلطان الدولة. ثم كانت الأعمال الإنشائية عاملا آخر سبب ثنائية جديدة، مثلها على الطرف الأرستقراطي الطبقة الحاكمة وموظفوها وكهانتها الرسمية وإداريوها وملاكها، ومثلها على الطرف الآخر العبيد والمعدمون، سواء أكانوا عبرانيين أم كنعانيين مواطنين، حيث جمعهم معا شقاء تنطق به آيات الكتاب المقدس التي تقول في سفر الملوك الأول: «وسخر سليمان الملك من جميع إسرائيل، وكانت السخر ثلاثين ألف رجل.» و«جميع الشعب الباقين من الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ... الذين لم يقدر بنو إسرائيل أن يحرموهم (اصطلاح يحرم في التوراة أي يبيد)، جعل عليهم سليمان تسخير عبيد» (ص5، 9). وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور طبقة من رجال الدين غير الرسميين، ومثلهم الدراويش والأنبياء الشعبيون، الذين أسهموا بما هو أكثر من العون والمساعدة لإسقاط النظام القائم، بل والعمل على تدمير المملكة، واستعداء الإمبراطوريات الكبرى عليها، وهو ما نجده مثلا عند أنبياء مثل «عاموس» و«ميخا»، ومن بعده بشكل سافر عند «إشعياء» و«دانيال» و«أرميا» في مرحلتي السقوط والأسر.
وهكذا أدت الأوضاع إلى ظهور ثنائية أخرى تمثلت في رجال المؤسسة الدينية العاملة في جهاز الدولة الحاكم في جانب، ورجال الدين الشعبيين الذين شكلوا كوكبة الأنبياء الأساسيين في الكتاب المقدس في جانب آخر؛ مما أدى إلى تكون أيديولوجيتين مختلفتين تماما، متصارعتين حتى نهاية الدولة.
وساعد على تفاقم الصراع بين الأيديولوجيتين ثنائية صراعية، نتجت عن طبيعة البنية الاجتماعية التي شكلها هجين من شعوب زراعية أساسا، وشعب بدوي يمثله العبرانيون، مع بعض القبائل الرعوية الأخرى في المنطقة، وهي الثنائية المرتبطة أساسا بطبيعة أسلوب الإنتاج الزراعي لشعوب المنطقة، الذين اعتمدوا نوعا من الحرية المطلقة على المستوى الديني، بحيث تعددت الأرباب تعددا هائلا، وهو ما استدعاه نظام الفلاحة ومواسمه المتعددة. فكان هناك «بعل» رب المطر، و«عنات» ربة الأرض، و«مولك» رب الخصب، و«موت» رب الجفاف، و«إيل» أبو الأرباب، مع عدد كبير من الآلهة المتعلقة بالزرع والخصب كإله الفأس وإلهة الماشية وإله الحنطة ... إلخ، ويرتبط هذا التعدد بتباين التكوين الاجتماعي؛ مما أدى دوما للسماح بهذه الحريات السماوية وطقوسها المرتبطة بمواسم الزرع، بينما ظلت البداوة على الجانب الآخر تستبطن قبيلتها ومعبودها القبلي الواحد، ممثلا في سلف القبيلة وسيدها، وما يتضمنه ذلك من أن أنفة البدوي من الانقياد لدولة موحدة، ورفضه أن يحكم من خارج قبيلته ونسبه؛ ومن ثم، وحتى يتم قهر الحريات الأرضية، سمح بالحريات السماوية، فقرر الكتاب المقدس في السفر المذكور: «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورت إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين ... بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين ... ولمولك رجس بني عمون ... فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل» (ص11).
Shafi da ba'a sani ba