15 «من ألواح سومر».
16
أما نحن، فما نقصده حقيقة، ونصر عليه، هو أن هذه المآثر التي جمعها علماء أجلاء وقارنوها «وعدوها قد دخلت التوراة بالصدفة، أو بالتأثر الطبيعي لجماعة بلا حضارة بالحضارات الكبرى في مصر والرافدين» لم تدخل التوراة بالصدفة وحدها، ولا بالتأثير المنطقي الذي يصب الأعلى في الأسفل، إنما ما نراه، ونحاول إيضاحه في هذه الدراسة، وهو وجود العمد والقصد من أهل التوراة، ليس لمجرد الفائدة العلمية والحضارية، بل لتحقيق أغراض ومقاصد عظمى، ستتضح في حينه. (4) تأسيس 3
إذن، فقد تسلل بنو عابر إلى الممالك الكنعانية تدريجيا وعلى دفعات، ويتضح ذلك في قصة التوراة عن هبوط النبي «إبراهيم» ضيفا على مملكة شاليم، التي كانت قائمة قبل زمنه بزمان، وكان يحكمها كاهن ملك هو «ملكي صادق»، أو «الملك صادق»؛ مما يشير إلى أن ممالك الكنعان كانت تعيش مرحلة المشترك المعبدي حتى هذا الوقت.
وقد ظل هؤلاء الأغراب من العبريين يعيشون زمنا طويلا على هامش الحياة الكنعانية المستقرة، وتكلموا لغة أهل البلاد «الكنعانية»، وعبدوا الآلهة الكنعانية، لكن الفرصة الحقيقية للسيطرة الكاملة على الأرض، أو التحول على الأقل إلى مواطنين من الدرجة الأولى، لم تتح لهم طوال هذه الحقبة، وظلوا مجرد عصابات مأجورة لملوك كنعان، حتى جد جديد تمثل في جدب حل بأرض كنعان، دفع بالعصابات العبرية إلى هبوط أرض مصر يستجدون القوت، في عهد النبي «يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»، برفقة أبنائه المعروفين بالأسباط، وعلى رأسهم النبي «يوسف»، إذ نالوا هناك - فيما تزعم التوراة - حظوظا عظيمة، انتهت بهم وزراء لخزانة المصريين، برغم أنه لم يوجد نص مصري واحد فيما اكتشف حتى الآن يشير إلى هذا المعنى. وقد وصلوا إلى هذه الرتبة بعد صداقة عقدها «يوسف» النبي مع الفرعون المصري، عندما أبهرت الفرعون قدرة يوسف على تفسير الأحلام والتبصير وقراءة الطالع، إلا أنه ما إن انقضى زمن الفرعون الحلوم، حتى ضاق بهم حلم الفرعون الجديد، وقلب حظوظهم رأسا على عقب، فأمر باستخدامهم كعمالة رخيصة في الأعمال الشاقة، ودخل بنو عابر عهد مذلة مريرة تستشعر مرارتها في كل سفر من أسفار التوراة، مصحوبة باللعنات المرتجاة استنزالا على المصريين من رب العالمين. ومرة أخرى تحين الفرصة لبني عابر فتطرأ في مصر الفتن الداخلية، التي تشغلها وتصرفها عن القبيلة الهامشية، وعن شئون إمبراطوريتها في الخارج؛ مما يخفف من هيمنتها بعض الشيء على مستعمراتها الآسيوية، في وقت انشغل فيه أهل الرافدين في صراعات انقسمت فيها البلاد على نفسها؛ مما يعطي الضوء الأخضر لبني عابر للهروب من مصر إلى كنعان مرة أخرى. وفي رحلة الخروج، أو الهروب، وفي ضوء انشغال اليد العليا عنهم بشواغلها الخاصة في الداخل، يسجل اليهود في توراتهم أبشع صور الوحشية، فيأتون على كل ما يقابلهم في الطريق ذبحا وتحريقا. ولم يسلم من أذاهم لا الإنسان ولا الحيوان، ولا حتى نبات الأرض، بعد أن قررته لهم الشريعة الربانية وأباحته بإباحية مطلقة، وأسفر الرب العبراني آنذاك عن هويته بوضوح، فأعلن أنه من الآن «الرب رجل حرب» (خروج، 15: 3)، وأن رائحة دخان المحروقات أحب المشهيات إلى نفسه الملتاثة «وقود، رائحة سرور للرب»، متكررات في سفر اللاويين، إصحاح 1، 9، 13، 17 ... إلخ. ولم يكتف بذلك، بل قرر أن يمارس لذة الذبح والإحراق بنفسه، فترك عرشه السماوي وهبط يتخبط كرها وفظاظة ليمارس رغباته «وأجعل مسكني في وسطكم، وأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعبا» (لاويين، 16: 11)، وأخذ ينفث أوامره المتكررة: «أحرقوا جميع مدنهم، بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار» (عدد، 31: 10) «اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة» (عدد، 31: 17) «احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (تثنية، 12: 31)
فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها، مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها، كاملة للرب إلهك. (تثنية، 13: 15، 16)
أما شريعة الحرب، وفق الخطة المثلى، التي كتبها رب اليهود بإصبعه على الألواح، والتي نفذها «يشوع» خليفة «موسى» على القيادة، بدقة وإخلاص تحسده عليهما الضواري من كواسر الوحش، فهي مرصودة في أوامر الرب وتوجيهاته.
حيث تقترب من مدينة لكي تحاربها، فاستدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك! «وما أشبه الليلة بالبارحة»، وإن لم تسالمك وعملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك، التي أعطاها الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست من هؤلاء الأمم هنا.
أما مدن كنعان الفلسطينية، فلها في موعظة الرب الحسنة شرعة أخرى، فهو يأمر قائلا: «وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منها نسمة ما» (تثنية، 20: 10-16).
وهكذا وجد بنو عابر فرصتهم للتعبير عن طبائعهم وسليقتهم المفطورة بصدق نادر المثال، مدهش. وقد أكد صدق هذه المفاخر التوراتية ذلك الحجر الذي اكتشف أخيرا في «نوميديا» ضمن آثار «قرطاجة» القديمة، شمال أفريقيا، وعليه كتابة تقول: «إننا خرجنا من ديارنا لننجو بأنفسنا من قاطع الطريق يشوع بن نون، بعد أن قتل منا في عشية واحدة عشرة آلاف إنسان.»
Shafi da ba'a sani ba